يدمرون منزل لورانس داريل لبناء برجين.. والبعض يريده متحفاً

زار الإسكندرية قبل وفاته بأربعة أعوام وألهمته رباعيته الشهيرة

لورانس داريل
TT

11 عاما عاشها لورانس داريل في الإسكندرية، تشبع بمناخها الكوزموبوليتي الخلاق، وفي ظلاله كتب رائعته الشهيرة «رباعية الإسكندرية»، التي شكلت منذ ظهورها أواخر خمسينات القرن الماضي، عتبة أساسية في تيار ما بعد الحداثة في الكتابة الروائية.

الإسكندرية التي أطلق عليها داريل «عاصمة الذكريات» لم يتبق له فيها، سوى البيت الذي عاش فيه وصراع خفي بين من يريدون تحويله إلى أبراج سكنية صماء، وصيحات انطلقت أخيرا لتحويله إلى متحف يضم مقتنياته وأشياءه الخاصة. في هذا التحقيق سياحة في إسكندرية داريل، بعد مرور خمسين عاما على انطلاق الشرارة الأولى من رباعيته الخالدة.

في شارع المأمون الهادئ بحي محرم بك العريق بالإسكندرية؛ تقبع فيلا «إمبرون»، التي شهدت مولد «رباعية الإسكندرية». شيدت الفيلا على الطراز الإيطالي عام 1920، وكانت ملكاً لعائلة المقاول الإيطالي «إمبرون» وزوجته الفنانة التشكيلية إميليا، ويعد البرج الأثري الملحق بها من أروع ما يميزها، ويجعلها تجمع بين سمات الفيلا والقصر معا.

استأجر داريل الطابق العلوي وعاش فيه حتى مغادرته الإسكندرية بشكل نهائي، أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

وقبل بضعة أشهر أقامت مكتبة الإسكندرية احتفالية ثقافية بمناسبة مرور نصف قرن على صدور رواية «جوستين» - الجزء الأول من «رباعية الإسكندرية» حضرتها ابنة داريل بينوليبي وزوجها. وقد اختصرت بينوليبي الكلام عن والدها بقولها «كان عظيما في كل شيء، ولكم أفتقده». في هذه الاحتفالية دعا محمد عوض، مدير مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط إلى ضرورة التصدي لمحاولات الهدم التي يتعرض لها القصر، وتحويله إلى متحف يضم مقتنياته، حيث ان ملاك القصر الحاليين يحاولون هدمه تدريجياً لتشييد برجين سكنيين، وقد قاموا باقتلاع أرضيته الرخامية، وتدمير حديقته التي كانت تزخر بأندر الأشجار، رغم أن المنزل مسجل تحت رقم 1687 ضمن قائمة التراث المعماري المحظور هدمه بالإسكندرية.

ولد لورانس جورج داريل في 27 فبراير 1912، لأب إنجليزي يعمل مهندساً وأم ايرلندية، وكان أكبر أربعة أطفال. عاشت أسرته بالبنغال على حدود الهند والتبت، تعلم في مدارس الهند، ثم في انجلترا، وحاول الالتحاق بكامبردج ثلاث مرات دون أن يوفق، ثم ذهب إلى باريس، حيث عمل صحافياً وكاتباً، فكتب عدة كتب للأطفال وبعض الاستكشافات الفكاهية. حينها تعرف على ت. إس. إليوت، وهنري ميللر، وأعجب كثيراً بهما واستطاع عن طريقها أن ينشر بعض أشعاره.

انتقل داريل بعد ذلك إلى أثينا ثم إلى جزيرة كورفو، حيث كتب رواية «الربيع المتأزم» صدرت عام 1937. أما الكتاب الثالث فكان مع هنري ميللر بعنوان «الكتاب الأسود»، نشر في فرنسا عام 1938 وأعيد نشره في إنجلترا عام 1973. ولما نشبت نيران الحرب العالمية الثانية انتقل داريل من جزيرة كورفو إلى كريتالتي وكتب عنها ديوانه الشعري «مدن وسهول وشعب»، ومن كريت انتقل إلى رودس، حيث كتب «انطباعات فينوس بحرية»، ومنها إلى قبرص التي كتب فيها «الليمون المر» الذي يعد من أفضل مؤلفات داريل. وبسبب الحرب انتقل داريل إلى مصر عام 1945، وعمل ملحقاً صحفياً مختصاً بالصحفيين الأجانب لدى وزارة الخارجية الانجليزية، وسكن في الإسكندرية، التي كانت تعج بجاليات متنوعة من يونانيين وإيطاليين وفرنسيين وإنجليز وشوام، احتضنتهم في عباءتها في تناغم غريب وخلاق، انعكس على كتابات داريل وبخاصة رباعيته الشهيرة.

علاقة داريل بالوسط الثقافي في الإسكندرية كانت شبه معدومة، فقد كان منعزلا عن الحياة العربية في المدينة وعاش كأحد أفراد الجاليات الأجنبية، وكل معرفته بالحياة المصرية استقاها من الفنانة اليهودية السكندرية إيفا كوهين، مصدر إلهامه في الرباعية والتي لم تكن تعرف الكثير عن حياة المصريين بسبب أصولها وجذورها الأجنبية، وقد تزوجها داريل، وكانت زوجته الثانية ضمن أربع زيجات له على مدار حياته.

