وصمة «الخيانة» تطارد المستفيدين من التمويلات الأجنبية

لكل جهة مانحة أجندتها.. و«البيزنس» سيد الموقف

TT

قبل سنوات قليلة بدأت ظاهرة التمويل الثقافي الخارجي تخترق عواصم عربية عديدة، كانت بداياتها خجلى في وسط ينظر إلى رأس المال دائما بريبة، فما بالك حين يكون الممول خارجياً. مع الوقت صار التمويل علنياً، وبدأ تبادل الاتهامات بين مؤيدين ومعارضين. مؤيدون يرون أن رفض التمويل يعبر عن ضيق أفق، ومعارضون يؤكدون أن هناك أجندات خفية تحكم كل هذه العمليات، ويقدمون شواهد تؤكد مخاوفهم، خاصة عندما صدرت كتب تدعم مواقفهم مثل كتاب الراحلة سناء المصري «تطبيع وتمويل»، وكتاب فرانسيس سوندورز «الحرب الثقافية الباردة» الذي ترجمه إلى العربية طلعت الشايب، وفضحت فيه المؤلفة الفرنسية الشابة استخدام المخابرات الأميركية لكتاب مشهورين في ترويج رؤى سياسية، ودعم مشروعات ثقافية في دول المعسكر الشيوعي بتمويلات ضخمة تكرس لاتجاهات إبداعية وفكرية تخدم الأهداف الأميركية. ورغم المعارضات فإن مساحة التمويل تتزايد كما أن عدد الممولين يتصاعد، فإلى أين نحن ذاهبون؟

يعتبر الروائي محمد البساطي واحدا من المتحفظين على تمويل الثقافة من الخارج:«لأن أي تمويل لا يمكن أن يكون حيادياً. فإما أن يكون الغرض هو الدفع باتجاه معين أو التعتيم على أمر ما، وحتى الآن لم أجد من يهدف إلى تقديم خدمة حقيقية للثقافة العربية. المسار الطبيعي للثقافة أن يكون تمويلها داخلياً، لكن حتى الحكومي مشكوك فيه، والسلطة عادة ما تمنح تمويلها لاتجاهات محددة أيضاً». لكن هناك من يقبل وله مبرراته، تعليق يعقب عليه البساطي بقوله:«هناك كتاب يقبلون نشر كتبهم في سياق مشروع تمويل ما، رغبة في الشهرة الرخيصة، وهو أمر لن نستطيع إيقافه غير أن تفاهة ما ينشر هو ما سيحد من هذه الظاهرة مستقبلا». هل يمكن أن يصل الخلاف حول شرعية التمويل الخارجي إلى الاتهام بالخيانة؟ يرد البساطي:«بالتأكيد، العدو الرئيسي لنا في المنطقة سيظل إسرائيل. ونجد كتابات في ثوب متخف تسعى لتحسين صورة إسرائيل، وأخرى تسعى للنيل من القوى التي قاومت الاحتلال وتقلل من شأنها. في سياق كهذا يصبح التمويل شبهة وقبوله خيانة حقيقية».

