تحلم بتغيير مجتمعك.. شارك في «مسرح المقهور» !

من الهند وصولا إلى فرنسا والبرازيل

> فرق لا يعنيها الربح التجاري بقدر ما يهمها أن تجعل من المسرح وسيلة فعالة لمحاربة الظلم الذي تعاني منه بعض الفئات
TT

نوع آخر من الفن الثامن ينتشر وتتمدد جغرافيته من أميركا اللاتينية مروراً بأوروبا وفلسطين، وصولاً إلى الهند. ليس مسرحاً بالمعنى الفرجوي، بقدر ما هو مسرح يشارك في صنعه الجمهور ويتدخل ليغير أحداث حكاياته. «مسرح المقهورين» أو «مسرح المضطهدين» لا فرق، مهمته تحريض الناس ومساعدتهم على ايجاد حلول لمشاكلهم ووسائل يردون بها ضيم المستبدين بهم. خطر يتحاشاه السياسيون؟ هذا أكيد. لكنه ينتشر كالنار في الهشيم...

المجتمعات العصرية وإن كانت تتمتع بالرفاهية الاقتصادية وقدر كبير من الحريات، إلا أنها لا تخلو من مشاكل تهدد أركانها بالانهيار: معدلات عالية للانتحار والكآبة، انتشار العنف والتفكك الأسري، طغيان النزعة الفردية، التمييز العنصري، التحرش المهني، وغيرها من مظاهر سلبية أدت إلى ظهور نشاط مسرحي هادف، يعالج في محتواه هذه المواضيع. وقد تجّسد ذلك في انتشار ورشات وعروض لمسرح المقهورين هنا وهناك، تعطي الكلمة للفئات المستضعفة لتتعلم كيف تجابه مشاكلها على خشبة المسرح في انتظار تجسيدها على أرض الواقع. مسرحية «المغلفين» التي تنظمها فرقة «لن نفقد الأمل» بالتعاون مع اللجنة الثقافية والاجتماعية للشركة الفرنسية للاتصالات France télécom تتناول مثلاً مشكلة الضغط النفسي الكبير الذي أصبح يعيشه عمال هذه الشركة الفرنسية بعد انتشار أخبار التسريحات المنتظرة لـ400 عامل سنة 2008. الجمهور الذي حضر العرض هو من موظفي الشركة نفسها، أغلبهم معنيون بقرار التسريح، جلسوا يتفرجون على المسرحية بصيغتيها. الساعة الأولى عبارة عن عرض مقترح من طرف الممثلين: مواقف مستوحاة من واقع هؤلاء الموظفين الذين يدفعون عنوة إلى الاستقالة عن طريق اللجوء لكل أنواع الضغوطات النفسية. أما في الساعة الثانية فيدعى الموظفون المتفرجون إلى المشاركة في أحداث المسرحية، لتغيير موقف ما لم يعجبهم من الممثلين. العرض الثاني تنشطه شخصية محورية هي «الجوكر» الذي يلعب دور الوسيط بين ما يحدث على الخشبة والجمهور، وهو الذي يتولى اختيار المتفرج الذي يصعد إلى المنصة لإعادة تمثيل موقف ما ولكن حسب تصوره الشخصي. فها هو «جان ميشال» الموظف بقسم الصيانة يُلوح للجوكر بالتدخل لتغيير مشهد الممثل الذي انتهى به المطاف إلى تسليم استقالته للمدير المسّتبد. صعد جان ميشال إلى المنصة بخجل، وراح يجيب عن تحرشات المدير بتدخلات سرعان ما تصاعدت وتيرتها معبّرة عن تقمص الموظف للدور الذي يعيشه في الحياة. التجربة كانت إيجابية بالنسبة للعمال الذين تجاذبوا أطراف الحديث بعد إسدال الستار وأكدوا أنهم تعلموا الكثير، وأولها كيف يتحدثون عن مخاوفهم بجرأة ويكسرون العزلة، وتنبهوا إلى أن مساندة بعضهم بعضاً ضروري لمواجهة الضغوطات الممارسة عليهم من طرف مديريهم. فرقة «لن نفقد الأمل» ليست الوحيدة التي ترعى مثل هذه العروض المسرحية الهادفة، فهناك فرق كثيرة أهمها فرقة «تي أوب: تيارت أون في» T’OP théâtre – En Vie وفرقة اوغوستو بوآل وأكثر من عشرين فرقة أخرى منتشرة في ربوع التراب الفرنسي، لا يعنيها الربح التجاري بقدر ما يهمها أن تجعل من هذا النشاط الثقافي وسيلة فعالة لمحاربة الظلم الذي تعاني منه بعض الفئات. تقول فابيان بروجيل، مديرة فرقة «لن نفقد الأمل»: «لا تنتظر من المتفرج أن يكون كالممثل المحترف، بل تريده تلقائيا كما هو في الحياة، متحررًا من مخاوفه، كما أنها تحرص دائماً على التدخل لإنهاء المشاهد الصعبة أو المحرجة لكي تبقى تجربة هذه المشاركة ممتعة بالنسبة للشخص الذي خاضها». وتضيف: «نحن لا نهدف للربح المادي حتى أن الوضع القانوني لفرقتنا يدخل ضمن إطار الجمعيات الثقافية ذات الصالح العام، ولا نعمل إلا بالتعاون مع هيئات معينة وبطلب منها. فيحدث أن نعمل مع النقابات العمالية واللجان الثقافية للشركات، فيكون الجمهور المستهدف شريحة مهنية معينة، أو أن نتعاون مع مؤسسات حكومية او خاصة تهتم بشرائح اجتماعية معينة كالأقسام الثقافية للدوائر البلدية، المؤسسات التربوية، السجون، مراكز تأهيل المعوقين. نتطرق لمشاكل صعبة ولكن حقيقية كالتمييز العنصري، البطالة، نظرة المجتمع للمعاق، تعنيف النساء. ونحاول بأسلوب ترفيهي وجاد أن نقترح لها بشكل جماعي مخارج مختلفة. والهدف أن يستوعب المتفرج المعني بالمشكلة أن بإمكانه تغيير الأوضاع في حياته اليومية كما يفعل على خشبة المسرح، ويخرج من العرض بشعور إيجابي مفاده أن ما يعيشه ليس قدراً محتوماً.