تتألف «رباعية الإسكندرية» من أربعة أجزاء: جوستين، وبالتازار، ومونتوليف، وكليا ونشرت كلها ما بين عامي 1957 و1960. يصور الجزء الأول من «جوستين» العلاقة بين الراوي دارلي وهو الذي يمثل داريل وميليسبا الراقصة بملهى ليلي. وتحكي الرواية قصة حب دارلي مع اليهودية الجميلة «جوستين» المتزوجة من المصري القبطي «نسيم». وهو شخص حقيقي التقاه داريل في الاسكندرية، وعندما تنتشر الأقاويل عن تلك العلاقة، تترك جوستين مصر إلى فلسطين وتعمل في كيبوتز. وتقع المفارقة حين يكتشف دارلي أن «نسيم» يعمل جاسوسا لليهود، يهرب لهم الأسلحة لمساعدتهم في التخلص من الإنجليز بينما يعمل دارلي مع المخابرات الإنجليزية.

حققت الرباعية نجاحاً كبيراً، وكانت بداية لتيار ما بعد الحداثة في الرواية، ومثلت شوارع الإسكندرية وأمكنتها خلفية لأحداثها.

في عام1977 زار داريل المدينة التي ألهمته، بعد فراق طويل، بعدما أقنعته قناة BBC بتصوير فيلم عنه عنوانه «روح المكان». كتب داريل في مذكراته عن هذه الزيارة وما تركته في نفسه من شجون، وكأنه يرثي الإسكندرية وما آلت إليه في القرن الواحد والعشرين يقول: «عاودني الحنين من جديد لزيارة معشوقتي الإسكندرية، وبمجرد وصولي إليها ذهبت إلى فندق سيسل بمحطة الرمل وقد بدا لي كأنه لؤلؤة لامعة في ليل الإسكندرية الجميل. لكن فرحتي انطفأت بعد لحظات من دخولي للفندق، فقد اكتشفت أن الحجز لم يؤكد، لكن وبعد عدة دقائق تمت إعادة ترتيب إقامتي بالفندق. في الصباح نهضت الساعة السادسة بعد أن ظللت مستيقظاً طوال الليل بسبب قرص الناموس وضوضاء العربات. وبعد تناولي للإفطار الذي أحضره لي جرسون نوبي مبتسم في حجرتي بالفندق أسرعت بالخروج مع أصدقائي الذين أتوا للترحيب بي إلى الشوارع لأبحث عن المنزل الذي أقمت فيه خلال فترة عملي كمراسل حربي للجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية، ولكنني نسيت العنوان، ولولا مساعدة أصدقائي ما استطعت الوصول إليه. فقد تغير الحي الكائن به المنزل. اختفت القصور والفيللات والمساحات الخضراء والحدائق التي كانت تميز حي محرم بك، وحلت محلها كتل خرسانية قبيحة عارية من الجمال والذوق. أما المنزل. فما إن وقعت عيناي عليه حتى انعقد لساني من فرط المفاجأة. ما هذا الخراب والإهمال الذي بدا واضحا على كل ركن من أركانه. فالسور الخارجي صدئ وتآكلت أعواده وبوابته العريضة الضخمة مالت على جنبها. الجدران تصدعت وسكن جوانب أركانها العنكبوت. الحديقة تحولت لمكان موحش مهجور. أين ذهب المنزل الساحر الذي كان محاطاً بحديقة غناء تحوي أندر وأجمل الخمائل والأشجار؟ أين ذهبت النافورة الرخامية بديعة الصنع والتماثيل، والأعمدة الرخامية، وساعة الزهور الرخامية المنقوشة عليها الحروف اللاتينية، والمصور عليها مسار الشمس والتي كانت تعد من أندر الساعات. ثم صعدت عبر السلالم الرخامية إلى البرج الأثري الذي كتبت فيه أروع القصائد والروايات، ثم دخلت غرفة الطعام، حيث كنت أجلس لتناول العشاء.. كل شيء تبدل وتغير وذهب إلى غير رجعة.. خرجت للشوارع مرة أخرى فلم أشعر بالراحة، فالإسكندرية التي عرفتها منذ ثلاثين عاما غير إسكندرية اليوم.. فإسكندرية الماضي كانت المدينة ذات الأجناس الخمسة واللغات الخمس والمعتقدات الاثنى عشر.. اما اليوم فهي عنصر واحد.. معتقد واحد هو الإسلام، كما أن تراثها المعماري الجميل الذي كان يميزها عن بقية مدن مصر أصبح مهدداً بالفناء والضياع، فقد تم هدم معظم الفيللات ذات الطراز المعماري المتميز وحلت محلها كتل خرسانية عارية من الذوق وفن العمارة أطلقوا عليها اسم مساكن.

وأثناء تلك الزيارة طاف داريل ببعض معالم مصر الحضارية فزار صعيد مصر، وبعض الأديرة المسيحية وآثار الصعيد، وبعدها بأربعة أعوام طوى داريل صفحة حياته في 7 نوفمبر 1990 عن عمر يناهز 78 عاما، وكأنه أراد أن ينهل من بحر الإسكندرية ومن نيل مصر الرشفة الأخيرة.