النصوص الجميلة قد تربكها التفاصيل

السرد القصصي وعملية التلقي في قصص الفلسطينية ليانة بدر

TT

المجموعة القصصية الجديدة «سماء واحدة» للكاتبة الفلسطينية ليانة بدر تضع المتابع أمام أسئلة وإشكاليات عديدة، منها ما يخص علاقة الكاتب بموضوعه، ثم طبيعة النص القصصي بصفته نسيجاً لغوياً ينطوي على عالم تجربة معينة، حيث تترابط أحداثه لكشف أبعاد وظلال ذلك العالم مثلما تشترك جمله وعباراته ضمن حساسية خاصة لا تحتمل الاستطراد أو النقصان. وهنا تحديداً تكمن مبررات النص وأهميته وليس بالموضوع بحد ذاته. فالموضوع النبيل لا يخلق نصاً جيداً بالضرورة، والموضوع السلبي أو الشخصيات السلبية قد تخلق نصوصاً رائعة كما هو الحال في غالبية قصص جايكوف وسواه.

إن الست عشرة قصة التي احتواها الكتاب، وبما تنطوي عليه من أحداث وشخصيات متنوعة ومفارقات كثيرة، قد توحي للقارىء وكأن المواضيع القصصية في المدن الفلسطينية كثيرة جداً لدرجة أنه بوسع الكاتب أن يجد المزيد من القصص أينما ذهب، وهذا رأي ليس واقعياً لسببين، الأول هو أن كثرة الأحداث والمواضيع موجودة في جميع المدن والأرياف أينما ذهبنا. والثاني أن الموضوع القصصي هو أولاً وأخيراً من ابتكار الكاتب حتى لو اعتمد على أحداث وشخصيات واقعية، ومن هذه النقطة بالذات تبدأ مسؤولية القاص أو القاصة، مسؤولية إعادة ابتكار الأحداث ضمن نسيج النص وعلاقاته التي لا بد أن تخضع للمنطق الذي يقنع القارئ ويدهشه ويجعله مشاركاً ضمنياً في التأليف أو معايشة الأحداث في الأقل. لأن أي نص لا يوجد ترابط منطقي بين أحداثه وشخوصه سوف لن يوصل القارئ إلى فضاء الأدب، أي لن يكون قادراً على تعميق حس القارئ بالموضوع المثار، فالنص الأدبي لا يكون مقبولاً إلا من هذه الناحية، أي من ناحية المنطق الخاص الذي يحمله وليس لناحية علاقته بالواقع، فالواقع قد ينطوي على قصص ومفارقات غير منطقية، بل وسوريالية أيضاً. للواقع خرافاته كما يُقال، بينما أحداث النص القصصي قد تكون من صنع خيال الكاتب الذي يعيد ترتيب الأحداث وابتكار الحكاية من جديد لكي تعمق إحساسنا بوجودنا من خلال تجربة القراءة وفضائها غير المحدود.