قبل أن يصل إلى أوروبا، عرف مسرح المقهور ولادته في البرازيل على يد الممثل المسرحي الملتزم أوغوستو بوآل، وكان أول من أنشأ فرقة للمسرح الشعبي السياسي في سان باولو سنة 1971، حيث كان يجوب الأحياء القصديرية والقرى ويحّث الفقراء والفلاحين على المشاركة في أعمال مسرحية صغيرة من وحي معاناتهم اليومية التي يميزها القهر والاستضعاف الذي يمارسه عليهم الإقطاعيون وأرباب المصانع، بغية الوصول لمواقف وحلول يمكن أن يردُوا بها على هؤلاء المستبدين. لكن النظام الدكتاتوري تنّبه آنذاك إلى أن أوغوستو بوآل قد يشكل خطراً، فسجنه ثم نفاه إلى الأرجنتين ومن ثّم إلى فرنسا حيث استمر في نشاطه المسرحي وفتح عدة معاهد مسرحية في أوروبا تهتم بهذا النوع من المسرح الملتزم.

يشرح أوغستو بوآل تصوره عن مسرح المقهور فيقول: «النشاط المسرحي، أحببنا أم كرهنا، هو نوع من أنواع النشاط السياسي، حتى بالنسبة لأولئك الذين يتجنبون في أعمالهم المسرحية الحديث عن المشاكل الأساسية للمجتمعات، فهم يعبّرون بذلك عن موقف معين، نحن اخترنا بإرادتنا أن نتحدث عنها وهذا موقف سياسي لفنانين ومثقفين». ويضيف: «المتفرج الذي يعاني من قهر، بمجرد أن يصعد إلى الخشبة يعيش إسقاطا لحالته، فيستوعب الموقف الذي يعيشه في حياته ويتمرن للتغلب عليه. التحول لن يكون طبعاً على خشبة المسرح، لأن المشهد الذي يمثل في العرضَ غير واقعي، لكنه يكون النقطة التي يبدأ منها التحول في حياته الحقيقية. لان الشخص المقهور يكون قد تحّرر من الخوف وروض نفسه على مواجهة مشاكله وتطوير تقنيات شخصية يحارب بها أعداءه الذين يحاولون استضعافه».

