أشعار أدونيس ونزار قباني نواة لـ «متحف قصائد الفن التشكيلي»

في ملتقى الرسم الدولي الأول بدمشق

TT

هل الصورة هي التي تحاور القصيدة أم القصيدة هي التي تحاور الصورة؟ هذا ما كان على الزائر ان يفهمه خلال «ملتقى الرسم الدولي الأول» الذي دعت إليه ورشة البستان السورية ما بين 5 - 18 أيار الجاري تحت رعاية وزارة الثقافة. فقد طرح الملتقى فكرة مزاوجة الشعر مع الرسم، حيث يختار كل فنان قصيدة شعرية يعبر عن دلالاتها من خلال لوحة تشكيلية، فيما يشبه عملية «ربط روحي» بين الصورة والكلمة، بحسب تعبير الرسام فؤاد أبو سعدة. وهو احد المشاركين في الملتقى، والذي اعتبر أن «القصيدة تحرض الذاكرة البصرية لدى الفنان».

لا يعتبر المشروع محفزاً فقط، وإنما واعداً أيضاً. فالمشرف العام، صاحب فكرة الملتقى الفنان الممثل فارس الحلو يطمح إلى أن تكون حصيلة هذا النتاج، مجموعة لوحات من القصائد التشكيلية يبدعها المشاركون، وتصبح نواة لتأسيس متحف قصائد الفن التشكيلي. ويأمل الحلو أن المتحف المقترح سيستقطب الفنانين التشكيليين في المستقبل، لكي يمهروا تواقيعهم فيه بلوحات شعرية تجسد خبرتهم ونضج موهبتهم للأجيال المقبلة. كما سيتاح لمتذوقي الفنون التعرف على ذائقة الفنان الأدبية وطريقة معالجته للعمل الفني.

الفكرة بحد ذاتها ليست جديدة، لكنها للمرة الأولى في سورية التي يقام فيها سمبوزيوم للرسم تكون فيه القصيدة حاضرة كأساس للوحة وبموازاتها، حيث كتبت القصائد المختارة على لوحات مستقلة وضعت إلى جانب اللوحة المستوحاة منها. على هذا النحو بُدئ العمل في الملتقى الذي شارك فيه نحو ثلاثة عشر فنانا من مختلف أرجاء العالم. والتقت تحت عنوان «قصائد الفن التشكيلي» في فضاء حديقة المتحف الوطني وسط العاصمة دمشق، ليشكل المكان بدلالته التاريخية بعداً أكثر عمقاً ورسوخاً بكل ما يعنيه ذلك من حضور للإرث الحضاري المغرق في القدم، والمتوزعة آثاره في الحديقة.

يقف الفنان الاسترالي كين جونسون بين لوحة فسيفساء أثرية، والى جانبه قصيدة لجلال الدين الرومي ليرسم مشاعره الحميمة. كين جونسون المتأثر بالثقافة الشرقية، يعبر عن استغرابه لتقبل الناس في دمشق للوحته وتعبيرهم عن إعجابهم بها. كان يظن أنهم لا يتقبلون اللوحات التي تصور لقاءات الحب الحميمة، كان ذلك في دردشة سريعة عقدت بينه وبين متفرجين عابرين، قالوا له إن الشرقيين أناس عاطفيون ولفتوا نظره إلى لوحة الفسيفساء، وسألوه أيهما أكثر جرأة في التعبير لوحتك أم تلك التي تعود إلى آلاف السنين؟

تنوعت النقاشات بتنوع المشاركين، واختلفت موضوعاتها باختلاف ثقافاتهم، فنرى الصيني وقد اختار قصيدة عن الحب، يعيد رسمها بالطريقة الصينية الكلاسيكية أي بالحبر على ورق الأرز، مضيفا تنوعاً من الشرق الأقصى إلى الشرق الأدنى، ليمتزجا معاً، في نكهة مستظرفة، تمنح للملتقى خصوصية متجددة مع كل تجربة.

عموماً، تباينت اختيارات الرسامين بتباين أساليبهم، إذ أظهر الفنانون العرب المغتربون توقاً خاصاً لقصائد تمزج بين العلاقة مع المكان كوطن مفتقد وحب المرأة كحضن آمن. فاختار فؤاد أبو سعدة السوري المقيم في اسبانيا، قصيدة لأدونيس عن دمشق، يقول انها تحوي الكثير من الألوان والخطوط، كأنها عمل تشكيلي يقوم على تلون الحروف. لذا شعر بقربه منها وبإمكانية عيشها كتشكيل. ومع البدء بالعمل، يتابع أبو سعدة: «شعرت بحرية كاملة لكي أنطلق إلى العوالم الكونية والمعمارية والأحاسيس المتناقضة التي تعبر عنها القصيدة».

