كم هائل من المخطوطات مفقود من التراث العربي

مؤتمر بمكتبة الإسكندرية يرصد أسباب طيها وإزاحتها ويكشف أهميتها العلمية والحضارية

جانب من افتتاح المؤتمر («الشرق الاوسط»)
TT

كشف المؤتمر الدولي الخامس الذي عقد أخيرا بمكتبة الإسكندرية ونظمه مركز المخطوطات بها عن كم هائل ومذهل من المخطوطات المفقودة من التراث العربي، والتي تم طيها، أو استترت، وانزوت، واندثرت بفعل عوامل سياسية وعقائدية واجتماعية، أو بفعل عوامل الزمن والقدم؛ حتى لا تكاد نسبة «الباقي» من هذا التراث لا تتجاوز العشرة في المائة.

من هذا المنطلق قلب نحو 50 باحثا عربيا وأجنبيا «الطي» بأبعاده ودلالته المختلفة. وطرحت على موائد البحث في المؤتمر وعلى مدار ثلاثة أيام أسئلة شائكة وملتبسة من نوع: لماذا اشتهرت مؤلفات بعينها، وانزوت مؤلفات أخرى حتى ضاعت؟، أين ذهبت أصول الأعمال العلمية المبكرة لعدد من العلماء العرب؟، وقدم لنا نصير الدين الطوسي (تحريرات) مختصرة لها في القرن السابع الميلادي. لماذا اختفت - على سبيل المثال- ترجمة حنين ابن إسحاق للكتاب المقدس، مع أنه أشهر مترجم في تاريخ العرب والمسلمين. لماذا انمحت النصوص العربية المدونة قبل الإسلام، وهل كان عصر التدوين حرا، بتدوينه مؤلفات بعينها، وتهميش مؤلفات أخرى، ثم ما هي تقنيات الحذف وأنماط الاستبعاد والطي، التي أدت إلى فقدان الكثير من المؤلفات المبكرة والمتأخرة؟!

في بحثه الاستهلالي بالمؤتمر قدم الدكتور يوسف زيدان مدير مركز المخطوطات مقاربة ضافية لمفهم الطي للمخطوطات العربية، مشيرا إلى أن «الظاهر المعلوم والمشهور المنشور من تراثنا، إنما هو الجزء الأقل . فالتراث العربي/ الإسلامي في مجمله، لم يزل مجهولاً». وأرجع زيدان سبب ذلك إلى سيادة منطق الإلغاء والتغييب لجوانب معينة من هذا التراث، وغلبة التعامل النفعي معه، وغياب الخطة المنهجية، والرؤية العامة لأولويات التعرف إلى جوانب التراث المتعددة. وهو ما أدى إلى اغترابنا عنه، وعدم الاعتراف بدوره الحيوي في صياغة تاريخ الإنسانية.

واستعرض زيدان نماذج من تاريخ الطي في علوم مصر القديمة، واليونان، وفي عصور الانحطاط في أوروبا. وخلص إلى أن ثمة نوعين من الطي، الأول معلن ومقصود، وهو أقل فاعلية وتأثيرا في المراد طيه. مثلما حدث مع مؤلفات فيثاغورث، حين أحرق اليونانيون مدرسته، لكن مؤلفاته تسربت إلى الإسكندرية، فعاشت قرونا تالية على زمن مؤسسها، ومثلما حدث أيضا مع مؤلفات أبو حيان التوحيدي، وابن رشد، والتي حرقت علنا، لكنها مع ذلك تملأ المكتبات اليوم بفعل تسربها وتناقلها بين أفراد، وجماعات معينة من بلد إلى آخر.

ويشير زيدان إلى أن النوع الثاني وهو الطي المتعمد، كان ينجح في إبادة النصوص إلى الأبد، شريطة عدم الإعلان عن عدم الرغبة في طيها. ومن أمثلة ذلك اختفاء أعمال ابن الرواندي (الملحد) التي رفضتها الفرق الإسلامية، بل المسيحية واليهودية أيضا، لنقضها فكرة الرسل والديانات، مع أن أحدا لم يدع علانية إلى طيها، بل انتقى منها الخياط المعتزلي فقرات وقام بالرد عليها في كتابه الشهير «الانتصار». وكذلك ترجمة حنين ابن إسحاق للأناجيل إلى العربية، مع أن ترجماته الأخرى ظلت متداولة، والسبب في ذلك - كما يرجح زيدان - لكونه ينتمي إلى طائفة النساطرة المرفوضة من الكنائس المسيحية.

