الانفتاح لا بد أن يكون أولا من خلال اللغة الأم

TT

إذا كان للترجمة في الماضي دورها المهم في اكتساب المعرفة وإثراء فكر المجتمع وإنماء عطائه، أو في تسيير شؤون الحياة وتسهيل طرق التعامل وتطوير سبل العيش، فإن لها في عصرنا الحاضر بلا شك الدور الأكبر والأهم، حيث تعقدت الحياة وتشعبت طرقها وتنوعت حاجاتها وشؤونها ومطالبها، واختلفت معارفها وتفرعت واتسعت، وأصبحنا نشهد ثورة غامرة من المعلومات وفيضاً كبيراً من المفاهيم، وتنامياً كبيراً في كل ما يمكن أن يقرب بين المجتمعات ويصل بين أفكارها وحضاراتها من وسائل وأجهزة وأدوات. هذا في الوقت الذي تضاعفت فيه حدة الصراع بين لغات هذه المجتمعات وحضاراتها نتيجة لنمو هذا التواصل واتساع مجالاته، مما جعل الترجمة مطلباً حضارياً وقومياً أساسياً في آن واحد، إذ لا بد للمجتمع أن ينفتح على المجتمعات الأخرى وعلى معارفها ويتفاعل معها بالمقايضة والأخذ والعطاء والإعارة والاستعارة، وإلا عاش منفصلاً عن حاضره متخلفاً عن ركب الحضارة الإنسانية. وهو في الوقت نفسه محتاج لأن يحمي لغته من الآثار الخطيرة للصراع المحتدم، ليحافظ على هويته ويؤكد ذاته ويثبت استقلاله وانتماءه، وإلا ذابت حضارته في حضارات الأمم الأخرى وضاعت هويته.

والانفتاح على المجتمعات الأخرى لا يكون من خلال لغة أجنبية بعينها، وإلا أصبح هذا الانفتاح محدوداً ومفروضاً في الوقت نفسه، ولا يمكن أن ينعكس من خلاله إلا جانب يسير من حقيقة الثقافة الإنسانية، ذلك لأن اللغة الأجنبية الواحدة في العادة تحدد نوعية الثقافة التي ينفتح عليها المجتمع أو الفرد، وهو بالتالي لا يعرف من الثقافة الإنسانية سوى ما تسمح له بمعرفة هذه اللغة، اللهم إلا أن يتعلم لغات متعددة أخرى، وهو أمر عسير، إن لم يكن مستحيلاً. وإذن فإن الانفتاح لا بد أن يكون أولاً وبنحو أساسي من خلال اللغة الأم نفسها. أي بنقل وترجمة كل ما يحتاج إليه من المعارف والعلوم والخبرات والتجارب الإنسانية عن لغات الأمم المتقدمة إلى اللغة القومية ذاتها، ليمكن استيعابه وهضمه من قبل صاحب هذه اللغة، ومن ثم تحويله إلى عناصر إيجابية مطورة وطاقات إبداعية جديدة فاعلة مثمرة.

وانفتاح الأمة على حضارات الأمم الأخرى أيضاً لا يكون بالأخذ منها فحسب، وإلا أصبحت الأمة مجرد مستهلِكة وعالة على غيرها. وإنما يكون بمقايضة هذه الأمم ومبادلتها، لتعكس الأمة ما لديها من قدرات وطاقات في التفكير والإبداع، وتطلع الشعوب على ما لديها من تراث خصب مثمر ثري ومن نتاج علمي ووجداني يبرز هويتها ويثبت أصالتها ويظهر قوتها، ويبعثهم على التواصل والتفاعل معها والتوجه إليها، وهكذا ترسم الأمة صورتها المشرقة وتبني مكانتها البارزة بين الأمم وتفرض على الآخرين احترامها. وكل ذلك لا يتحقق على الوجه المطلوب إلا عن طريق النقل والترجمة من اللغة القومية إلى اللغات الأخرى.

إن ما سبق ذكره من مهام ووظائف الترجمة هو الذي جعل الترجمة ذاتها موضع اهتمام كبير لدى الأمم المتقدمة في هذا العصر. حيث نمت العلاقات السياسية والعلمية والاقتصادية بين الأمم على اختلافها، وتكاثرت المنظمات الدولية والإقليمية وتطورت الأسواق المشتركة، فعظمت نتيجة لذلك مكانة الترجمة واتسعت مجالاتها، فأقبلت الجامعات على إنشاء المعاهد أو الأقسام المتخصصة فيها، وعقدت مؤتمرات دولية كثيرة لمعالجة مشاكلها وبحث شؤونها، وأنشئت الاتحادات الدولية الخاصة بها. كما نشطت المؤسسات والشركات التجارية الخاصة في إعداد المترجمين وتدريبهم، وفي إنتاج المترجمات والأنظمة والبرامج المتعلقة بالترجمة الآلية في مختلف حقول المعرفة، وهكذا انتعشت مهنة الترجمة وزادت حيويتها وعظم شأنها في كثير من أنحاء العالم المتقدم.