لنعد إلى عالم ليانة بدر في «سماء واحدة»: منع تجول وجدران وقتلى من دون سبب ومكبرات صوت تُصدر أوامر لبشر محاصرين في مدنهم وبيوتهم وداخل مشاعرهم، تُعلـْمهم متى يحق لهم الخروج من منازلهم ومتى يجب عليهم العودة إليها كي يظلوا محصورين بين جدرانها إلى أن يسمعوا أوامر أخرى بالخروج! وهذه أوامر لا تمكن مخالفتها لأن جنود الاحتلال لديهم تخويل بإطلاق النار على كل من لا يرضخ لجحيم أوامرهم وطالما فعلوها بأناس أبرياء، داخل القصص وخارجها، ظنَّ الجنود بأنهم إرهابيون! فالهدف هو تحويل هذه الظروف الرهيبة إلى طريقة حياة لمئات الآلاف من الفلسطينيين، وهو أمر لا يمكن تقبله لمدة طويلة ناهيك عن التعود عليه. أن مهمة ليانة بدر هي اقتحام هذه الأجواء الرهيبة والكتابة عمن يعيشون تحت وطأتها، حيث أصبحت أبسط الرغبات نوعاً من الأحلام التي لا يجرؤ المرء على تحقيقها إلا بمغامرة تقترن بمزيد من القلق والمفارقات والوساوس التي تنتاب الإنسان بسبب أو من دونه. وهذه هي حالة (أم حسن) بطلة القصة الأولى «مدن أخرى». كانت أم حسن بطلة حقيقية ليس لأنها حملت بندقية وحاربت أو ساهمت في معركة بتقديم العتاد أو تضميد الجرحى، بل لأنها تجاوبت مع رغبة أولادها وإلحاحهم بزيارة مدينة رام الله التي تبدو لهم مثل باريس مقارنة بأوضاعهم المزرية في مدينة الخليل وما حل بها خلال الانتفاضتين الأولى والثانية. لكن هذه المغامرة لم تكن سهلة ولا هينة، بدءاً من رفض زوجها لهذه الفكرة (المجنونة) مروراً بعدم امتلاكها لأوراق هوية ثبوتية من تلك التي وزعها الاحتلال، حيث استعارة هوية جارتها، ناهيك عن كلفة الرحلة والمصاريف التي ستقلقها وتجعلها تقطع الرحلة وتعود تحت وطأة الشعور باحتمال نفاد النقود. كل هذه التفاصيل وغيرها لم تكن سوى (ذريعة قصصية) لكشف جحيم الحياة تحت وطأة الاحتلال وانعكاس ذلك على سلوك البشر الذين تنقلب أولويات الحياة عندهم على رأسها حتى يصبح المرء خائفاً من ظله! وإذا كانت فرحة الأولاد بزيارة رام الله هي التجوال في أسواق هادئة وأكل سندويشات والتكدس في فندق رخيص، فإن الوساوس والرعب الكامن في دواخل أم حسن جراء الحذر من نقاط التفتيش في الطريق خوفاً من أن يكتشف جنود الاحتلال هويتها المستعارة، أو من احتمال أن يخطأ أحد أولادها ولا يورد اسم ابن جارتهم الموجود في الهوية باعتباره اسمه. لقد حققت أم حسن انتصارات عديدة خلال الطريق، انتصارات لم تشترك هي بصناعتها بل جاءت بمحض الصدفة، حيث سَلِموا من نقاط التفتيش التي لم تهتم لهم، ليجد الأولاد أنفسهم في رام الله فتغمرهم البهجة وهم منتشرون بين البسطات في أسواق المدينة الموعودة. ظلت أم حسن تخفي قلقها عن أطفالها كي لا تخرب فرحتهم البريئة بهذه الرحلة، لكن هاجس احتمال نفاد النقود سيقض مضجعها. «لم تنم من المتعة والرعب. متعة أن ترى أسواقاً تعج بالبشر، وأناساً يتمشون في الليل دون اكتراث بأن يهجم عليهم مسلحون كما يحدث في الخليل .. خافت الافلاس عندما عدّتْ النقود القليلة التي بقيت معها. ودب فيها الرعب من جديد لأنها لم تكن واثقة بتدبير أمر عودتها بالسهولة ذاتها التي حضرت فيها .. ظلت تتقلب على جنبيها مستعيدة رعبها من قصة الخروف». (ص26 ، 27). هذه الوساوس لم تأت اعتباطاً، بل هي نابعة من تاريخ شخصي مرير، لا يختلف عن تاريخ الملايين من الفلسطينيين الذين ضاعت حياتهم بين مآسي الشتات ومرارة العيش تحت وطأة الاحتلال، حيث الحياة كلها تخضع للصدف والأحداث المفاجئة والاضطرابات الدامية والمفارقات التي تشبه الكوابيس.