وفي بحثه «بين المتواري والمفقود: أنماط من المخطوطات العلمية المطوية» تعرض الدكتور رشدي راشد لظاهرة الطي في مخطوطات العلوم الرياضية، ويلفت النظر إلى أن تلك المخطوطات خلافا لمخطوطات العلوم الدينية واللغوية والأدبية كانت قليلة «التناسخ» ولم تحظ بحظها. كما أن أصحابها كانوا من فئة قليلة العدد، ضعيفة النفوذ الاجتماعي. ومن الأشياء الخاصة التي راكمت ظاهرة الطي في المخطوطات الرياضية،إهمال التراث العلمي، وندرة العناية به، مما جعله يسقط من الذاكرة ويصبح نسيا منسيا، إلا عند بعض المؤرخين الأوروبيين، الذين حاولنا فيما بعد استعادة لغتهم والترجمة عنها لمعرفة هذا التراث المطوي والضائع. وقد أدى ذلك إلى ضياع الكثير من الأصول والمؤلفات الأساسية، والتي لم يبق منها إلا القليل النادر في هذا التراث، والتي – كما يظن الباحث - لا يمكن الاستغناء عنها عند البحث عن الجديد المجدد في العلوم الرياضية.

ويكشف الباحث د. محمد حسان الطيان بجامعة الكويت عن ضياع علم كامل من تراث المخطوطات العربية، وهو علم «التعمية» والذي شغل – على حد رأيه – حيزا كبيرا في تراثنا العربي في القرون المتأخرة «في تنامي عدد المهتمين به، وكثرة مصنفاتهم». ويوضح الباحث أن التعمية أو «الشيفرة» يقصد بها تحويل نص واضح إلى نص آخر غير مفهوم باستعمال طريقة محددة، يستطيع من يعرفها أن يفهم النص. واستخراج التعمية أو «كسر الشيفرة»، وتحويل النص المعمي إلى نص واضح، لمن لا يعرف مسبقا طريقة التعمية المستعملة.. ويذكر الباحث أسماء العديد من المؤلفات التي تندرج في هذا التراث الذي يعد أحد أشكال إعادة إنتاج النص، سواء بفن البديع الأدبي، أو بالرموز والأحجية، ومنها (الحلل المطرز في فن المعمي واللغز) لعلي بن محمد اليزدي (850هـ -1446م) و (غمز العين على كنز العين) لابن الحنبلي، في القرن الثامن الهجري، كذلك «رسالة في استخراج المعمي» للكندي، و«مفتاح الكنوز في إيضاح الرموز»، وقد قام الباحث بتحقيقها في كتاب له حمل عنوان (علم التعمية واستخراج المعنى عند العرب- الجزء الأول). ويشدد الباحث في ختام بحثه على أهمية علم التعمية، وضرورة تحقيق كنوزه في التراث العربي، بخاصة مع ثورة المعلومات التي يشهدها عالمنا الآن، وما تتطلبه من سرية في كثير من الأحيان، مما جعل تعميتها أمرا ضروريا وخاصا، للحفاظ على الخطط المرسومة والأهداف المرجوة في شتى المجالات السياسية والصناعية والتجارية والاتصالات، ووسائل التلفزة والبث الفضائي.. وغيرها من المجالات التي تعتمد الشيفرة والتعمية في صيانة وتطوير برامجها.

ويرصد الباحث المغربي د. محمد جمال طحان «المخطوطات المطوية في الفلسفة والأخلاق عند البلخي»، وهو احد الفلاسفة المسلمين الذين يحيط بمؤلفاتهم الغموض، وقد ذكره التوحيدي في مؤلفاته. ويذكر الباحث أن للبلخي (849م- 934م) نحو سبعين كتابا في النحو والتفسير ومقارنة الأديان والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب، لم يصل منها إلا كتابان هما: (تصور الأقاليم) و(مصالح الأبدان والأنفس) ولا نعرف بقية مؤلفاته إلا من شذرات في بطون كتب من تلاه مثل الثعلبي، والتوحيدي والعامري .. كما لا نعرف عن معظمها إلا العنوان. ونفهم من الدراسة أن البلخي كان أحد المصادر الأساسية التي اعتمد عليها أبو حيان التوحيدي بخاصة في تأليف رسالته (في العلوم)، حيث أورد في كتابه الشهير (في المقابسات) أنه قسم العلوم إلى قسمين: علوم فلسفية، وعلوم اسلامية، كما قسمها البلخي في كتابه المسمى (أقسام العلوم). ويلقي الباحث الضوء على التراث المهدور للبلخي، ومن أهمه مؤلفاته في السياسة والأخلاق، ويذكر أنه كان مشاركا فاعلا في الحياة السياسية في عصره، بما يوحي بأن هذا السبب كان عاملا مستترا وراء طي غالبية مؤلفاته.