ثقافة «التسوق» تجلب لأصحابها السعادة

50 سنة من «المولات» المغلقة غيّرت وجه العالم

TT

في آخر اعدادها، نشرت دورية «بوبيولار سيانس» الاميركية نتائج بحث أثبت علمياً ان «المال يمشي ويتكلم». نسبة كبيرة من الاميركيين وغير الاميركيين أيضاً، تعتقد ان المال يحل كل مشكلة، وصاحبة البحث سنثيا كرايدر رصدت دور التسوق في إسعاد الناس، ووجدت ان مجرد إقدام الإنسان على الشراء يعطيه إحساساً بالاهمية والقوة والعظمة، ويجعله يشعر وكأن مشكلته قد حلت.

اختارت الباحثة سنثيا كرايدر طلبة جامعيين وقسمتهم الى مجموعتين: شاهدت المجموعة الاولى فيلما حزيناً ومبكياً، وشاهدت المجموعة الثانية فيلما مرحا. ثم نقلت المجموعتين إلى مركز تجاري، وطلبت من كل شخص شراء زجاجة ماء فقط. في نهاية المطاف اشترى مشاهدو الفيلم الحزين اشياء كثيرة، بالاضافة الى زجاجة الماء، عكس الفريق الآخر الذي التزم بالتعليمات.

يعتبر قاموس «وبستر» ان مجرد دخول متجر والتجول فيه، والنظر الى الاشياء، ولمسها، وتجربتها، والسؤال عن سعرها، والتفاوض حولها، هو بحد ذاته «تسوق». ويعتقد أن أول «تسوق» في التاريخ كان في سوق «تارجان» في روما، الذي بني سنة 101م ولا تزال آثاره موجودة، مقابل بقايا مسرح «كولزيوم». السوق كان من طابقين، الاول للضروريات، مثل لحم وخبز، والثاني للكماليات. وقبل سبع سنوات، حفرت بعثة آثار تابعة لجامعة اكسفورد في بريطانيا قرب حائط «هادريان» الذي بناه الرومان عند غزو بريطانيا سنة 125، ووجدوا ما يعتقد انها أول قائمة مشتريات في التاريخ، كتبها جندي بالشمع على لوح من خشب، وفيها انه يريد شراء ثوب وحذاءين. وقبل اربعة قرون، فتحت الثورة الصناعية آفاق المبيعات والمشتريات. وبعدها بمئة سنة فتحت المستعمرات اسواق التصدير والتوريد. وقبل ذلك كله، اكتشف كريستوف كولومبس أميركا أثناء بحثه عن الطريق الأقصر لتوريد الشاي والبهارات من الهند. وقبل مئة سنة بني في أميركا اكبر مركز تسوق في العالم في نيويورك. لكن، اشتهرت مراكز تسوق قبل ذلك، عبر التاريخ مثل «البازار الكبير» في اصفهان (القرن العاشر الميلادي)، و»البازار الكبير» في اسطنبول، (القرن الخامس عشر).

قبل خمسين سنة، بنى الاميركيون اول «مول» (مركز تجاري مغطى) في سياتل (ولاية واشنطن). واليوم، يوجد في بلومنغتون (ولاية منيسوتا) «مول اوف اميركا»، اكبر مركز تجاري مغطى في العالم. ثم اخترع الاميركيون عربة التسوق، وقبلها كانوا يحملون سلالاً، او اكياساً عملاقة. وتوجد اليوم عربات على شكل «ميكي ماوس» او «دونالد داك» غير انها خلقت مشكلة جديدة، وهي سقوط الاطفال من عليها (25 الف طفل كل سنة).

لكن، خلال العشرين سنة الماضية، صار «التسوق» تكنولوجيا، بعد ان كان تجوالا، ولمس بضائع، وتقليبها، وتجربتها، والتفاوض حول قيمتها. لم يعد الناس يذهبون كثيرا الى «المول»، بعد انتشار «تسوق» التليفون. وصارت محلات بيع اللحوم والخضراوات والمأكولات والمشروبات تلبي طلبات الزبائن وهم في منازلهم. ثم انتشر «تسوق» الانترنت. ويعود الفضل في ذلك الى مواقع مثل «اي بيي» و«اتش في كيو» و«باي دوت كوم» «امازون». ثم جاء «تسوق» التلفزيون، وبدأت قصته من سنة 1977، عندما كان المذيع بوب سيركوستا يقدم برنامجا تلفزيونياً، ودخل الاستوديو مدير المحطة باد باكستون، ووضع امامه عشر فتاحات علب، طلب منه ان يعرض على المشاهدين شراءها. ولدهشة الرجلين بيعت الفتاحات خلال ساعة واحدة بسعر عشرة دولارات للواحدة.

اليوم، بعد ثلاثين سنة، تضاعفت ثروة مدير المحطة، وصار «ملياردير التسوق التلفزيوني»، وولدت قنوات تلفزيونية اخرى للتسوق، بعضها متخصص في بيع المجوهرات أو الماس أو الأحذية. وصار للتسوق التلفزيوني ممثلون وممثلات، كما الافلام السينمائية والمسلسلات. هناك اليسون واغونر، الشقراء، وجيم فيشر، ساحر النساء، واختلط الاغراء بالتسوق.