هناك من يرى أن التمويل حتمي لإنجاز النشاط الثقافي لكن في المقابل تحتل مخاوف المثقفين جانبا لا بأس به من المشهد، حتى أن البعض يصل إلى نتيجة تؤكد أن البعد عن التمويل غنيمة. ومن هؤلاء الشاعر شعبان يوسف الذي يدير منذ سنوات «ورشة الزيتون»، ويتخذها مثالاً ويقول:«أعتقد أننا في الورشة نقوم بأوسع نشاط ثقافي دون أن نحتاج إلى تمويل»، عبارة قصيرة تصلح كمنصة لإطلاق حكم شبه قطعي من وجهة نظره:«لهذا أرى أن من يبحث عن تمويل لدعم نشاط ثقافي هو شخص يهتم بالتمويل فى المقام الأول وليس بالثقافة، وأنا أستريب غالبا في التمويل الخارجي، لذلك رفضته عندما عرض عليّ. فأنا مقتنع بأنه عندما تدخل الأموال تخرج الثقافة. هناك قاعات مكيفة وبمقاعد جلدية ومكافآت للمتحدثين دون نشاط ثقافي حقيقي وهو ما جعل الجمهور ينظر للقائمين عليها باعتبارهم مجرد منتفعين». لكن هل توجد وقائع محددة تبرر هذا العداء للتمويل الخارجي؟ يرد شعبان يوسف:«هناك منظمات كبرى حولت الموضوع إلى بيزنس، واهتمت بالشكل على حساب المضمون، وهو ما أضر بالثقافة إلى حد كبير. لم يسهم ذلك في خلق مثقف بقدر ما فرض فئة جديدة هم مثقفو (البيزنس) الذين يهتمون بالمكافآت، والمكافآت تقود إلى موضوعات بعينها لأنها الأكثر رواجا في الخارج. وهكذا أصبحنا نفاجأ بأن بعض جمعيات حقوق الإنسان تدخل الساحة لتستغل الثقافة. ونفاجأ بمناقشة أعمال روائية مطلوبة غربياً، مثل روايات الأقباط أو المرأة أو النوبة، وهو ما أدى إلى تفئيت الأدب وجعل الأفكار تطغى على الأسلوب والجمال. ولهذا لم نعد نقرأ أدبا ممتعا». ويضيف يوسف:«كلفت مسرحية عرضت اخيرا مبلغ 160 ألف جنيه جاءت من تمويل خارجي. المسرحية ضعيفة على كل المستويات، وحضرت على عجل، لأن الهدف هو قبض التمويل بأسرع ما يمكن. هذا ما يجعلني أقول ان التمويل عادة ما يضيع على أمور تحيط بالعمل الثقافي بينما لا تستفيد الثقافة نفسها. الأمثلة عديدة، فقد أصدرت «مؤسسة المورد الثقافي» اخيرا كتاباً حمل عنوان:«صفحة جديدة». وهو نتاج ورشة مصرية ـ بحرينية، عندما تقرأه تشعر أن الورشة لم تنتج شيئا يذكر. ومن قبل اطلعت على كتاب صدر بتمويل هولندي يضم قصصاً لخمسين كاتبة سودانية، يكتشف القارىء أن من بينهن أربعين على الأقل لسن كاتبات بالمرة!! أستطيع أن أقدم أمثلة عديدة، مثل كتابي:«هكذا تكلمت النساء» و«السياسة أقوى من الحداثة»، كل شيء فيهما معد على عجل والهدف هو التمويل الذي أصبح يشار إليه صراحة على الكتاب بعد أن كنا نعتبره خيانة». يمكن أن يعتبر التمويل (سبوبة) كما يحلو للبعض أن يطلقوا عليه لكن كيف يمكن أن يعتبر خيانة؟ سؤال يرد عليه يوسف:«هل نحن من السذاجة كي نعتقد أن المنظمات الممولة ليس لها شروط؟ بالتأكيد لها شروط، وخطوط حمراء لا ينبغي الاقتراب منها. والغريب أن فرسان التمويل الآن هم من كانوا يهاجمونه في البداية». أنت تشير إلى اليسار؟ يعقب بسرعة: «بالتأكيد، والغريب أنهم يستخدمون نفس المفردات التي سبق لهم أن استخدموها في المنظمات اليسارية والحركة الطلابية».

