محاور مناور مداهن مراهن صنع خديعة كبرى

أحمد الجلبي «الرجل الذي دفع أميركا للحرب» لآرام روستون

غلاف الكتاب
TT

أخيرا، صدر كتاب «الرجل الذي دفع أميركا للحرب: احمد الجلبي: حياة غير عادية، ومغامرات، وهوس». وضع الكتاب آرام روستون، وهو صحافي تلفزيوني مع قناة «إن بي سي»، فاز بجائزة عن فيلم وثائقي أخرجه بعنوان «الحياة في شوارع العراق». ومما قاله في الكتاب، انه ربما اختلط مع عامة العراقيين، خلال أشهر أمضاها في تصوير الفيلم، أكثر من الجلبي نفسه خلال عمره كله.

قسم المؤلف كتابه إلى 53 فصلا، منها فصول تحدّثت عن مولد الجلبي وتعليمه وثورة 1958 في العراق، وهروب العائلة إلى لندن، ودراسته في الولايات المتحدة، وتحدثت فصول أخرى عن عائلة بنوك ومصارف، بنك «البتراء» الأردني، الاستخبارات المركزية، الاستخبارات العسكرية.. الخ. ومما قاله المؤلف عن الجلبي: «في كل تاريخ أميركا، لا يوجد رجل مثل احمد الجلبي. لم يحدث أبدا أن أجنبيا ليست له أي وظيفة رسمية، استطاع أن يؤثر في السياسة الخارجية الأميركية إلى درجة أن يدفعها لتعلن الحرب على دولة أخرى».

وأضاف: «نعم، أقنعنا ونستون تشيرشل، السياسي البريطاني الحكيم، ان ندخل الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا الهتلرية. لكنه كان، في ذلك الوقت، رئيس وزراء بريطانيا. أما الجلبي فليس تشيرشل. انه رجل أعمال ثري أعلن إفلاسه أكثر من مرة، ورئيس منظمة صرفت عليها وكالة الاستخبارات المركزية».

عرض الكتاب تاريخ حياة الجلبي في تفصيل دقيق: ولد احمد عبد الهادي الجلبي سنة 1944، لعائلة شيعية غنية، تعمل في البنوك والتصدير والتوريد، تحالفت مع العائلة الهاشمية المالكة في العراق. وتكسب صداقة أميركا التي كانت، في ذلك الوقت، تخشى انتشار الشيوعية والنفوذ الروسي في الشرق الأوسط. سنة 1958، عندما قامت الثورة التي أطاحت بالعائلة المالكة (وقتلت الملك فيصل، وسحلته في الشوارع)، هرب آل الجلبي إلى بريطانيا.

جاء احمد إلى أميركا للدراسة الجامعية، وكان ذكيا جدا، ونال دكتوراه في الرياضيات من جامعة شيكاغو. ودرس في جامعات أخرى لفترة قصيرة، ثم عاد إلى الشرق الأوسط ليشرف على بنوك وشركات العائلة. هذه المرة، تحالفت العائلة، بقيادة الجلبي، مع الأميركيين لمواجهة الحكام اليساريين العرب، خاصة في العراق، وبالذات صدام حسين.

قبل غزو صدام حسين للكويت (سنة 1990)، عاداه الجلبي. وقبل هجوم 11 سبتمبر (سنة 2001)، حاول إقناع الأميركيين بالإطاحة به. يعني هذا أن الظروف خدمت الجلبي. وخدمه بصورة خاصة، غضب الأميركيين من الهجوم عليهم، ورغبتهم (التي لا يريدون أن يعترفوا بها حتى اليوم) في الانتقام من العرب والمسلمين.

ساعدت الاستخبارات الأميركية الجلبي بقوة وفعالية مرتين:

الأولى، ما بين سنتي 1992 و1996، عندما ساعدته على تأسيس «لجنة العراق الحر». لكنها تخلت عنه عندما اكتشفت انه لن يقدر على أن يخلصهم من صدام حسين، وانه رجل فاسد.

الثانية، ما بين سنتي 2001 و2005، وساعدته على تأسيس «المؤتمر الوطني العراقي». لكن، بعد غزو العراق بسنتين، اكتشفت بأنه أيضا عميل للاستخبارات الإيرانية. ليلة سقوط بغداد، نقلت طائرة عسكرية أميركية الجلبي إلى بغداد. وفي وقت لاحق، صار نائب وزير بترول، ثم نائب رئيس وزراء، لكنه سقط في الانتخابات العامة سنة 2005.

وتابع الكاتب سيرة الجلبي حتى اليوم، وقال انه يترأس لجنة للإشراف على وزارات الخدمة في العراق، وذلك حسب اتفاق مع المالكي، رئيس وزراء العراق الحالي. وأنه، في نفس الوقت، لا يزال يشترك في نشاطات بنوك وشركات العائلة. وقال الكتاب إن الجلبي حقق «الحلم العراقي» باستغلال «الحلم الأميركي».

