فرنسا تناقش فلاسفة ما بعد الحداثة

«ثورة مايو 1968.. الإرث المستحيل» لجان بيير لوغوف

TT

أعجبني الكتاب الذي أصدره مؤخرا الباحث الفرنسي جان بيير لوغوف. وقد اتخذ عنوان: «ثورة مايو 1968. الإرث المستحيل». والباحث المذكور هو عالم اجتماع وفيلسوف في آن معا. كما انه استاذ في جامعة باريس الأولى وباحث في المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسية.

في كتابه هذا يتحدث مطولا عما دعي لاحقا بفلاسفة ما بعد الحداثة: أي فوكو، وديلوز، وغاتاري، وسواهم. فهؤلاء رافقوا الثورة الطلابية مايو / 68، وشجعوها، وتبنوا أطروحات اليسار المتطرف أو خلعوا عليها المشروعية الفلسفية. ويرى المؤلف ان الثورة التي اندلعت عام 1968 ضد نظام الجنرال ديغول هي أكبر حدث اجتماعي وسياسي شهده المجتمع الفرنسي منذ عام 1945. ولا يمكن فهم الثقافة الفرنسية المعاصرة، بل ولا حتى السياسة، إذا لم نتوقف طويلا عند هذا الحدث. ولكن حتى بعد مرور ثلاثين عاما عليه، فإن المجتمع الفرنسي لم يهضمه تماما ولم يضطلع به كما ينبغي. فعلى عكس الأحداث التاريخية والثورات السابقة فإن ميراث هذا الحدث لا يزال مستحيلا. ولكي نفهم التأثيرات العميقة لهذا الحدث على فرنسا المعاصرة، فإنه ينبغي علينا ان نعود إلى طوباويته الأولى الرائعة، والى فشله، ثم الى تلك السنوات التي اشتعلت فيها الأهواء العنيفة وتحولت الى تيار يساري متطرف ضخم. واليوم، وبعد مرور اربعين عاما على ذلك الحدث، فإنه قد آن الأوان لكي نحلله بشكل نقدي، لكي نستخلص منه الدروس والعبر. ولكي يفعل ذلك، فإن المؤلف يتوقف مطولا عند كبار مفكري تلك الفترة من أمثال فوكو وديلوز بشكل خاص. فمن المعلوم ان هذين الفيلسوفين انخرطا في حركة اجتماعية عنيفة وراديكالية، وحركة ارادت استئصال كل ما سبق: أي استئصال الحداثة ذاتها. ولذلك دعيت حركتهما بفلسفة ما بعد الحداثة. فقد ثارا ضد هيبة الدولة، والتعليم، والمجتمع، والمؤسسات، وأرادا اقتلاع كل شيء من جذوره. ولكن اذا كانت حركتهما قد فشلت سياسيا، فإن افكارهما انبثت في مختلف انحاء المجتمع. وهي افكار كان لها جانب تحريري في البداية بدون شك، ولكنها انقلبت بعدئذ الى نوع من اليسارية الطفولية، أو العدمية النيتشوية. وأصبحت تهدد القيم الكبرى والأسس التي يرتكز عليها المجتمع الأوروبي. من هنا خطورة فلسفة ما بعد الحداثة. فهي تبدو براقة وجذابة للوهلة الأولى، ولكنها في الواقع تنطوي على نزعة فوضوية مدمرة للانسان والمجتمع على حد سواء. ويقول المؤلف بان احد جوانب تلك الثورة الطلابية الكبرى التي هزت فرنسا كان موجها ضد مؤسسة الطب النفسي، وليس فقط ضد المؤسسة التعليمية والجامعية. وكانت تهدف الى اعادة النظر في مفهوم الجنون والانحراف عن المألوف. وكانت محقة في مهاجمة تلك الأساليب البالية السائدة في المصحات النفسية المسؤولة عن مداواة الامراض العقلية. فقد كانت عبارة عن اساليب قمعية تنبذ وتستبعد كل أولئك الذين لا تنطبق عليهم المعايير الاخلاقية والعقلانية المهيمنة في تلك الفترة. وساهمت ابحاث فوكو وديلوز الريادية في تغيير نظرة المجتمع تجاه الجنون والمجانين عن طريق توسيع مفهوم العقل نفسه. وشككت بالحدود الفاصلة بين الانسان الطبيعي/ والانسان غير الطبيعي باعتبار انه لا يوجد انسان طبيعي بالكامل. وهكذا زعزعت اليقينيات السائدة في المجتمع الفرنسي وقالت بانه لا يوجد انسان على وجه الارض الا ويحمل في داخله بعض الجنون المخفي، فالانسان ليس عقلا كله كما قد نتوهم، بل وحتى المجتمع فإنه لا يخلو من بعض القوى اللاعقلانية التي تضطرب أو تختلج في احشائه وأحيانا تنفجر اذا ما توافرت الظروف لذلك. وبالتالي فمن السهل ان نتهم الآخرين بالجنون ونزعم باننا وحدنا سليمو العقول.. وهنا يكمن الجانب التحريري من فلسفة فوكو وديلوز: اعادة النظر في المفهوم الدوغمائي الضيق للعقل. وهذا النقد للطب النفساني التقليدي لم يقتصر على فرنسا وانما تجاوزها الى انكلترا وايطاليا، وسواهما. فالطبيبان النفسانيان دافيد كوبر ورولاند لينغ لعبا دورا مهما في نقد مؤسسة المصحات العقلانية في انكلترا ونقد اساليبها القمعية أو المتخلفة في معالجة المرضى النفسانيين. وقل الأمر ذاته عن العالم النفساني فرانسيسكو بازاغليا في ايطاليا. واما الطبيبان جان أوري وفيليكس غاتاري فقد فتحا عيادة نفسية لمعالجة الامراض العقلية بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة السائدة في المصحات أو المستشفيات التقليدية. فقد فتحا ابواب العيادة الطبية على الخارج وغيرا العلاقات الكائنة بين الاطباء والمرضى واعطيا حق الكلام للمجانين انفسهم أو من يُعْتَبرون كذلك. وحلت العلاقة الانسانية محل العلاقة الفوقية أو الاحتقارية في معاملة المريض النفسي. وكان ذلك يعتبر بمثابة ثورة في مجال الطب النفسي. اما التنظير الفلسفي الذي خلع المشروعية الفكرية على هذه الثورة فقد تجسَّد في كتابين اثنين: الأول هو «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» لميشيل فوكو، والثاني هو «ضد أوديب» لفيليكس غاتاري وجيل ديلوز وقد صدر الكتاب الاول عام 1961 والثاني عام 1972. في الكتاب الأول يدرس فوكو كل الارشيف المتعلق بالجنون والمصحات العقلية الأوروبية. وهو أرشيف يمتد من عصر النهضة في القرن السادس عشر الى القرن التاسع عشر. انه ارشيف ضخم استطاع فوكو بعبقريته ان يهضمه ويستوعبه ويكتب عنه بأسلوب رائع لا يضاهى.