تتفهم هبة شريف تلك الشكوك التي تحيط بالتمويلات الأجنبية رغم كونها مسؤولة عن نشاط المؤسسة الثقافية السويسرية (بروهلفسيا) في مصر:«فلكل جهة مانحة أجندتها التي يمكن أن تتعارض مع أولوياتنا كمصريين». وقد سبق لها كمثقفة أن رفضت المشاركة في ترجمة بعض الكتب بتمويل من هيئات خارجية. حدث هذا خارج (بروهلفسيا) بالطبع. تقول الدكتورة هبة «حدث هذا معي فعلا، ففي مجال الترجمة تحديدا نفاجأ أحياناً بأنه مطلوب منا أن نترجم كتباً تروج لأفكار غير مقبولة لدينا رغم رواجها في الغرب. وقد رفضت عملاً كهذا لأنه لا يتوافق وتوجهاتي، لكنهم تقبلوا رفضي من دون حساسيات». وتضيف الدكتورة هبة:«لم تعد الحكومة تدعم الأنشطة الثقافية ويقتصر دورها على دعم بعض الأشخاص مما جعل التمويل الأجنبي هو الحل. لكن الممول له أهدافه». هل تبرر هذه الأهداف استخدام البعض لمصطلح «خيانة» لوصم من يقبلون التمويلات؟ تجيب:«لا نستطيع أن نقول إنها خيانة، هناك مؤسسات اجنبية ذات اهداف غير نبيلة لكن ليست كل المؤسسات كذلك. وأعتقد أن المثقف قادر على تمييز النوعين عن بعضهما والتعامل مع ما يتوافق وأفكاره». لكن كيف ترفض الدكتورة هبة المشاركة في ترجمات ممولة خارجياً، ثم نجدها اليوم فاعلة في مؤسسة تقدم تمويلات لأنشطة ثقافية في مصر؟ تجيب ببساطة: «ان أجندة المؤسسة الثقافية السويسرية من بين الأجندات الأكثر وضوحا، فهي تعنى بنشر الثقافة السويسرية وخلق شبكة من العلاقات بين المثقفين المصريين والسويسريين والتعريف بالمشهد الثقافي السويسري عن طريق مشروع الفنان المقيم. وهناك بالتأكيد مشروعات لا تتوافق مع هذه الاجندة لهذا نقوم برفضها».

قبل سنوات تناول الباحث عبد الخالق فاروق اقتصاديات الثقافة في عدد من دراساته، وخرج بنتيجة صادمة وهي أن نصيب الفرد من الثقافة في الموازنة العامة للدولة المصرية لا يتجاوز جنيهاً واحداً في العام!! ويؤكد عبد الخالق فاروق، أن الحل ليس في اللجوء إلى التمويل الخارجي، وإنما في إعادة ترتيب الأولويات. فوزارة الثقافة تركز مثلا في السنوات الأخيرة على مشروعات المقاولات والبناء التي يقال انها مشروعات ترميم للآثار. والسبب هو أن هذه المشروعات تتيح فرصة السمسرة، لكن إعادة ترتيب الأولويات سيجعل الموارد متاحة». ويتفق مع الآراء المتحفظة على التمويل الخارجي:«الجهات الخارجية تحدد أولوياتها وفقا لتوجهاتها وغالبا ما تتعامل مع الثقافة بطريقتها، فهي عندهم سلعة ونحن متمسكون بكونها خدمة. وهنا يكمن الفرق الذي يجعل الأمر يعود بمردود سلبي على ثقافتنا رغم ما قد يبدو ظاهريا بأنه حراك ثقافي». هل تعتبر مخاوف المثقفين إعادة تدوير لنظرية المؤامرة التي نتهم دائما بأننا مغرمون بها كعرب؟ يجيب عبد الخالق فاروق:«أحيانا تستخدم المؤامرة وكأنها فزاعة، الفكرة ان كل طرف له مجموعة أهداف ومصالح، ونحن نعتبر الأضعف على المستوى الثقافى، لذلك هم يحاولون زرع نسق من القيم بهدف تحريك ثقافتنا او استبدالها او تغييرها وفي كل الأحوال أرى انها كارثة حقيقية. هي ليست مؤامرة وإنما اختلاف في الأولويات، والدليل أنهم يمولون منظمات حقوق الانسان رغم أنهم يهدرون حقوقنا كبشر فى مواجهة اسرائيل. ما ينطبق على السياسة يمتد إلى الثقافة وهم متأكدون أنهم سيستفيدون من تمويلهم لأنشطتنا على المديين الوسيط والطويل».