من واشنطن حيث مركز القوة، عرف الجلبي كيف يزيد قوته وأسهمه، ويناور ويحاور، ويداهن ويراهن. كان كلامه حلوا مثل العسل، ونشاطه كثيرا مثل نحلة، وبهر واشنطن التقليدية بما لم تتعود عليه.

وجاء في الكتاب أيضا، قول الكاتب الغريب إن الجلبي نجح في أميركا مثلما لم ينجح في بريطانيا (حيث عاش سنوات كثيرة)، وبما لم ينجح في بلاد العرب. هناك كشفوه «كرجل يسير على حافة الهاوية، سياسيا، ماليا، وأخلاقيا».

هذا تعبير مهذب يدل على أن الجلبي رجل فاسد سياسيا.

قال الكتاب: «عرف الجلبي كيف يستغل قيمنا الأخلاقية، ومجتمعنا المفتوح، وثقتنا بأنفسنا». وأنه كان يعرف ان الأميركيين لا يكادوا يتلذذون بشيء مثل حديث الأجانب عن حريتهم، ودعوتهم لنشرها في بلادهم. وعرف حب الأميركيين للأرقام والحقائق: قدم لهم كل معلومة وكل رقم. وعرف كيف أن السياسيين لا يكادوا يهضمون معلومة إلا ويريدون غيرها. وأن الصحافيين، حتى إذا اكتشفوا أخطاءهم، وأصلحوها، واعتذروا، لا يريدون العودة الى الماضي. وقال الكاتب إن الجلبي تآمر لتحقيق حلمين:

الأول: عزل صدام حسين.

الثاني: وضع نفسه مكانه. لحسن حظه تعامل مع أميركيين ما كانوا يحتاجون الى دافع: شيني، نائب الرئيس، ورامسفيلد، وزير الدفاع، وولفويتز، نائبه، وآخرين. غير أنهم غدروا به: استفادوا من معلوماته (كانت أغلبيتها كذبا)، لكنهم لم يضعوه مكان صدام حسين. حتى الآن، أدانت كتب كثيرة ادوار بوش وشيني ورامسفيلد وولفوتس وغيرهم، من الذين تآمروا لغزو العراق. لكن الجلبي لم ينل نصيبه من النقد.. «لهذا كتبت الكتاب» قال المؤلف، وأضاف: «يحتاج الشعب الأميركي ليتأمل في أفعال الجلبي تأملا روحيا، وفي قدرته على إقناعنا بأن نغزو دولة لم تهددنا».

وفي النهاية، سأل مؤلف الكتاب عن دور الجلبي في السيناريوهات العسكرية الأميركية لضرب إيران، وقال إنه لم يعثر على دليل بأن الجلبي عميل للاستخبارات الإيرانية. لكنه عثر على أدلة أن له صلة معها. وأنه، لهذا، يستبعد ان يلعب الجلبي اي دور في ضرب إيران، هذا إذا كانت الاستخبارات الأميركية غفرت له ما فعل بها.

رفض الجلبي أن يتحدث مع مؤلف الكتاب، ويعتقد انه سيكتب عن نفسه بنفسه. وربما سيكون على خط كتاب «احتلال العراق»، الذي كتبه ابن شقيقته علي علاوي، وهو سياسي ومثقف عراقي، وكان وزيرا ثلاث مرات بعد الغزو الأميركي للعراق. لم يشرح علاوي دوره، ولم يتحمل أي مسؤولية عن ما حدث، بل انتقد السياسيين والمثقفين العراقيين (وكأنه ليس واحدا منهم)، وقال إنهم، بالإضافة إلى أميركا، مسؤولون عن الوضع الحالي الرديء في العراق.

كان علاوي وزير التجارة، ثم وزير الدفاع، في أول حكومة عراقية بعد الغزو الأميركي، وهي الحكومة التي ترأسها ابن عمه إياد علاوي. ثم كان وزيرا للمالية في حكومة إبراهيم الجعفري السابقة. وهو ابن أخت احمد الجلبي، رئيس مجلس الحكم بعد الغزو، وقريب نوري بدران، وزير الداخلية في نفس الحكومة، و«صديقه العظيم» هو موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي لحكومة العراق الحالية.

كتب علاوي، وربما سيكتب الجلبي:

أولا، «لم أتوقف يوما ما من التفكير في وطني».

ثانيا، «قاسيت من المنفى، والظلم، والتيه».

ثالثا، «ما كنت أعرف كم سيطول المنفى». وتفلسف علاوي في أخلاقية الغزو الأميركي، قال: «اقتنعت بأخلاقية إسقاط الحكومة الديكتاتورية بمساعدة الأجانب»، وسأل: «هل هناك أي سبب آخر يجعل الإنسان يؤيد احتلال بلده؟». لكنه أصيب بخيبة أمل عندما وصل إلى بغداد، وشاهد «طبيعة العراق الفوضوية، والعواطف المتطرفة»، وقال لنفسه: «سينهار كل شيء، وسينهار معه تأييده الأخلاقي للغزو الأميركي»، وقال: «شرحت ذلك لكل إنسان، لكنهم كانوا كلهم مشغولين بخدمة مصالحهم الخاصة». ربما سيقول الجلبي نفس الشيء عندما يكتب كتابه.