»الشوبنغ» بات جزءاً اساسياً من الاقتصاد، ومن الثقافة الاميركية أيضاً، وربما العالمية. والذين يشترون اليوم، كانوا قد تربوا على مسابقات تسوق تلفزيونية مثل «شوب تل يو دروب» (تسوق حتى تفقد وعيك) الذي بدأ سنة 1991. وكان بات فين، يقدم برنامج الطقس كل ليلة في قناة تلفزيونية محلية في ولاية كاليفورنيا، واشتكى مرة انه وزوجته لا يتسوقان معا لأنهما يتشاجران كثيرا. وقال له زملاء في المحطة: إن هناك اختلافا اساسيا بين نظرة المرأة الى التسوق (تراه متعة)، ونظرة الرجل اليه (يراه واجبا). وهكذا، خطر له برنامج يقدم فيه متنافسين، مثل: رجل وامراة، وزوج وزوجة، وجد وحفيده، ويسألهما عن معلوماتهما عن التسوق: كم قيمة الدجاجة؟ كم بيضة في كل صندوق؟ كيف تقاس احجام الاحذية؟ وصار واضحا ان النساء يفزن على الرجال في مواضيع الاكل والشراب والملابس. ويفوز الرجال في مواضيع لها صلة بالعمل خارج المنزل.

هناك مسابقة تلفزيونية اسمها «بيت ذا كلوك» (اكسب الوقت). تشترك فيها مجموعة نساء داخل مركز تجاري، وتتسلم كل امرأة قائمة تسوق. ويحسب المشرف على البرنامج الزمن الذي تقضيه كل واحدة حتى تشتري ما في القائمة.

اشتهرت اغنية «يا سلفانيا» لأنها كانت تقدم في البداية واحدة من المسابقات التلفزيونية عن «الشوبنغ»، وتقول: «كل شيء متوفر يا سلفانيا. كل شيء ينتظرك يا سلفانيا. كل شيء سيسعدك يا سلفانيا. وغنى بران فان اغنية «شوبنغ» التي تقول: «لنتسوق معا، في نيويورك ولوس أنجليس، لنتسوق معا، يوم السبت بالليل، ونقع في حب بعضنا. لنتسوق معا، وتذهبين الى منزلي.»

قبل ثلاثة أشهر، وبعد نهاية موسم التسوق في ذكرى الميلاد، نشرت مجلة «فورشن» لرجال الاعمال ان الموسم لم يكن ناجحا مثل المواسم التي قبله، بسبب ازدياد سعر النفط، وانخفاض قيمة الدولار، والاقبال على التسوق عن طريق التلفزيون والانترنت. لكن يظل موسم نهاية السنة هو اكبر موسم تسوق. ولسبب ما، صار يوم 12 ديسمبر اكثر ايام السنة تسوقا. وهناك أسماء لأيام تسوق معينة، مثل: «هوايت داي» (اليوم الذي يلى يوم الميلاد، لمن فاته شراء الهدايا). و«بلاك فرايدي» (يوم الجمعة الذي يلي يوم الشكر وتمتلئ فيه الاماكن التجارية بالمتسوقين). و»سايبر موندي» (يوم الاثنين الذي يلي يوم الشكر وهو اشهر ايام التسوق بالانترنت).

قبل ثلاث سنوات، كتب الصحافي درو كيوتس، كتابا عنوانه «ليس كلاماً فارغاً»، انتقد فيه ظاهرة التسوق وقال: «يسير الناس عراة في افريقيا، ونحن نقف في صفوف طويلة من الصباح الباكر لنسرع الى دخول المحلات التجارية ونشتري وكأننا لا نملك ملابس. ويموت الناس جوعا في افريقيا، ونحن نقف طوابير امام مطاعم تقدم كل انواع الاكل حتى نعجز عن تحديد ما نريد ان نأكل.»

وهناك يوم «باي نوثنغ» (لا تشتري أي شيء) في 23 نوفمبر من كل سنة، تخرج فيه مظاهرات تطالب الناس بعدم الشراء. بدأ الفكرة الفنان الكندي تيد ديف، لأنه سئم رؤية الناس يشترون ما لا يحتاجونه. لكن رفضت المحلات التجارية، والقنوات التلفزيونية نشر اعلانات لحملته التي يشترك فيها عدد قليل من الاميركيين، وتظل الاغلبية الغالبة لا تشبع من «التسوق». اشهر من انتقد ثقافة الاستهلاك كارل ماركس (في سنة 1883، توفي في بريطانيا، بعد ان ولد في المانيا، ونشر الفكر الماركسي). وكتب في المانفستو الشيوعي: «تناقضات الرأسمالية ستقودها الى نهايتها. يشتري البرجوازيون ما لا ينتجون وينتج الكادحون ما لا يقدرون على شرائه. هؤلاء البرجوازيون، يحفرون قبورهم بأيديهم».

طبعا، دعا ماركس الى الثورة. لكن، كان الاميركي ثورشتاين فيبلين (توفي سنة 1929) اكثر معقولية. وقال ان اخطاء الرأسمالية يجب الا تحل بالعنف. لقد اتفق مع ماركس في توصيف المشكلة، واختلف معه في الحل.وكتب نظرية «كونسبيكيونس كونسيمسن» (الاستهلاك غير الواضح) مع بداية القرن العشرين وقال ان الاستهلاك تصرف غير عقلاني في كثير من جوانبه، وكتب: «يتعمد الانسان، من غير ان يفكر احياناً، ان يجمع اكبر كمية من الممتلكات. ليست هذه ظاهرة عابرة، انها في اعماق النفس البشرية».