عندما تختلط المعارك بتفجيرات البحث عن الزُمُرُّد

«كنت في أفغانستان» لتركي الدخيل: مشاهدات

غلاف الكتاب
TT

كُتب الكثير حول أفغانستان، بين مشاهدات صحافي، ومذكرات قائد تراجع عن ركب الجهاد، وآخر ما زال يطوي الوديان حاملاً سلاحه على كتفه، أو دبلوماسي ضاق ذعراً في مهمته بكابول، أو مسؤول حزبي في الجيش الأحمر، أو مخابراتي، الكل كتب مشاهداته، ولو لساعة قضاها مع بن لادن، والتقط صورة بغطاء الرأس الأفغاني.

إنها حقبة بالغة التعقيد، وسافرة عن حوادث أتت على إمبراطوريات وجيوش، من هنا نفهم قيمة مشاهدات تركي الدخيل في كتابه «كنت في أفغانستان» (العبيكان 2008)، وإن كانت بعد الجهاد والتحرير!، لكنها رحلة شهدت معمعة الجهاد بين المجاهدين أنفسهم، التي اختلط فيها رمي المدافع بين الفرقاء الأشقاء بتفجيرات البحث عن الزُمُرُّد، ذلك الحجر النفيس، والعالق في ذاكرة تيجان الملوك وقلائد الملكات، وكأنه لا ينتسب إلى تلك الجبال، فبينه والفقر الأفغاني بون شاسع.

تستحضر قوافل التحشيد والتناصر للمجاهدين بأفغانستان، في الثمانينات من القرن الفائت، تجربة تلك الفصائل الأممية، التي شكلتها قوى اليسار الأممي إلى نصرة الجمهورية الإسبانية، أو «كومونة مدريد» إن صحت التسمية.

فقبل خمسين عاماً، كانت المعادلة معكوسة، هناك مد يساري جارف، وحرب عالمية بين جبهات متداخلة، اصطفت الرأسمالية ـ الإمبريالية مع عدوها الاشتراكية ضد النازية. وصلت الفصائل ولم تنقذ الجمهورية، مثلما تمكن المجاهدون من الجمهورية الأفغانية، لكنهم فشلوا في البناء، وتحولت خناجرهم إلى نحورهم!.

تجد في كتاب الإعلامي تركي الدخيل الصورة نفسها، ونخوة عقائدية أيضاً لكنها النقيض، والمفارقة أنه ليس هناك فصيل أممي، من نوع المدافع عن جمهورية إسبانيا، يفزع لنصرة «كومونة كابول»، إن صحت التسمية أيضاً. قال المؤلف، وكان أحد المتحمسين للانضمام إلى تلك الفصائل: «أذكر أن الشيخ الراحل عبد الله عزام (محشد المجاهدين العرب)، كان يُلقي محاضرة في الثمانينات، يتحدث فيها في موضوعه الأثير والوحيد، الحث على الجهاد الأفغاني.. وأكاد أقسم أن الحاضرين الذين تزاحم بهم المسجد ليمتد جلوسهم إلى الباحات المجاورة، ويقدر عددهم بالآلاف، لو وجدوا حافلات في مواقف المسجد لتنقلهم رأساً إلى أفغانستان، لذهب معظمهم في تلك اللحظة، ولكنت في طليعتهم»(ص 18).

كانت المشاعر تجاه أفغانستان مزدوجة، بين الشعور الديني باحتلال بلاد مسلمة، والفرصة لمنازلة قلعة الاشتراكية. كان الدخيل، آنذاك، لم يبلغ السن التي تؤهله لفراق الأهل والمدرسة، أو حتى التأكد من عاطفة إزاء قضية مثل هذه. إلا أن العقل الجمعي فعل فعله وتحمس للانخراط، وتأجل المشروع حتى 1998، بعد فشل بناء المجاهدين لدولتهم المأمولة، وانشطارهم إلى أفغان عرب، وتحالف الشمال، و«طالبان»، وقيادات أخذت تجوب باكستان وإيران لعلها تفتح جبهة من نوع آخر، تؤدي بهم إلى كابول ثانية.

وصل المؤلف كابول وهي تحت إمرة الملا عمر، لا ملكية ولا جمهورية، إنما خلافة، بعيداً عن عواصمها التاريخية: المدينة، الكوفة، دمشق، بغداد، وإستانبول!، فما أن وصل إلى جلال أباد حتى أخذ يُعرّف بضيف أمير المؤمنين، الفار الكار الآن بين الجبال والوديان. وهناك في المجالس يكتشف الدخيل أموراً كثيرةً، ارتبطت بممارسات «طالبان»: مثل إطلاق اللحى، وتبين أنها عادة أفغانية أكثر منها دينية. لكن «طالبان» وضعت القياس لها، ولغطاء وجه المرأة، لتطلق بها موديلاً اجتماعياً موحداً، على الطريقة الكورية في الملابس!.