وعرَّى فوكو هذه النظرة عن طريق ربط الطب النفسي بمؤسسة المصح العقلي التي اتخذت طابعاً قمعياً تحت ستار تقدم العلم. وكشف ايضا عن وحشية المعاملة التي كان الاطباء النفسانيون يتبعونها في معالجة المرضى. وبدت للجميع وكأنها فضيحة لا تحتمل. ولكن هذا الكتاب الهام ظل مغموراً في وقته ولم يحظ بالشهرة التي يستحقها. وقد انتظر في الظل والصمت مدة سبع سنوات حتى انفجرت ثورة مايو 1968 وعرف المثقفون عندئذ مدى أهميته والكشف الثوري الذي ينطوي عليه. وهكذا راح آلاف الطلاب الجامعيين يقرأونه ضمن منظور النقد الراديكالي للمجتمع والمؤسسة الطبية النفسانية (أي مشافي المجانين في الواقع). وقالوا بأنه يشكل انقلاباً ليس فقط على المصحات العقلية ومؤسسة الطب النفسي وانما ايضاً على جميع المعارف والسلطات المؤسساتية. وأما كتاب جيل ديلوز فقد ساهم ايضاً، وعلى أثر كتاب ميشيل فوكو، في ذلك التيار العام المتمثل بتحرير الرغبة وفك الرقابة القمعية التي يمارسها العقل على رغباتنا وأحلامنا. ونقد بعض المسلمات الفرويدية للتحليل النفسي وبخاصة عقدة أوديب. ولذلك دعي الكتاب: ضد أوديب: أي ضد التحليل النفسي الذي يريد تدجين الرغبة أو تقليم أظافرها إذا جاز التعبير. كما وانتقد الاسلوب الباطني بكتابات جاك لاكان والحذلقة السخيفة لبعض أتباعه. وهكذا بدا كتاب ديلوز وغاتاري بمثابة هبّة ريح طازجة وتحريرية. وانخرط هؤلاء الفلاسفة جميعاً في المعارك السياسية ضد القمع: أي قمع اليساريين والعمال والمسجونين والمنبوذين لسبب أو لآخر. وقدموا تأييدهم للقوى الاحتجاجية التي كانت تناضل ضد السلطة إلى جانب الطبقة العاملة ولكن حركة اليسار المتطرف التي تبنت افكارهم راحت تبسّطها وتحولها إلى شعارات دوغمائية كما يحصل عادة. ولكن هل يعني ذلك ان فوكو وديلوز وغاتاري كانوا بريئين من كل مسؤولية؟

