أزمة خطيرة تعصف بسوق التحف الفنية الفرنسية

بكين تسبق باريس.. ونيويورك تكتسح الجميع

TT

المعلومات التي وردت في التقرير الذي أعدّ مؤخراً لوزارة الثقافة الفرنسية، تعترف للمرة الأولى بأن باريس فقدت مكانتها الرائدة في سوق الفن، والركود هو ما بات يمّيز نشاط سوق تحفها الفنية، حيث تراجع ترتيبها خلال نصف قرن من الأولى إلى الرابعة بعد نيويورك، لندن، والصين، هذا البلد الذي يعتبر وافداً جديداً على سوق الفن الحديث. فما تبيعه غاليريات نيويورك في أربعة أسابيع تبيعه باريس في سنة كاملة. كما أن نسبة التحف الفنية التي تباع أصبحت تفوق مرتين تلك التي تنتقى. تراجع باريس يتّضح أكثر إذا علمنا أن مؤسسة Drouot«دروو» الفرنسية الشهيرة للمزاد العلني، لم تّعد تتفاوض في حقوق بيع أكثر من %5 من التحف الفنية، تاركة %70 منها لمؤسستي المزاد العلني الأميركيتين «كريستيز» و«سوثيبيز»، كما أن الأرباح التي كانت تحققها في السنوات الخمسين والتي كانت تفوق ما تحققه «كريستيز» و«سوثيبيز» مجتمعتين، أصبحت لا تتعدى 500 مليون يورو (لسنة 2007)، في الوقت الذي وصلت فيه دار «كريستيز» في السداسي الأول فقط من نفس السنة إلى مبلغ 3.2 مليار دولار، ودار «سوثيبيز» إلى أكثر من مليار ونصف المليار دولار.

الأزمة حسب الخبراء تمّس مجالين من سوق الفن بدرجات مختلفة، فهم يفّرقون بين سوق الفن التقليدي أو «الكلاسيكي» وسوق الفن المعاصر أو الفن الحديث. فبينما يتماثل الفن الكلاسيكي إلى التّحسن منذ سنة 2002، حيث سجلت نشاطاته زيادة محسوسة وصلت سنة 2007 إلى نسبة %13، يعرف الثاني ركوداً كبيراً في مجال الإبداع وحركة بيع وشراء التحف الفنية. نيويورك هي منذ ستينات القرن الماضي، قبلة الفنانين والخبراء الذين ينشطون في مجال الفن المعاصر وما زالت كذلك لغاية اليوم. فهي تضّم أكبر المتاحف مثل: «موما، كوكنغام، موزيام أوف أميركان أرت...». أما أكبر المقتنين للتحف الفنية فهم اميركيون وعلى رأسهم: ديفيد جفن، رولند لودر، ليون بلاك، هنري كرافيس. كما أن هذه المدينة الأميركية تزخر بأكثر من 700 قاعة عرض وبيع، 300 منها في منطقة مانهاتن لوحدها، بينما لا تّضم باريس سوى 120 قاعة عرض وبيع. هذا في الوقت الذي تسّهل فيه الولايات المتحدة الأميركية إقامة ونشاط الفنانين والمقتنين الأميركيين والأجانب، وتعفيهم من حقوق المتابعة والضرائب إذا قدموا بعض إبداعاتهم للمتاحف، بينما تثقل فرنسا كاهلهم بالإجراءات البيروقراطية والإدارية. الطلب على الفنانين الفرنسيين هو الآخر ضعف وخفت، إلى درجة أن التنبؤ بجنسية أولئك الذين يحتلون قائمة «كونت كومباس» الخاصة بأحسن الفنانين المعاصرين أصبحت ممكنة. فالأميركيون هم دائما على رأس اللائحة، متبوعون بالألمان ثم البريطانيين. ولا يتمثل الفرنسيون إلا بعدد قليل جداً، وأهمهم على اللائحة: كريستيان بولتسكي، صوفي كال، بورن، بيار هوغيه، ويُقال ان أعمال بعضهم لا تجد لها من مشتر إلا في أوساط فرنسية حكومية، تقوم بذلك لدعم صورة الفنانين الفرنسيين.