أما في بلادنا العربية فإنه على الرغم مما بلغته المعارف الإنسانية من اتساع وما وصلت إليه تقنيات العصر من تقدم وما وصلت إليه مهنة الترجمة في البلاد المتقدمة من حيوية ومكانة، فإن الترجمة في هذه البلاد ما زالت متخلفة قاصرة، لا تفي بالحاجة الملحة إليها. ومما يدل على ذلك أن المتوسط السنوي لمجموع ما يترجم في العالم العربي لم يتجاوز كما تفيد التقارير الخاصة بذلك حدود الأربعمائة كتاب، وهو رقم صغير بالمقارنة إلى دول العالم المعاصر.. هذا في الوقت الذي تخوض اللغة العربية فيه صراعاً شديداً على البقاء أو النفوذ في المنظمات الدولية وفي الشركات والجامعات والكليات العلمية العربية، فضلاً عن الأجنبية. ويتواصل الإلحاح على الترجمة والتعريب من أجل إثبات الهوية والدلالة على القدرة والأصالة وعدم إشعار المجتمع بالعجز وبحاجته للتبعية، حيث ما زالت تعتمد الجامعات العربية على تدريس العلوم باللغة الأجنبية وتعتمد على المصادر وموارد المعلومات المدونة بهذه اللغة الأجنبية، مما يبرز العوز الشديد للكتب والمؤلفات المعربة ولكل ما يبرز أصالة الإنتاج الفكري ويبرهن على قدرات الأمة ووعيها الحضاري. ليس هنا مجال التفصيل في الحديث عن أسباب تخلف الترجمة أو ضعفها في البلاد العربية، إلا أنه يمكن القول بنحو موجز بأن من جملة المعوقات التي أدت إلى ضعف الترجمة وتخلفها وحالت دون قيامها بدورها الحيوي الراهن في هذه البلاد عدم توفر هيئات متخصصة منظمة متكاملة تتولى الترجمة، وتقوم بالإشراف عليها، وعدم وجود المدارس والأقسام اللازمة لتخريج الأعداد المطلوبة من المترجمين المتميزين، الأمر الذي أدى إلى بقاء الاعتماد في كثير مما يصدر من أعمال مترجمة على المبادرات الشخصية والجهود الفردية غير الكفوءة.

ولا شك في أن من أسباب تخلف الترجمة أيضاً ما يمكن أن يعود في أصله إلى السياسات العربية القائمة، والتي لا تجد في الحرص بما فيه الكفاية على توفير الأسس المنظمة أو المنشطة لحركة الترجمة، أو تهيئة الآليات الأساسية الكافية لتطويرها وحمايتها، ولا حتى في حماية اللغة القومية وثقافتها، ربما لعدم إدراكها لعلاقة ذلك بالمستقبل السياسي والإداري للدولة. هذا بالإضافة إلى أن هناك أسبابا تعود بصورة مباشرة إلى المؤسسات اللغوية نفسها، ومنها المجامع اللغوية، التي لا تعمل في اعتقادي بما فيه الكفاية كذلك على توثيق علاقاتها بالمؤسسات التعليمية والإعلامية العربية وإطلاع هذه المؤسسات بنحو مستمر على ما تضعه من معاجم ثنائية اللغة وما تترجمه أو تعربه من مصطلحات أجنبية تساعد في تنشيط عمليات الترجمة. لقد أصبح تنشيط حركة الترجمة في عالمنا العربي أمراً حيوياً ملحاً، تفرضه طبيعة المجتمع المتحضر بلا شك، كما أصبح من الضروري أن يقوم نشاط الترجمة وتقوم حركة تطويرها على خطط مدروسة وأسس منظمة قويمة، يشترك في إعدادها أو وضعها وتفعيلها كل من المجامع اللغوية العربية والمؤسسات التعليمية والإعلامية والاقتصادية أيضاً. كما تسهم السياسات القائمة في دعمها الفعلي المباشر والمستمر، بفكر واع ومسؤولية تامة وحرص أكيد، يؤدي إلى تنفيذها على أرض الواقع وتتبع مسيرتها، لتتحقق الأهداف المرجوة منها.. المصير مشترك بين هذه المؤسسات كلها، فلا مناص لها من المشاركة باجمعها والعمل معاً وفق تنسيق دقيق متكامل.

* أستاذ الأدب والنقد واللغة في جامعة الملك فهد

للبترول والمعادن، الظهران

له عدة أبحاث نقدية في مجالات اللغة، منها: الحصيلة اللغوية: أهميتها ـ مصادرها ـ وسائل تنميتها «والمعاجم اللغوية العربية العامة: وظائفها ومستوياتها» والمعاجم العربية ثنائية اللغة «ونظرية اللغة الثالثة، دراسة في قضية اللغة العربية الوسطى» و«ظاهرات لغوية: دراسة نقدية ومسارد»