إخوان مصر.. الخروج من قمقم الذاكرة التاريخية

كتاب مصري يبحث في تاريخهم ونشأتهم وصعودهم السياسي المباغت

TT

في كتابه «الاخوان المسلمون في مصر، شيخوخة تصارع الزمن» يحاول الباحث المصري خليل العناني الاقتراب من جماعة الاخوان المسلمين كظاهرة اجتماعية معولا في ذلك على مناهج سوسيولوجية تعوض بعضا من النقص الحاد في دراسات الحركات الإسلامية.

ويثير الكتاب الكثير من التساؤلات أكثر مما يقدم إجابات حاسمة بالرغم من طرافة التعويل على المنهج السوسيولوجي في ما يتعلق بالنظر إلى الجماعة كظاهرة اجتماعية.

سعى الباحث في مجمل كتابه إلى الكشف عن آليات التجنيد والاستقطاب داخل الجماعة من جهة، والتعرف على الدوائر المختلفة بالجماعة وتدرجها إلى جانب الكشف عن طبيعة المناهج التربوية التي تعتمدها في تنشئة قواعدها في مرحلتي الطفولة/البراعم والشباب وما بعدهما (الكوادر القيادية) من جهة ثانية، معتمدا على الكتابات والأبحاث النظرية إضافة إلى نهجه أسلوب المقابلات الميدانية مع من يسميهم «قواعد الاخوان» من كوادر الجماعة وقيادييها.

وبرأي الباحث، فإن صعود الاخوان السياسي المفاجئ في 2005 أشبه ما يكون بإخراجها من «قمقم» الذاكرة التاريخية ونفخ الروح فيها مرة أخرى. وهو ما يبدو جليا من خلال تجليات عدة: منها ما يرتبط بالمخيال السياسي للمصريين وقدرته على خلق بدائله. ومنها ما يرتبط بطبيعة المكون الديني-السياسي المهيمن على قطاع واسع من جمهور الناخبين. ومنها ما يتعلق بحالة الانفصام السلوكي لدى المصريين من حيث ممارستهم للطقوس الدينية وعدم اكتراثهم بالطقوس/المشاركة السياسية. ومنها أيضا ما يبحث في الدور الوظيفي الذي يمكن أن يؤديه الدين في إنجاز التحول السياسي.

وعلى ضوء ذلك فإن المنطلق الرئيس الذي يحاول المؤلف الارتكاز إليه والانطلاق منه على حد سواء يتجلى في تركيزه على دراسة من يسميهم «قواعد الاخوان» على عكس ما هو سائد من تركيز الباحثين على ممثلي هرم السلطة من القيادات. ذلك أن المعلومات المتاحة عن الاخوان، إما أن يكون مصدرها مكتب الإرشاد، أو الكتابات التي تتناولهم وفق منظور سياسي أيديولوجي محض، وبين هذا وذاك عشرات الكتابات التي تتراوح بين كلا التيارين. فكيف يفكر الشخص العادي ممن ينتمي لقواعد الاخوان؟ وما الذي يحكم عملية تفكيره ومنظومة انتماءاته السياسية والدينية معا؟ وما موقعه من تراتبية الهرم السلطوي لدى الجماعة؟ وكيف ينظر إلى فكرة الحزب وموقعه من الجماعة ككل؟... إلخ. بحسب المؤلف، فإنه منذ آخر دراسة ميدانية قام بها ريتشارد ميتشيل عن الجماعة ونشرت في منتصف الستينات من القرن الماضي، لم يقم أي باحث بدراسة ميدانية حول الجماعة. وفي السياق ذاته، تسير منهجية العناني في إطارها الميداني، مع ادانته معظم الاقترابات النظرية، وتأكيده فشلها في التعامل الجدي مع التيارات والحركات الإحيائية.

وفي نظره للجماعة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، يعول الباحث على تعريف مؤسسها لها بأنها «فكرة جامعة تضم كل المعاني الإصلاحية، فهي دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية». لينطلق من الجملة الأخيرة نحو البحث عن المعنى الاجتماعي القار والمسكوت عنه في الحركة ذاتها وليس بحسب ما قيل عنها.

وفي الواقع، يحسب للباحث خوضه غمار هذا المجهول «القواعد من الاخوان» ومحاولة استكشاف طبيعة تنشئتهم الروحية والسياسية بصفة خاصة وموقفهم من التيارات الأخرى ومستواهم العلمي والاقتصادي وما إلى ذلك، حيث تعرض من خلال مسامراته معهم لعشرات الإشكاليات الحائرة فحاورهم، وحاججهم، واستدرجهم فأوقعوا به تارة، وأوقع بهم تارة أخرى، وفي كل أولئك يعترف الباحث بأن هؤلاء القواعد، ممن يستهان بهم ولا يلتفت عادة إليهم وبالرغم مما يبدو لأول وهلة من بساطتهم حسب ما تقتضيه طبيعة مؤهلاتهم وطبقتهم، إلا أن مجاهيلهم عميقة، ودروبهم عويصة، وفي ذلك يكمن سر بقاء الجماعة لنحو ثمانين عاما حسبما يؤكد العناني.

