عبد الله الغذامي.. اعتزل الناس وعاش مع كائنات من ورق

دراجة هوائية في عنيزة وورّاق في بريطانيا ألهبا حبه للقراءة

TT

عاش أدباء ومثقفون وأكاديميون ونقاد في الرياض الأسبوع الماضي أجواء ثقافية فجرت لدى العديد منهم أسئلة مهمة حول العلاقة بالكتاب وصناعة المعرفة وصناعة الأفكار، وهم ينصتون إلى الدكتور عبد الله بن محمد الغذامي استاذ النقد والنظرية بجامعة الملك سعود بالرياض وهو يتحدث في قاعة المحاضرات بمكتبة الملك عبد العزيز العامة بفرعها بمركز الملك عبد العزيز التاريخي بالمربع طارحاً تجربته مع القراءة، ضمن فعاليات المشروع الوطني الثقافي لتجديد الصلة بالكتاب وخصص موضوع (تجاربهم مع القراءة) كعنوان للملتقى.

ونجح الناقد الغذامي في شد انتباه الحضور الكثر الذين امتلأت بهم القاعة عندما طرح رؤى وأفكاراً بخصوص أنماط القراءة وسلطان اللغة، وقوة المعلومة، والاندماج مع الكتاب كما وجه انتقاداً مباشراً للرقيب على الكتاب، وطرح نماذج ناجحة لمبدعين استطاعوا من خلال ارتباطهم بالكتاب انتاج عقول ثالثة لهم، كما كشف عن علاقته بالكتاب في سن مبكرة لافتاً إلى انه في صغره اضطر إلى بيع دراجته الهوائية بخسارة 10 في المائة من قيمتها لشراء مجموعة من الكتب شكلت نواة مكتبته الحالية، ورفض الغذامي وصف المجتمع العربي بأنه لا يقرأ مشدداً على أن الكل يقرأ، لكن الاختلاف على ماذا يقرأ؟

يعترف الدكتور عبد الله بن محمد الغذامي الناقد السعودي المعروف بأن الكتاب جعل علاقته الاجتماعية تصل إلى الصفر، كما أنه صارم في مواعيده لدرجة أنه يغلق باب منزله في وجه أي شخص يطرقه إذا زاره دون موعد مسبق. كما يعترف الغذامي بأنه «جاهل» في مسائل التقنية الحديثة المتعلقة بالحاسب الآلي والانترنت، وراهن على أن الكتاب سيبقى صامدا ولن يتزحزح عن مكانه رغم كل المحاولات للتقليل من شأنه وسحب البساط منه.

واعتبر ان القراءة متعة ووجع وأنه يشعر بالحسرة عندما ينتهي من قراءة كتاب يشده. ورغم أن الغذامي عمل في الأندية الأدبية من خلال النادي الأدبي في جدة كنائب للرئيس منذ عام 1980 ولمدة اثنتي عشرة سنة إلا انه ابتعد عن اجواء هذه الأندية لقناعته بأن الانتخابات في هذه الأندية هي التي تحدد من يتولى رئاستها.

وأعاد الغذامي رفضه وجود ما سماه بـ«الرقيب على غذاء الروح»، كما انه رفض القول القائل بأن الشعوب العربية شعوب لا تقرأ بقوله إن الكل يقرأ، لكن الاختلاف على ماذا يقرأ.

واعتبر ان الكتب الاكثر مبيعاً لا تعني جودتها مستشهداً بكتاب «لا تحزن» إذ يرى ان سر شهرته بين الناس هو انه «يضرب على أوتار أحزانهم»، وهو ما ينسحب على كتب مماثلة.

ويعد الغذامي أحد النقاد القلائل الذي يتمتع بموهبة نقدية غير عادية، وهذا ما انعكس في مؤلفاته من «الخطيئة والتكفير»، و«من البنوية الى التشريحية» الذي صدر قبل 23 عاماً وأعاد طباعته في سنوات لاحقة، مروراً بـ«تأنيث القصيدة والقارئ المختلف» و«تشريح النص»، و«الصوت القديم الجديد»، و«الموقف من الحداثة»، و«الكتابة ضد الكتابة»، و«ثقافة الاسئلة» و«المشاكلة والاختلاف (قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في التشبيه المختلف)، و«المرأة واللغة»، و«ثقافة الوهم (مقاربات عن المرأة واللغة والجسد)، حكاية سحارة (حكايات وأكاذيب)، تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، النقد الثقافي (مقدمة نظرية وقراءة في الانساق العربية (معد للنشر).

وغيرها من الدراسات والبحوث الكثيرة.