الفنان بهرام حاجو السوري المقيم في ألمانيا، أضاف عنصراً آخر للوحة وللقصيدة، فكان التأسيس للوحة بتراب الشام، فجعل أرضية اللوحة من تراب حديقة المتحف، للتعبير عن قصيدة نزار قباني «أول أنثى أول رجل» المتكئة على التاريخ: ‏

يتهيأ لي أنني قابلتك ‏

قبل العصر الكنعاني وقبل العصر الكلداني ‏

وقبل العصر اليوناني ‏

وقبل العصر الفينيقي ‏

وقبل حدود الوقت، وتسمية الأيام. ‏

شاعر الألوان العراقي جبر علوان، اختار قصيدة سعدي يوسف (امرأة صامتة) وهي في حد ذاتها صورة تشكيلية أكثر منها استعارات ودلالات لغوية. تقول القصيدة:

في فراش البارحة

حيث كان الشرشف الكتان مكوياً

وكان الليل مطوياً على خضرته

في الركن

أو حمرته في ما تبقى من نبيذ الريف

كان الصمت يعلو

وتموج الأرض مستنجدة بالشرشف الكتان

مثلما تضج لوحة علوان بالألوان الصريحة، تضج بالحياة، ما أعطى للقصيدة أكثر مما أخذت منها، فكان تأثيرهما متوازياً في مخاطبة المشاعر والغرائز غير المعلنة.

وبالمناسبة، سبق لجبر علوان وسعدي يوسف أن التقيا في تجربة مشابهة من خلال ديوان «ايروسية» الذي تضمن قصائد ولوحات.. تممت فيها اللوحة القصيدة، والعكس صحيح في علاقة تزاوج أنتجت أسلوباً مستحدثاً في التعبير.

الأمر يختلف مع ماهر البارودي المقيم في باريس والمعروف برسوماته الصادمة بسخريتها المرة، الخالية من الرومانسية، باختياره قصيدة لنزار قباني عن دمشق، المشهور برومانسية ولهه الدمشقي وعشقه للوطن.

يقول البارودي، إنه رأى في هذه القصيدة معاني ساخرة تلائم مزاجه، فقد أمضى أكثر من يومين للبحث في الانترنت عن قصيدة تنسجم مع أسلوبيته في الرسم، فكان اختياره لقصيدة (لا بد أن استأذن الوطن).

‏ أريد أن أراك يا سيدتي..

لكنني أخاف أن أجرح إحساس الوطن...

أريد أن أهتف إليك يا سيدتي

لكنني أخاف أن تسمعني نوافذ الوطن.

في لوحة البارودي، يتبدى بوضوح اختلاف القراءات، فتلعب القصيدة دور المحرض لمجموعة أفكار، غير التي تطرحها، بل وربما تتناقض معها كلياً.

هذا الملتقى، أطلق حواراً ساخناً بين الكلمة واللوحة، فنراهما تتفقان تارة فتتممان المعنى، أو تفترقان لتكون إحداهما دافعاً للأخرى للتحليق نحو فضاءات جديدة، وتارة أخرى تتفاعلان، فلا يعرف أيهما سبباً في وجود الآخر، كما في لوحة الفنان جاكو حاج يوسف الذي اختار قصيدة إبراهيم ناجي (الأطلال) أغنية أم كلثوم الشهيرة، وكذلك في عمل فاروق قندقجي الذي اختار قصيدة (قراءة في عيني امرأة متوحدة) للشاعر «محمود نقشو» ولوحة العراقي سيروان باران عارف، المبنية على قصيدة الجواهري (بغداد). كذلك عمل يوسف عبدلكي، الذي تتوافق فيه روحه الفنية مع شعر نزيه أبو عفش، فوقع اختياره على قصيدته (كم من البلاد أيتها الحرية):

ضيقة هذه الأرض يا سيدي ‏

ضيق في البلاد الندى والبكاء ‏

كم الساعة الآن يا سيدي؟ ‏

وكم الوطن الآن؟‏

في حديقة المتحف الوطني، امتد حوار ثقافي فني رفيع، لم يقتصر على المشاركين والمشجعين للملتقى من الأصدقاء والداعمين، بل شمل فنانين انضموا إلى هذا الملتقى تطوعاً، فجلبوا أدواتهم وراحوا يرسمون في حالة تشبه العدوى، استقطبت اهتمام زوار المتحف والمارة، فشاركوا في الحوار من خلال دردشات، وإن كانت عابرة، فهي لا شك تؤسس لحالة ثقافية اجتماعية حيوية، تغني الفن وتجعله على تماس مع الشارع.

ويعتبر الفنان الممثل فارس الحلو المشرف العام على الملتقى أن «نجاح المشاريع الثقافية في مجتمعاتنا يبقى محدوداً، إذا غابت عنها بعض المقومات، أولها: أن تلفت هذه المشاريع نظر المجتمع المحلي وتشركه فيها، وثانيها أن تحمل فكرتها إشكالية ما، وثالثها أن يكون هدفها قريب المدى وبعيدا في آن واحد، وآخرها أن يتوفر مصدر التمويل الكافي لتغطية تكلفتها والتي غالبا لا تكون كبيرة». ومن خلال تجربته في ملتقى النحت الأول 2006 وفي ملتقى النحت العالمي 2007 الذي رافقته أنشطة متنوعة في بلدة «مشتى الحلو» يقول فارس الحلو إنه كان للمجتمع المحلي دور بارز في إنجاحها.

وهو ما تعتز به «ورشة البستان»، كونها تسعى إلى «دعم الحراك الثقافي، وتسهم في تعزيز الثقافة البصرية لدى الناس».