ومن هنا تبدو قيمة الكشف الميداني لطبيعة وتوجهات هذه القواعد، ذلك أن البحث في كيفية إفادة حركة دينية أو اجتماعية ما، على غرار جماعة الاخوان، من طبيعة الفضاء السوسيولوجي السائد في مصر، يعني في الأساس التعرف على طبيعة التحولات التي حدثت في هذا الفضاء كلية من جهة، والعوامل التي أنتجت واقعا حياتيا مغايرا عظّم من مكاسب الجماعة وموقعها من جهة ثانية. وعلى رأس هذه العوامل يذكر الباحث: انفصال المجتمع عن الدولة والبادي في حالة الهزال والضعف في مصر، مع عدم إدراك كلا الطرفين (المجتمع والدولة) مدى التغيير الذي مس تلك التراتبية بينهما.

يمكن القول إن الالتباس المفترض بين الإسلام والديمقراطية ناشئ في الأساس عن سوء فهم رؤية الإسلاميين للنظام السياسي وركائز مشروعه لإقامة المجتمع وعمارة الدنيا. وجماعة الاخوان برأي العناني مثل عموم الإسلاميين، تبدو علاقتهم بالديمقراطية ملتبسة في مجملها. وبحسب الباحث، فإن الجماعة في مصر لا تزال تقف على أول الطريق فيما يخص التعاطي مع الديمقراطية من إشكالات وقضايا شائكة، في الوقت الذي قطعت فيه الأطراف التي تنتمي لمدرسة الاخوان خارج مصر شوطا كبيرا في الوصول إلى صيغة أكثر تقدما في هذا السياق. وذلك بسبب الاقتراب القسري الذي دُفعت إليه الجماعة لتقبل بالديمقراطية، ومن ثمة فليست الديمقراطية بمنطق الجماعة مطلبا داخليا أو واقعيا، ولعل هذا ما يفسر عدم دخول الجماعة في كليات الديمقراطية، كقيمة وفلسفة، وتمسكهم فقط ببعض مظاهرها كالحق في التصويت والتعددية السياسية.

ومع أن الباحث أكد في هذا السياق أن مشكلة الجماعة مع الديمقراطية تنبع أساسا من التعاطي معها باعتبارها تحديا خارجيا مفروضا عليها وليست مطلبا داخليا أو واقعيا يفترض التعاطي معه بجدية ومسؤولية، إلا أننا نعتقد أن ثمة عوامل أخرى ساهمت في اتخاذها هذا الموقف ولم يذكرها المؤلف وعلى رأسها الانقسامات الداخلية لدى الجماعة وحسمها لصالح بعض المتشددين داخلها، ناهيك عن وقوعهم في الأساس ضحية بعض الممارسات العنصرية والتميزية التي تمارس ضدهم باسم الديمقراطية، كبعض مواد التعديلات الدستورية الأخيرة على سبيل المثال!.

وفي بحثه مفهوم المرجعية الإسلامية الذي تعول عليه الجماعة كثيرا إن في أدبياتها أو في معالجاتها السياسية، يؤكد المؤلف أن المرجعية لا تمثل، كما يفهم البعض، ميزة أو أداة أو شعارا فضفاضا بقدر ما أنها عبارة عن مسؤولية ثقيلة (رسالة) يجب التفكير بها بجدية، والتعاطي معها بمسؤولية؛ باعتبار أن أي فشل سيوجه للمرجعية وعدم القدرة على ترجمتها عبر منظومة من القيم والأنساق الفكرية، سيمثل طعنا في الأساس موجها للجماعة برمتها.

وفي هذا الإطار يعرض لأهم الإشكالات التي تعترض طريق الجماعة لتدشين حزبهم السياسي: فمنها ما يتعلق بالنواحي الإجرائية، كالشكل النهائي الذي ستكون عليه الجماعة حال حصولها على موافقة بتأسيس حزبها. ومنها ما يتعلق بالنواحي التنظيمية، كقدرة الجماعة على دفع فاتورة تحولها نحو الحزب السياسي. ومنها ما يتعلق بالنواحي القيمية، كمدى قدرتها على إعادة تأسيس ذاتها وفق أسس حزبية مدنية مغايرة لما درجت عليه الجماعة طوال تاريخها...إلخ.

وضمن هذا السياق، ثمة سيناريوهات عديدة قد تتبنى الجماعة واحدة منها أتى المؤلف على ذكرها في معرض بحثه الاشكالات المتعلقة بالنواحي الإجرائية وهي أولا:أن تتحول الجماعة كلية إلى الحزب السياسي! ولكن مع وجود جمعية أهلية تمارس دورا اجتماعيا واقتصاديا دون أن ترتبط بأدنى علاقة مع الحزب السياسي. ثانيا:أن يظل الحزب جزءا لا يتجزأ من الجماعة ولو مؤقتا، إلى أن تتحقق حياة ديمقراطية ومناخ سياسي سليم قائم على التعددية الحزبية في مصر، بحيث تضمن الجماعة عدم خطر أو تفكيك كيانها الحزبي، ومن ثم تتحول حينئذ نحو الحزب السياسي. ثالثا: أن يظل الحزب جزءا من الجماعة بشكل دائم، لكن هذا السيناريو يطرح في المقابل تساؤلات عدة حول الصفة الرسمية للجماعة وكيفية اشتراك الأقباط بعضوية الحزب في ظل اشتراط أو وجود المعيار الديني ...الخ.