في عنيزة حيث الانفتاح الاجتماعي المبكر ولد عبد الله بن محمد الغذامي في الخامس عشر من شهر فبراير عام 1946، والتحق بمعهدها الديني الذي يُعرف بالمعهد العلمي وحصل منه على شهادة الثانوية عام 1965 ليتوجه إلى الرياض العاصمة. ويلتحق بكلية اللغة العربية ويحصل فيها على ليسانس اللغة العربية، وبعدها بعام حمل حقائبه وتوجه إلى بريطانيا ليمكث فيها سبع سنوات ويعود حاملاً شهادة الدكتوراه من جامعة اكستر. ويلتحق عام 1978 بجامعة الملك عبد العزيز بجدة لمدة عشر سنوات تولى خلالها تدريس مواد النقد والنظرية، وأسس قسم اللغة العربية، ومجلة كلية الآداب، كما رأس قسم الإعلام ثم قسم اللغة العربية، وسجل حضوراً في صياغة بعض المشروعات العلمية في الجامعة مثل مركز التعريب ومركز البحث العلمي. وخلال وجوده في جدة عمل لمدة اثنتي عشرة سنة منذ عام 1980 نائباً للرئيس في النادي الأدبي الثقافي، وأسهم في صياغة المشروع الثقافي للنادي من خلال المحاضرات والندوات والمؤتمرات ونشر الكتب والترجمة. وقبل عقدين شد الرحال إلى الرياض والتحق بجامعة الملك سعود ليعمل استاذاً للنقد والنظرية بالجامعة.

وخلال مسيرته الطويلة مع الأدب والثقافة والنقد منح الغذامي جوائز أبرزها جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج في العلوم الانسانية عام 1985م، وجائزة مؤسسة العويس الثقافية في الدراسات النقدية عام 1999، وللغذامي اسهامات عربية وعالمية في الندوات والمؤتمرات والجمعيات، كما قام بعدد من الزيارات العلمية إلى الجامعات الاميركية.

وبلغت البحوث والدراسات عنه وعن أعماله النقدية ما يزيد على 90 دراسة وبحثا، استشرفت أعماله النقدية ومؤلفاته في رحلة النص الأدبي، ولم تكن هذه الدراسات والبحوث محلية التوجه والأداء انما جاءت من بلاد عربية وأجنبية، خصوصا من المغرب والأردن وتونس واليمن والكويت ومصر وبريطانيا وألمانيا، كما بلغ عدد المداخلات والمقالات التي أعدت وكتبت على الناقد الغذامي ما يزيد على 196 مداخلة ومقالة، وبلغت الحوارات والمقابلات التي أجريت مع الغذامي سواء كانت صحافية أو اذاعية أو تلفزيونية ما يزيد على 119 مقابلة.

رحلة القراءة بين عنيزة السعودية واكستر البريطانية

في أمسية مكتبة الملك عبد العزيز العامة الاسبوع الماضي، أوضح الدكتور الغذامي بأن علاقته بالكتاب بدأت عندما كان يتلقى تعليمه في مسقط رأسه عنيزة التي وصفها أمين الريحاني بباريس نجد، من خلال الكتب التي توزع في المسابقات الثقافية بين طلبة المدارس، كما كان لاساتذته في المعهد العلمي دور في تحبيبه للقراءة والكتاب، وعدد الغذامي أنماط القراءة إلى أربعة أنواع وهي القراءة السريعة، مثل قراءة الصحف والكتب بصورة عابرة، القراءة المهنية وهي قراءة أُصيب بها النقاد ومعها يفقد الناقد المتعة، بل انه لا يملك الخيار حيالها ولا يستطيع مكرهاً إلا أن يكمل قراءة الكتاب رغم ضعف مادته، القراءة الوظيفية وهي التي يدركها المتعاملون مع الوسط الأكاديمي ويكون مستوى العمل أرقى من بعض جوانب القراءة لكنها لا تتيح المردود الذهني لها، والقراءة الفكرية أو التأملية وبها تتحقق صناعة المعرفة وصناعة الأفكار.

