الإنسانية احتاجت آلاف السنين لتصل إلى الأرقام

اكتشاف الصفر ومفاتيح المعرفة في «تاريخ الأرقام عبر الحضارات»

TT

في كتابه «تاريخ الأرقام عبر الحضارات» أراد أسامة زيد الصيادي أن يأخذنا في رحلة معرفية عبر تاريخ الشعوب المختلفة ومساهماتها في تأسيس النظم الرقمية الأولى ودورها في تطوير الحضارات الإنسانية الكلاسيكية.

يتكون الكتاب من 14 فصلا بدءاً من ( النظام الرقمي في حضارة ما بين النهرين ) مروراً بـ (النظام الرقمي الاغريقي) و (تاريخ اكتشاف الصفر) وانتهاء بـ (عجائب الأرقام). يقول المؤلف: يتساءل المرء باستمرار عن تاريخ اكتشاف الأرقام في الحضارات الغابرة. إذ يعتقد الكثيرون ان اكتشاف الأرقام كان أمرا سهلاً بحيث يكفي أن يحتاج الإنسان إلى العدّ لكي تكون الأرقام في متناول اليد. بالطبع ان الأمر أشد تعقيداً من ذلك بكثير، إذ شهدت الإنسانية آلاف السنين ومحاولات عدة قبل الوصول إلى الأرقام التي نستخدمها اليوم.. ان تاريخ الأرقام موضوع شائق ومثير للاهتمام لأنه يؤكد ويوضح مدى قدرة الإنسان على التطور والتأقلم مع حاجاته في جميع المجالات، خاصة في مجال الزراعة، حيث ان تطور الزراعة وتعدّد المزروعات واختيار الفصل المناسب ومعرفة وقت الفيضانات لحماية المحصول، ذلك كلّه تطلب تطوير تقويم دقيقا وتقسيمه إلى فصول وأشهر وأسابيع وأيام. وهذا بدوره يتطلب نظاماً رقمياً مناسباً ومتطوراً. أضافة الى أن تطور المجتمع وبناء الدولة وتنظيم الموظفين والجيش وتقسيم الأراضي، ذلك كلّه سرّع من تطور النظم الرقمية وأدى إلى العمليات الحسابية كالجمع والطرح والقسمة. ورغبة الإنسان في تدوين الحسابات دفعته إلى وضع رموز مناسبة لهذه الأرقام.

ولأن الحضارات العراقية الأولى شكّلت مفتاح المعرفة الإنسانية في الكثير من المجالات الأساسية، يعود الصيادي في الفصل الأول إلى السومريين (كان السومريون يعيشون على أرض تمتد ما بين نهري دجلة والفرات، العراق حالياً، أهم مدن تلك الحضارة هي: أور، أوروك، أمنا، أداب، أوان، كيش، لغاش، أكشك. ظهرت في تلك المنطقة أول كتابة في التاريخ قبل نحو ستة آلاف سنة. فقد اكتشف علماء الآثار الكثير من ألواح الطين التي نُقش عليها بالأحرف المسمارية، وهي رموز اللغة السومرية القديمة.. تُقرأ اللغة المسمارية من اليسار إلى اليمين على نحو عمودي نزولاً حتى أسفل اللوح. نجد على هذه الألواح النظام الرقمي لتلك الحقبة، وهو نظام مبني على القاعدة الستينية، إذ كانوا يجمعون الأشياء والأحياء بمجموع ستين وقوة ستين.. وبرغم زوال هذا النظام الرقمي السومري، فقد ترك أثراً في الحضارة الإنسانية الحالية، إذ نجد هذا النظام في تقسيم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية، وكذلك لدى قياس الزوايا: فالدائرة تقسم إلى 360 درجة، وكل درجة إلى 60 دقيقة، وكل دقيقة إلى ستين ثانية. واستعمل السومريون رمزين للدلالة على الأرقام: الأول يُشبه المسمار للدلالة على الآحاد، والآخر للدلالة على العشرات. وتتبع الأرقام من 1 إلى 59 النظام الإضافي إذ يُعاد الرمز مرات عدة للدلالة على العدد المرغوب تمثيله. ثم نجد في صفحات الكتاب 26، 27، 28 أشكال ذلك النظام الرقمي وطريقة التعامل معه، وهي تثير التأمل حول طريقة السومريين في استعمال خيالهم الخصب ومرونتهم العقلية في ابتكار نظام حسابي ينظم حياتهم واقتصادهم. وفي نهاية الفصل يقول الصيادي ( تدل الألواح الطينية المكتشفة على أن الحضارة البابلية كانت تستخدم نظماً عددية عدة تطورت بمرور الزمن، ولم يقتصر عملهم على الجمع والطرح فقط، بل تعدى ذلك بكثير حتى أننا نجد مسائل رياضية تتعلق بمعدلات من الدرجتين الأولى والثانية. كذلك أحرزوا تقدماً هائلاً في علم الفلك وفن العمارة مهَّد الطريق للحضارات التالية )