وفي سبيل حل هذه الإشكاليات يطرح المؤلف حله الخاص، الذي يتمثل في أن تمر الجماعة بمرحلة انتقالية يمكن بعدها تغيير البنى الفكرية والتنظيمية والهيكلية بحيث يصبح أعضاء حزبها السياسي مؤهلين للانخراط فيه وفق أسس مدنية وليست دينية. وأقل ما يقال عن هذا الاقتراح أنه غير واقعي بالمرة ولعل هذا ما دفع المؤلف نفسه لأن يقول مرة أخرى إن هذه الصيغة المقترحة لن تنجح إلا إذا ما حدثت انفراجة ديمقراطية حقيقية ووجود ضمانات دستورية تسمح للجميع بالمشاركة في الحياة السياسية. ويبدو في كل الأحوال أن مثل هذه الانفراجة متعذرة للغاية، على الأقل فيما يتعلق بسياسة النظام مع جماعة الاخوان تحديدا!

في القسم الأول من الكتاب أكد العناني فرادة طرحه ومغايرة رؤيته للجماعة عن كافة الكتابات السابقة! معللا ذلك بتعويله لأول مرة في حدود ما يعلم، وهو أمر غير صحيح، على استخدام المناهج السوسيولوجية لرصد وتحليل ظاهرة جماعة الاخوان في مصر. وفي الواقع هناك العديد من الدراسات الأجنبية التي عالجت الاخوان كظاهرة إما استنادا للمنهج الظاهراتي الفينومولوجي، أو استنادا للمنهج السوسيولوجي.

كما أن التعويل على المنهج الاجتماعي فقط ربما يفقد الباحث فوائد تتعلق بمناهج علمية أكثر قدرة على التعامل مع هذه الظاهرة. وفي كلٍ، ما زلت أعتقد أن المنهج البنيوي أكثر إفادة في دراسة الحركات الدينية عامة لأنه يكشف عن حدود بناء السلطة داخل أي حركة محل الدراسة وهو أمر كفيل بحد ذاته لاستجلاء المناطق الرمادية الأخرى، بالإضافة إلى إن عنوان الكتاب يثير سيلا من التساؤلات حول عدم تخلص الباحث من النزعة الإطلاقية والأحكام المتعجلة، مما دفع د. محمد سليم العوا، في تقديمه للكتاب، إلى القول بأن الرسالة النهائية التي يخلص إليها إنما تتمثل في وصف الباحث جماعة الاخوان المصرية بأنها عجوز على مفترق طرق في تاريخها النضالي وأنه ليس أمامها:إما القيام طوعا بثورة إصلاحية داخلية تخلصها من عيوبها التاريخية. وإما أن تتعرض لنوع من الانفجار الداخلي ربما يكون بداية الاندثار للطبيعة الكلاسيكية للجماعة، بما يمهد الأرض لبروز تيار إسلامي جديد ينعم بالجدة والحيوية.

ومثل هذا الحكم النهائي، وكما لاحظ العوا بحق، يتعارض وما ذكره المؤلف نفسه في الفصل الثاني من أن الجماعة نجحت في تطوير خطابها السياسي بأنساقه المختلفة وأساليب عملها الميداني، كي تتماشى مع طبيعة التحولات التي حدثت في مصر في السنوات الأخيرة!!.

كما أن الباحث نفسه أشار إلى استحالة اندثار الجماعة «طالما كانت هناك حياة على كوكب الأرض» على حد قوله، وإن كان ذلك حكما إطلاقيا هو الآخر!!. وبالمثل، أكد ضياء رشوان، في تقديمه أيضا للكتاب، اختلافه مع ما أبرزه الباحث في عنوان الكتاب نفسه من أن حال الجماعة يشبه عجوزا يكافح من أجل البقاء وأنه يحمل حكما متعجلا بعض الشيء.

وهو ما يجسده الكتاب في فصله الثاني، حيث ينحو نحو تشخيص الحالة الاخوانية في مصر متوسما إياها في صورة شيخ عجوز يقف على الثمانين من عمره، ويسعى جاهدا للحفاظ على حيويته، وجسد كبير مترهل، يعاني غيبوبة فكرية وعقلية معا، لا تقوى على إدراك التغيرات التي حدثت، وتقف على مفترق طرق في تاريخها النضالي. كما لو أن المؤلف استقى صورتها هذه من شخص مرشدها العام! ولو أن مثل هذا الوصف قد يصح فيما يتعلق بالجانب الفكري التنظيري للجماعة، إلا أنه لا يصح مطلقا فيما يتعلق بالجانب الحركي لها وآية ذلك ما ذكره المؤلف نفسه من نجاعة الآليات التي أدرات بها الجماعة معركتها الانتخابية.