تقول «آن لاوميار»، رئيسة اللجنة المشرفة على القاعات الفنية: «بغض النظر عن الوضعية الاقتصادية، فإن مجال الفن المعاصر لا يثير اهتمام المقتنين، ثم أين هم الفنانون الفرنسيون الذين تعرض نتاجاتهم في نيويورك بصفة دائمة؟ لا أحد ما عدا «جاك فلغلي» الذي يبلغ من العمر اليوم 81 سنة. وكأنما الفن الفرنسي المعاصر قد توقف عند الستينات. الطلب على نتاجات الفنانين الفرنسيين ضعيف جداً، لأن الكل يؤمن بأن الإبداع يكون حيث تكون حيوية السوق». رغم ذلك فالتظاهرات الفنية لا تقل في «معرض باريس الدولي للفن المعاصر» fiac عن أكبر اللقاءات الفنية. فهو يجمع سنوياً أكثر من 200 غاليري من جميع أنحاء العالم ويقصده آلاف الفنانين. ولهذا فإن «آلان كومان» الباحث في مجال الفن المعاصر يرى «أن مشكلة الفرنسيين أنهم يسبحون عكس التيار. ففي الوقت الذي يفضّل فيه أمناء المتاحف الأميركية والألمانية الفنانين الذين تحقق مبيعاتهم أرباحاً، يصرّ الفرنسيون على مساندة أولئك الذين يبيعون بصعوبة، وإن كانت أعمالهم تحمل قيمة فنية إلا أنها تمتاز بصبغة تأملية كبيرة قد لا تحوز على إعجاب الجميع. وهذا راجع ببساطة للعقلية الفرنسية المبنية على معاكسة السوق».

سوق الفن الكلاسيكي وإن كان قد فقد حيويته المعهودة إلا أن الثقة فيه ما زالت قائمة والوضعية لا تخلو من أمل بفضل سمعة خبرائه المعروفين عالمياً وأهمية التراث الفني الفرنسي. فالمزاد العلني «لدروو» مثلاً شهد السنة الماضية مبيعات مهمة، كعملية بيع لوحة «بلو ستار» لجوان ميرو التي وصل سعرها إلى 11.6 مليون يورو وكذلك بيع 16 تحفة ولوحة تخطّى سعرها المليون يورو، بالإضافة إلى التغطية الإعلامية الواسعة التي حظيت بها عملية بيع مجموعة اللّوحات الزيتية التي كانت ملكاً للممثل المعروف «آلان دولون»، وبيع قطعة صينية نادرة بمبلغ قياسي وصل إلى مليون و500 ألف يورو. المشكلة حسب «كريستيان ديديي»، رئيس نقابة تجّار التحف القديمة تكمن في كثرة الضرائب والرسوم الجمركية التي تفرضها الهيئات الحكومية على المقتنين وتجار التحف واللوحات حتى أصبح معظمهم يهرب من فرنسا وينقل نشاطه إلى الولايات المتحدة الأميركية. وإن كانت أوروبا عموما هي أكثر مناطق العالم تقنيناً لأسواقها الفنية، إلا أن فرنسا هي من يحتل المرتبة الأولى بنسب ضرائبها العالية: %5.5 ضريبة استيراد أي تحفة أو لوحة فنية و % 19.6 حين يتعلق الأمر باستيراد أثاث، مسكوكات أو مخطوطات يقل عمرها عن 100 سنة، ناهيك عن الضرائب الأخرى التي تفرض على أرباح ومداخيل المقتنين والتجار من وراء بيع هذه التحف.

عواقب ذلك على القطاع الاقتصادي، جعل وزيرة الثقافة الفرنسية كريستين ألبانيل تعلن عن سلسلة من الإجراءات لإخراج السوق من ركوده. هذا لأن سوق الفن ليس مجرد تجّار ومقتنين أثرياء فقط بل هو قطاع اقتصادي مهمّ، ترتبط به 50.000 وظيفة مباشرة، وهو أيضا مصدر عيش 38.000 فنان، كما يستقطب مداخيل مالية وسياحية لا يستهان بها، بالإضافة إلى الصورة الإيجابية التي يعكسها عن البلد واستفادة المتاحف في اخر المطاف من المجموعات الفنية.

وأهم الإجراءات التي اتخذت للحد من هذا الوضع المتدهور، منح قروض من دون فائدة للراغبين في شراء تحفة فنية كما فعلت بريطانيا سنة 2004، لتشجيع حركة بيع وشراء التحف. الحكومة تعول أيضاً على تشجيع نصرة الشركات الخاصة، عن طريق منحهم تخفيضات ضريبية مهمة في حالة اقتناء تحف ولوحات فنية. علما أن الدول التي يعرف سوق فنها حيوية اكبر، كبريطانيا، ألمانيا والولايات المتحدة تلجأ لظاهرة «النصرة» أو تمويل الشركات للقطاع الثقافي منذ سنوات طويلة. كما تنوي الحكومة تخفيف الإجراءات الإدارية الثقيلة المفروضة على مؤسسات المزاد العلني لكي تتمكن من العمل بحرية وسهولة اكبر.