أما في مصر القديمة، فقد طوّر المصريون نظاماً رقمياً يعود إلى ثلاثة آلاف سنة ق.م. وكانت الأرقام تُمثل بالرموز الهيروغليفية، وكان النظام الرقمي في عهد الفراعنة قائماً على القاعدة العشرية، أي يبدأ بواحد ثم عشرة ثم مائة وهكذا. وكان الرقم يُكتب مرات عدة للإشارة إلى العدد المطلوب تمثيله. يقول المؤلف: رغم وفرة ما تركه فراعنة مصر من آثار كثيرة، فإن المعلومات المتوافرة لدينا عن الرياضيات الفرعونية ضئيلة جداً، لأن ورق البردي الذي كان يستخدمه الفراعنة لكتابة المسائل الرياضية لم يستطع عبور العصور وهو في حالة جيدة كما هي حال الصخور المنحوتة. وقد حالف الحظ علماء الآثار في الحصول على ورقتي البردي المعروفتين باسم (رند) و (موسكو) أو (غولينيتشف). تحتوي ورقة (رند) في جزئها الأول على 86 مسألة رياضية مع حلولها، أما الجزء الثاني فيحتوي على 25 مسألة رياضية، يتعلق معظم المسائل بعمليات القسمة (قسمة الحبوب والحيوانات كالذئاب). ويتخلل الورقة أيضاً عشرون مسألة هندسية تتعلق بالمساحات والأحجام (مساحة مثلث ودائرة ومستطيل ومثلث مقطوع أعلاه). وتتضمن ورقة (غولينيتشف) المسائل نفسها تقريباً، إضافة إلى مسائل تتعلق بالأحجام، مثل حجم هرم مقطوع الرأس).

وهنا نود أن نشير إلى ملاحظتين، الأولى تتعلق ببعض التعابير التي استخدمها الصيادي، فهو عندما يقول: أنجز السومريون أو الاغريق كذا وكذا، فإن الأمر يبدو مقبولاً لأن السومريين والاغريق شعوب. أما حين يقول: (طوّر الفراعنة في مصر القديمة نظاماً رقمياً..) أو (رغم وفرة ما تركه فراعنة مصر من آثار كثيرة) أو ما يسميه (الرياضيات الفرعونية) فإن مثل هذه التعابير التي تتكرر عند كتّاب آخرين، فهي لا تبدو مطابقة لواقع الحال كفاية، لأن الفراعنة هم الملوك ورغم دورهم الكبير في تلك الحضارة، إلا أن الرياضيات والانجازات العمرانية والتقنية الأخرى هي من إنجازات العلماء والمتخصصين والحرفيين الذين غالباً ما كانت أسماؤهم مجهولة، لذا، أليس من الأدق والأقرب إلى الواقع أن نقول (أنجز المصريون القدماء كذا وكذا. أو الرياضيات المصرية القديمة .. الخ). الملاحظة الثانية عندما يقول (يتعلق معظم المسائل بعمليات القسمة، قسمة الحبوب والحيوانات كالذئاب)! إذا كانت قسمة الحبوب مفهومة، ألم يجد المؤلف من الضروري لو أجهد نفسه قليلاً ليبين لنا معنى (قسمة الحيوانات كالذئاب)!