وأعاد الناقد إلى الأذهان الأجواء الثقافية التي عاشها الجاحظ الذي عُدَّ أحد أبرز القراء في عصره، حيث كان يستأجر دكاكين الوراقين ليلاً منذ ساعات الإغلاق وحتى ساعات الافتتاح في الصباح ويسهر على قراءة ما تجود به هذه الدكاكين من رصيد معرفي انساني مشكلة شخصية الجاحظ، مورداً عبارة له تشير إلى أهمية القراءة ومجالسة الكتاب عندما قال: «عقل غيرك تضيفه إلى عقلك». والجاحظ يعني أن تأثير الكتاب على الإنسان لا حدود له حيث ينتج عنه عقل ثالث وتحقيق تجاوز معرفي، كما أن من تعلم لغة مع لغته صار له لسانان فصار (انسانين)، كما يتحقق من خلال الكتاب نوع من التكوين بجمع العقل مع المتعة، ويدخل الانسان الى عوالم اخرى، محققاً المتعة العاطفية التي تتحول الى متعة نفسية. وفي رحلته الطويلة مع القراءة، أورد الغذامي محطتين مهمتين تفصل بينهما عقود فجرت في نفسه محبة الكتاب وشكلتا عقله المعرفي، هما عنيزة السعودية واكستر البريطانية، حيث درس في الاولى المراحل الدراسية حتى الثانوية العامة، والثانية حصل من جامعتها على شهادة الدكتوراه.

وفي عنيزة شعر الغذامي بحرقة وهو يشاهد كتبا تباع لأحد ابناء مدينته بعد ان قرر تركها لاسباب لا يعرفها. وكان الغذامي الصغير قد اشترى قبل أيام دراجة هوائية (سيكل) من الرياض بمبلغ 200 ريال، ولحرصه على شراء كمية من هذه الكتب اضطر الى بيعها بسعر 180 ريالا، وتوجه على الفور الى المكتبة واشترى مجموعة كبيرة منها شكلت النواة لمكتبته. وفي سوق اكستر البريطانية وعندما كان الغذامي يتلقى دراسته للحصول على الدكتوراه من جامعة اكستر التي ابتعث الى بريطانيا في عام 1971 لهذا الغرض اخذ يتردد على مكتبة تحمل اسم مكتبة اكستر للكتب النادرة ويشتري كتبا متوسط سعرها 5 بنسات وهو ما يعادل سعر فنجان قهوة في تلك الفترة.

وقدر ان المكتبة فتحت فرعا لها في مكان راق وتوجه الى هذا الفرع ليجد ان الكتاب الذي سعره 5 بنسات يباع بـ 200 جنيه، ولدى سؤاله صاحب المكتبة الذي يعرفه جيدا قال له: لماذا اتيت الى هنا هذه المكتبة للذين جيوبهم مليئة بالنقود وعقولهم فارغة من المعرفة!

كما أورد الغذامي ذكريات جميلة مع مكتبة المؤيد في الطائف التي كان يتردد عليها لشراء دواوين شعر للشاعرين سليمان العيسى ونزار قباني، اضافة الى كتب رأى ان مجرد ذكرها يقود الى تهمة.

واعتبر الناقد الغذامي ان للقراءة ادوارا خطيرة: منها دور سحري ودور منتج ودور يساهم في التغيير النوعي للكائنات، «إذ ان من يملك المعلومة يضع له قدما في الحياة».

ورفض الغذامي وصف العرب بأنهم أمة لا تقرأ وقال: ان الجميع يقرأ في الدين والفن والرياضة وغيرها، لكن السؤال ماذا يقرأون، معتبرا ان الاحصاءات بخصوص نسبة قراءة الشعوب ليست موثقة، بل ينقصها الاستقصاء، مطالبا التفريق بين نوعية الكتب التي تقرأ او تلك التي لا تقرأ.

ووجه صاحب «النقد الثقافي» انتقادا مباشرا للرقيب الذي يمنع طبع وفسح وتوزيع الكتاب، مما يضطر «الناشرون الى بيعه تحت الطاولة»، وهذا يسبب احساسا بأن الكتاب ممنوع، وهو تأثير واهدار للمال ويحدث انفصاما داخل الذات. وهذا الامر «حول طائفة من الناس الى منافقين وكذابين، كما ان الوصايا والمنع لا تؤدي الى اصلاح بل الى عقوق وتمرد» مضيفا بأن المنع وممارستنا في ثقافتنا التحصين التربوي يؤديان الى أمور عكسية وسلبية كتحسيس القارئ بالاثم، فعندما يقرأ شخص كتابا مثل رأس المال لكارل ماركس فإن قراءته يصاحبها احساس بالجرم، ومع مرور الايام وبقاء هذا الاحساس ملازما للقارئ، فإن ذلك يؤدي الى إيجاد ذات غير سوية تدفع بها الى الانحراف الحقيقي.

وكشف الغذامي جوانب شخصية تتعلق بتأثير ارتباطه بالكتاب على علاقته الاجتماعية، إذ إنه انصرف عن المجتمع ليعيش مع كائنات حية من ورق.