نجحت ليانة بدر في دقة الملاحظة وتطوير منعطفات السرد القصصي في القسم الثاني من هذه القصة، أطول قصص الكتاب 27 صفحة، أي خلال طريق عودة العائلة، أكثر مما فعلت في القسم الأول الذي لم يكن يخلو من الاستطراد مع عثرة اسلوبية نحسب أن من الضروري التوقف عندها. ففي الصفحة الثانية من القصة، حيث تصف الكاتبة حالات الرعب التي كانت تنتاب أم حسن، وهي العروس الجديدة، جراء لعلعة الرصاص خلال اشتباكات المستوطنين مع السكان، حيث عندما اكتشفت حماتها العجوز أن هذه الصبية التي اختارتها زوجة لابنها من بين أقاربها الساكنين في عمان ترتجف من الخوف، قالت الحماة: (الوضع هيك مش مضبوط. بس يا بنت! لا تكوني ندلة لأنه الجبن أوسخ شيء في الدنيا). ولو اكتفت الكاتبة بهذا التجاذب بين المرأتين الذي يبدو منسجماً مع سياق النص لكان الأمر مقبولاً، لكنها وسط هذه الفقرة تورد أوصافاً لوجه الحماة، وهي أمرأة عجوز، من النوع الذي يحولها من امرأة إلى كابوس يثبط رغبة القارئ بالمواصلة! دون أن نعرف ما هي مبررات ذلك !

ليست مهمة الكاتب أن يقدم لنا أوصافاً لوجوه شخصياته، تجعلنا نحب أو نكره تلك الشخصيات، لأن عاطفة القارئ إزاءها تتحدد من خلال المواقف والأحداث وليس من خلال وسامة الوجه أو عدمها، خاصة إذا لم يكن لتلك الأوصاف مغزى يخدم تطور الأحداث كما هو الحالة مع الوصف الذي أقحمته الكاتبة على تلك المسكينة حماة أم حسن، فهي إن كانت وسيمة أم قبيحة، فهذا لا يغير من الأمر شيئا. إن الكاتب عندما يقدم لنا أوصافاً لإحدى شخصياته من النوع الذي يُعطل حواسنا أو يربك مشاعرنا فهو لا يخدم نصه، بل ربما يفعل العكس.

في أكثرية القصص الأخرى هناك مشكلة أثقلت إيقاع النصوص، وهي تكرار نفس الأحداث والمعاناة الناتجة عن السلوك الهمجي للمستوطنين أو جنود الاحتلال، ما جعل الحدث المركزي لبعض القصص يترهل، في حين كان بوسعها أن تكتفي بإشارات موحية سيما وأن جميع القصص تتحدث عن نفس الموضوع.

فقصة (سماء واحدة) التي يحمل الكتاب اسمها، وهي من أجمل قصص المجموعة، تبدأ هكذا:«كان يقف على جانب الشارع، فوق كومة من الحصى ما بين الإسفلت والجانب الصخري من الجبل. متجمداً في مكانه، شاخصاً مثل دمية شمعية تومض عينها السوداء في مواجهتي. لفت نظري وقوفه الرصين مثل حصان مصغر من رقعة شطرنج. انحنيت ورفعته بين يديَّ فبان مثل قطعة من رمل متفحم، وظهرت عينه الأخرى مغلقة.. أوحت إصابته وكأن أحد الجوارح نقره بين عينيه دون أن يفلح في قتله. تكهن واحد من جماعتنا أن سيارة مارة صدمة الطائر الطائش دون أن يستطيع تجنبها، فالعصافير لا تُدرك ماهية الأذى الذي يطالها من المركبات المتحركة... إلى هنا نحن مع سرد قصصي مفعم ومتواصل، مشكلة الطائر المسكين واضحة ومشكلة الجماعة المتجولة اتضحت أيضاً، لكن الكاتبة - الراوية تخرجنا من أجواء القصة إلى تفاصيل لا يحتاجها القارئ ولا نسيج القصة ناهيك عن كونها تفاصيل متكررة في القصص الأخرى.