ان علاقة الأرقام بتفسير العالم والنظام الكوني أصبحت من الحقائق العلمية المعروفة في العصور المتأخرة، لكنها دخلت في نسيج التفسير المثيلوجي للعالم وظواهر الحياة وطقوس العبادة في الحضارات القديمة، ففي حضارة المايا القديمة التي اعتمدت على نظام عددي واضح وسهل الفهم، يشير الصيادي أيضاً إلى ان لبعض الأرقام عند المايا رمز مقدس كالرقم 20 الذي كان يمثل عدد أصابع اليدين والقدمين. والرقم 5 كان يمثل عدد أصابع اليد الواحدة والرِجل الواحدة. والعدد 13 كان يمثل عدد مقدساتهم. وكان العدد 52 يرمز إلى عدد أعوام القرن الواحد حسب التقويم السنوي لحضارة المايا. وكان العدد 400 يرمز إلى عدد آلهة الليل والرقم 1 يرمز إلى آلهة الأرض، والرقم 2 إلى آلهة التضحيات. وكان للحساب أهمية كبيرة عند المايا، لذلك نجد الكثير من هذه الرموز في النصوص المنحوتة على الحجر. وكانت حساباتهم لكسوف القمر ومواقع النجوم في السماء في منتهى الدقة. وقد ارتبطت حياتهم كلياً بتنبؤات الفلك وحركة النجوم وكان تقويمهم السنوي معقداً ودقيقاً جداً، أما الأغريق الذين عُرف عنهم أنهم أضفوا على الأرقام بعداً فلسفياً مهماً، بعدما اعتبروا أن الأرقام هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الأشياء وأوصافها، ولقياس المسافات والأوزان والمساحات والأحجام ولقياس الزمن والمقارنات بين الأشياء، وأن الرقم هو مبدأ الوجود. قسَّم الأغريق الأرقام إلى متناقضات : الفردي والزوجي. المحدود واللامحدود. الواحد والكثير. اليمين واليسار. الذكر والأنثى. المستقيم والمعوج. السكون والحركة. النور والظلمة. الخير والشر. المربع والمستطيل.

معتبرين هذه المتناقضات العشرة هي أساس الكون، لأن الرقم عشرة عند الفيثاغورثيين مثال الكون. بل هو رقم مقدس يستوجب العبادة لأنه حصيلة مجموع الأرقام الأربعة الأولى، فمنها تتألف جميع الأرقام، أي التي يتألف منها الكون كله.

يشير المؤلف إلى كون النفوذ العربي في المجالين العلمي والفلسفي، بدأ يظهر أثر الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي واندحار الرياضيات الاغريقية وزوال الامبراطورية الرومانية، حيث احتك المسلمون بحضارات العالم القديم كالصين والهند والاغريق والرومان وما تركته من آثار هائلة في شتى المجالات. ويدين العالم للمسلمين لأنهم حفظوا ما تركته هذه الحضارات وترجموه إلى العربية بعدما درسوه واستوعبوه وطوّروه. ثم يشير الصيادي إلى الحقبة العباسية ودورها الحاسم في تبني المشروع الحضاري خصوصاً منذ عهد الرشيد والمأمون ودور (بيت الحكمة) في ذلك النشاط المعروف. وبعد أن يورد حلم المأمون في مقابلته لأرسطو والحوار الذي دار بينهما عن الجمال والعقل والقانون. ودور ذلك الحلم كحافز إضافي في توجهات المأمون العلمية والحضارية، يشرح الصيادي بعض التفاصيل مشيراً إلى أن (من أهم علماء المسلمين في تلك الفترة، محمد بن موسى الخوارزمي، الذي ألف كتباً عدة منها: الحساب الهندي. الجمع والتفريق. وأكثر كتبه شهرة هو (المختصر في الجبر والمقابلة) الذي يشكل أساس علم الجبر الحديث.

ونتيجة لتلك الجهود والتطورات، أصبحت اللغة العربية، من القرن السابع إلى القرن الخامس عشر، لغة العلم والثقافة، رغم الحروب الصليبية التي استمرت من 1096 إلى 1270 وضاع خلالها الكثير من كتب الفلسفة والنسخ الاغريقية الأصيلة ولم يبق إلا النسخ العربية) ويضيف الصيادي : لعبت الحضارة العربية حلقة الوصل بين الحضارات القديمة والقرون الوسطى في أوروبا لاحقاً. وكانت بلاد الأندلس الجسر الذي عبرت عليه جميع معارف العالم الاسلامي في شتى المجالات، مستشهداً بقول الكاتب الاسباني خوان فيرنه (إن الثقافة الإنسانية مدينة لعرب اسبانيا، لما قدموه من معرفة وعلم أديا إلى وصول التطور العلمي إلى ما هو عليه الآن).