واكتشف هناك أن «طالبان» كانت الفئة الأكثر نزاهة بين المجاهدين، الذين أكثروا من الفساد المالي والإداري، مع أن الناس كانت تنتظرهم محررين، فقد اكتفى النموذج براتب السبعة دولارات للوزير، مع السكن والكهرباء والماء. ومن الوزراء مَن يسد النقص بمساعدة، إذا ما تعدى الحد، من أخ أو قريب يعمل بالخارج!، عموماً إنها جماعة متقشفة، لكنها لا تجيد المصالحة مع الزمان، فوزير الخارجية يبدأ حديثه مع الضيوف الدبلوماسيين، أو لوسائل الإعلام الأجنبية، وكأنه إمام مسجد، يبدأ بالوعظ وينتهي بالدعاء.

حرمت «طالبان» الحشيش، ولم تحرم الأفيون، والذريعة أنه يستخدم في صناعة الدواء، ولا يحتاج إلى مياه كثيرة، لذلك يلجأ الفلاحون إلى زراعته. وتجدها في الحكم تتصرف كحركة لا دولة، فلا ترى ضرورة لباس موحد لجيش أو لشرطة. ويجيب أحد الوزراء عن سؤال المؤلف واندهاشه من غياب تلك المظاهر: حتى تصبح أفغانستان كاملة بيدها!.

ويتبين تقشف «طالبان» الثوري من رواتب مقاتليهم، ومن طريقة مشاركتهم في الطعام، على اختلاف المستويات. فإذا كان راتب المقاتل من مقاتلي عبد رب الرسول سياف مائتي دولار، فإن مقاتل «طالبان» يحصل على عشرة دولارات فقط، وهو أكثر من راتب الوزير لديهم. ويبدو أن زيادة الراتب أو قلته تشير إلى أصالة عقائدية من عدمها، فترى شاه مسعود يخبر المؤلف بأن مقاتله يحصل على خمسة دولارات فقط، قال: «أتباعي يقاتلون بالروح لا من أجل المال» (ص 165).

تفرق المجاهدون أيدي سبأ، مثلما يُقال، ولم يبق صامداً برجاله وسلاحه سوى شاه مسعود، وزير الدفاع حال سقوط كابول بيد المجاهدين وحتى غزوها مجدداً من قِبل «طالبان»، وكبار الضباط كانوا محسوبين على النظام السابق، مثل دوستم، ترفض «طالبان» التعامل معهم، بينما فتح مسعود ذراعيه لهم لمواجهة طلبة الشريعة «طالبان». وكان مسعود هو هدف زيارة مؤلف الكتاب إلى أفغانستان عن طريق رجل أفغاني ذهب بمهمة التوسط بما يخص تبادل الأسرى.

أورد المؤلف في الكتاب دقائق الصلات بين «طالبان» وأسامة بن لادن، أو المجاهدين العرب عموماً، وكيف كانت «طالبان» ترى نفسها أنها أكثر القوى تضييقاً وتحجيماً لهؤلاء، ومع ذلك لا تجد مَن يتعاون معها حتى عبر الدبلوماسية!، تدير ما تبقى من مصانع ومؤسسات اقتصاد بطلاب شريعة. وتحدث تفصيلاً حول الضوابط التي تحكم التدرج في المهام بين أمير المؤمنين ومجلس الشورى، ومجلس الوزراء، وحكام المناطق، وكيف كان مسعود يدير مناطقه، وما هي صلاته بأهل منطقة بنجشير (الأسود الخمسة)، وطاعتهم له. ولا يفوت المؤلف وصف الأمكنة التي ينزل أو يمر بها، فكانت بنجشير جنة معزولة، لما فيها من الثمار والمياه العذبة والمناخ المثالي، وهي الغنية بالزُمُرُّد.

ومع أن رحلة الدخيل كانت متأخرة على أيام الجهاد، وتنادي فصائل الإسلام السياسي وغير السياسي، وذهب صحافياً لا مقاتلاً، إلا أن الدهر ببلاد مثل أفغانستان لا يعرف التبدل، أرض قصية قريبة، كانت بوابة لتصفية الحساب لصالح أميركا، ثم عادت تصفي الحساب معها، حتى عادت الأخيرة لغزوها، لكن بلا فصائل أممية تهب للدفاع عنها.

وبالجملة، يوفر الكتاب للمهتم بشأن تلك الأرض، التي تعاقبت عليها الغزوات والاجتياحات، صورا حية ملتقطة من أفواه وزراء وقادة «طالبان» الإمارة، وقادة تحالف الشمال، بقية المجاهدين السابقين، ومما قطفه المؤلف من ذاكرة الناس، بمحطة سفر موحشة، أو بناء خراب!، لعله كان قصراً ملوكياً، أو مقراً لحزب توهم أنه يعمر الاشتراكية ببلاد لا تميز بين الأزمنة.