إن كان العالم الغربي يعاني أمراض العصرنة والتصنيع، فإن دول الجنوب ما زالت تصارع الجهل، وتفشي العادات البالية مع الفقر الاستبداد والبيروقراطية. هذا ما يجعل وجود مسرح المقهور في هذه المناطق من العالم أكثر ملاءمة. فدول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين، فنزويلا والبيرو، انتقلت اليها عدوى هذا المسرح من البرازيل بسبب تشابه الظروف السياسية، الاجتماعية والاقتصادية. فرق كثيرة تنشط أيضاً في إفريقيا، لكن بوركينا فاسو تبقى الدولة التي تضم اكبر عدد من الفرق، ويصل إلى 60 فرقة شعبية تسمى هناك «بفرق التدخل الاجتماعي» معظمها يعمل بإشراف المنظمات الإنسانية. مسرح المقهور لقي نجاحا ملحوظا في الهند التي يعيش 20% من سكانها تحت خط الفقر، أي بأقل من دولار واحد في اليوم، وتزخر في نفس الوقت بتقليد مسرحي عريق. نشأت سنة 1991 أول فرقة مسرحية تمارس هذا الفن الملتزم بقرية في منطقة «كالكوتا»، وهي أفقر مناطق البلاد. وكان أعضاء الفرقة المكونون من مزارعين فقراء قد تلقوا تكوينهم على يد مسرحيين فرنسيين، فوجدوا في هذا المسرح فضاء مفتوحا لمناقشة مشاكلهم بصفة ديمقراطية ممتعة والتمرن على اتخاذ إجراءات ملموسة من شأنها تحسين حياتهم اليومية. الفرقة الصغيرة أصبحت اليوم حركة مسرحية معروفة في الهند تسمى مسرح «جانا سنسكريتي للمقهورين» وتضم تحت عباءتها أكثر من 1000 ممثل موزعين في 60 فرقة ينشطون في مدن هندية مختلفة، تحت شعار: «التمسك بالممارسات الديمقراطية من الأسرة إلى الدولة». فرقة «عشتار» من فلسطين هي الوحيدة التي تمارس هذا الفن المسرحي الجديد في المنطقة العربية.

وكانت قد نظمت أول مهرجان لها في شهر ابريل من السنة الفائتة، تحت عنوان: «لنبنِ الجسور ونكسر الحواجز» بمشاركة عدة فرق أوروبية. تقول مديرة المسرح إيمان عون: «الشعب الفلسطيني يعيش ضغطاً مستمراً بفعل الاستعمار وتدهور الأوضاع الاجتماعية والصراع السياسي الذي يجعل الفلسطينيين منقسمين فيما بينهم وعرضة لأفكار سلبية ترفض قبول الآخر مع اختلافاته. مثل هذه الوضعية الصعبة تجعل وجود مسرح المقهورين بكل أدواته وتقنياته ضرورة باعتباره نوعاً من المقاومة السياسية للاحتلال وتجسيداً لفن الحوار والمجابهة.

وهي أحسن الطرق التي تمّكن الناس من مواجهة مشاكلهم الشخصية والاجتماعية والسياسية». وتضيف: «بإحياء الحياة الثقافية التي اختفت منذ مدة من المجتمع الفلسطيني فإننا نساهم في جعل الفن المسرحي يلعب ادوار البطولة في مقاومة الاحتلال». الفرقة نظمت منذ نشأتها سنة 1991 عدة أعمال مسرحية للتنديد بوحشية الاحتلال الصهيوني، وصعوبة الأوضاع الاجتماعية، من بطالة وجرائم شرف وعنف ضد النساء... ويضم مركز الفرقة التدريبي 22 أستاذاً، ويتخرج منه سنويًا حوالي 200 طالب وتشارك الفرقة في ملتقيات وندوات على مدى المنطقة العربية للتعريف بهذا الفن الملتزم وتقنياته.