اما كتاب «ضد أوديب» لجيل ديلوز وفيليكس غاتاري فقد اتهم التحليل النفسي «بخصي» اللاوعي أو محاولة قمعه. وقالا بانه يساهم في المشروع العام لقمع الرغبة. فعقدة أوديب التي ركز عليها فرويد في تحليله لمسألة الجنس، أو الليبيدو تقمع الرغبة عن طريق إخضاعها للقانون الاخلاقي السائد في المجتمع وعن طريق إشعارها بالذنب والخطيئة. وبالتالي فالتحليل النفسي الذي كان ثورياً في البداية تحول إلى مشروع لتدجين الرغبة وإلى عقيدة للرأسمالية تحل محل العقيدة الدينية. ان المحلل النفساني يدجن اللاوعي اذ يجعل من نفسه الناطق الرسمي باسمه. فقد تحول الى خبير مختص بتحليل تداعي الخواطر والافكار لدى المريض. وهو يحللها عن طريق إعادتها كلها إلى منهجيته الخاصة وعقليته الخاصة. وبالتالي فيحذف من خطاب المريض كل ما لا يخضع لنظرته، كل ما يتجاوز هذه النظرة. فأقل هفوة تصدر عن المريض وأقل انحراف عن الخط العام يسارع المحلل النفساني الى التركيز عليه باعتباره مرضا حقيقيا! بمعنى آخر فقد اصبح هذا المحلل شرطيا يقمع كل رغبات مريضه او كل حركاته وسكناته باعتبارها انحرافا خطيرا يدل على مرض خطير! هذا في حين انها عبارة عن اشياء عادية ولا تستحق كل هذا الاهتمام والتركيز. فمن يخلو من تصرفات غريبة او حتى شاذة في بعض الاحيان؟ من يخلو من بعض العقد والهلوسات؟.. ولمـاذا نستغرب او نستهجن أي خروج عن المألوف؟ ومتى نوسع عقلنـــا لكي نستوعب هفوات الآخرين وغرابة اطوارهم دون ان نرى فيها مرضا او جنونا؟