أني إيرنو تصنع الحدث الثقافي الفرنسي وتكسر الرتابة

كاتبة التفاصيل الصغيرة والعارية

TT

قلّما يجمع المشهد الثقافي الفرنسي على امتداح أديب كما يفعل هذه الأيام مع الروائية الفرنسية آني إيرنو. ربما الوحيد الذي يجاورها في الأمر هو باتريك موديانو، الذي لا يتوقف عن قصّ حكاية باريس، وكأنها سكنته إلى الأبد.

في جعبة إيرنو روايات أو كتابات سردية عديدة، وكلها تنبش في التفاصيل الحياتية وتتخذ منها مادة دسمة وبالغة الحنان والانفعالات. فبعد أن كتبت، عن وفاة والدها في نص سردي بالغ السلاسة ويتدفق إنسانية وهو «المكان»، عاودت من جديد الحديث، ولكن عن والدتها، في كتاب «امرأة». حيث تكتبُ:«أحاول ألا أعتبر العنف وتفجرات أمي فقط باعتبارها ملامح شخصية من الطباع، ولكن أحاول أن أضعها في تاريخها وفي شرطها الاجتماعي. هذه الطريقة في الكتابة، التي يبدو لي أنها تسير في اتجاه الحقيقة، تساعدني على الخروج من العزلة وظلام التذكار الفردي، من خلال اكتشاف دلالةٍ أكثرَ كرَما. ولكني أحسّ بأن شيئاً مَا في داخلي يقاوم ويريد أن يحتفظ من أمي بِصُور بالغة العاطفة والتأثير، لا غير، أي الحرارة أو الدموع، من دُون منحها معنىً».

وُلدت آني إيرنو سنة 1940، ومارست التدريس إلى أن تقاعدت. في سنة 1984 حصلت على جائزة رونودو عن كتابها ذي الطابع الاوتوبيوغرافي، «المكان».

تستغرق المؤلفة كثيرا في تفاصيلها (الحقيقية والواقعية) وتعيد تشكيلها إبداعياً فتمنحنا مجموع ما تكتبه. أي يصبح كل ما تعايشه مادة مستقبلية للكتابة. «المكان» و«العار» عن والديها و«ما يقولون، أو لا شيء» عن مراهقتها، «المرأة المجمَّدة» عن زواجها، و«الحدث» عن إجهاضها، وأمّا عن مرض الزهايمر الذي أصاب أمها فكرّست له «لم أخرج من ليلتي»، وفي «امرأة» عن وفاة أمها، وفي كتابها «استخدام الصورة» عن إصابتها، هي، بالسرطان، وقد كتبته مع صديقها مارك ماري، كما أنها كتبت، بالتعاون مع فرديريك ـ إيف جانيت «الكتابة كسكّين». ولأنّ كل شيء ينطلق من الاوتوبيوغرافيا، فلا يمكن إغفال كتابها المثير L’occupation وهو نصّ تتحدث فيه (آني إيرنو/الساردة) عن انتهاء قصة حبّ جارفة مع عشيقها الروسي، قصة حب دامت ست سنوات. (الساردة توقف علاقتها مع عشيقها بعد ست سنوات، ولكن حين يصارحها العشيق برغبته في العيش مع سيدة أخرى، ينتاب الساردة شعور لا يصدق من الألم والمعاناة والغيرة والهوس الرهيب بهذه السيدة التي أخذت مكانها مع العشيق).

كل شيء عند آني إيرنو بالغ الصدق، وبالغ المعاناة. فلا يحس القارئ بأي خداع ولا غش.

هذه الكاتبة التي لا تعنيها المواضيع والانشغالات الكبرى كالنسوانية:«توجد مواقف، تتطلب مني، كامرأة، أن أدافع عن نفسي. في كتابي «الحدث» أردت أن أقول بأنه يوجد شيء لا ينتمي سوى للنساء، وهو قضية نسائية، وهو حدث كلي اخترقه التاريخ والسوسيولوجيا والميتافيزيقيا وعلم النفس إلخ، وهو ما يورّط الكائن البشري كله، إنه أبعد من ما هو جنسي. يتعلق الأمر في الكتابة بأن نصل إلى شيءٍ مَا لا مادي، وبأن نجعل من هذا الحدث حدث كتابة».

تخلت إيرنو عن كتابة الرواية، منذ روايتها «المكان»، وتبرر الأمر بأنها لم تعد قادرة. «أعتقد أني لن أكتب أي رواية. مادّتي هي تقاطُع التجربة التاريخية والفردية، ومن أجل هذا لست في حاجة إلى التخييل» هل تكتب إيرنو «التخييل الذاتي»؟ تجيب بأنها «معجبة بأعمال «سيرج دوبروفسكي» الذي اخترع هذا المصطلح. ولكنّ ما يضايقني هو كلمة «أوتو» (ذاتي)، إذْ إنه يوجد لديّ انطباع بأن كتبي مرتكزةٌ عليّ. أنطلق من ذاتي ولكني لستُ في بحثٍ عن الهوية».

تعود إيرنو، هذه الأيام، إلى صنع الحدث الثقافي. وبالفعل يبدو كتابها الجديد «السنوات» (الصادر كبقية كتبها عن دار غاليمار) مكسرا للرتابة التي ولجت فيها الثقافة الفرنسية مع قصتي كارلا بروني وسيسيليا ساركوزي، حيث كُرّس لكل واحدة منهما ثلاثة كتب على الأقل، وأصبح مؤلفو هذه الكتب يحتكرون البرامج الثقافية، وكأنما يصنعون الأدب.

كتاب آني إيرنو الجديد يَعْبر مسيرة ستين عاما من عمر الكاتبة. حصيلة حياة. اشتغلت فيه على توليفة ما بين الذكريات الشخصية والصُوَر واليوميات والإشارات التاريخية. كتاب لا يخلو من نبرات حزينة، خصوصا أنها تعاني من مرض السرطان الذي كرست له كتابها السابق (استخدام الصورة/2005). ومع دخول الكاتبة في مرحلة علاج مكثف، يبدو وكأن الكتاب وصيتها الأخيرة.

ترددت كثيرا في اختيار العنوان. وكانت تراودها عناوين مختلفة من بينها «أيام العالم» و«ضوء الآحاد» و«ضوء السنوات»، وأخيرا قر عزمها على «السنوات». وفي هذا الكتاب، الذي يرى فيه ناقد لوموند الأدبي، «رواية كليّة»، حيث «جمَّعَت فيه الكاتبة بطريقة بارعة، كلّ ذكرياتها» تصر إيرنو على أنه لا علاقة لها بالتخييل الذاتي:«استخدام الأنا هو العلامة على الاوتوبيوغرافيا، لكنه أيضا وسيلة لقول العالم الذي يحيط من حولنا. شرط ألا يتعلق الأمر باوتوبيوغرافيات مرتكزة، بغباء، على الذات، بطبيعة الحال». وتواصل قائلة: «أنا بفضل الصُوَر التي أتاحت لي أن أتوقف عند الذاكرة. أفضل استخدام يومياتي وملاحظاتي وذكرياتي. كل هذه الكتابات المختلفة أتاحت لي أن أتحدث، في آن واحد، عن التاريخي والحميمي وعن تغيُّر أشياء الحياة والذاكرة. إنه كتاب عن الزمن والذاكرة». «لا تهمني كلمة «تخييل» ولا كلمة «ذاتي». أفضل في نهاية الأمر، أن أحافظ على كلمة اوتوبيوغرافيا «على الرغم من أنه لديّ صعوبة في استخدامها».

القارئ الفرنسي الذي يقرأ ويسمع حتما، ما قالته سيسيليا عن زوجها ساركوزي (هو شغل الناس الشاغل) بلغة عارية، لا مواربة فيها، سيقرأ، مع كتاب آني إيرنو، لغة عارية، بلا مواربة، أيضا، لكنه هذه المرة سيكون في صميم الكتابة الإبداعية والأدبية، وليس في جحيم السياسة ومداهناتها المكيافيلية.