مدير «معهد العالم العربي»: خرجنا من الإفلاس ودورنا سيكون مهماً في إنجاح «الوحدة المتوسطية»

TT

يبدو أن دومينيك بوديس، المدير الحالي لـ«معهد العالم العربي» في باريس الذي يعرف العالم العربي وله عنه عدة مؤلفات، كما شغل منصب مراسل سابق لقناة «فرانس 3» في بيروت وجال كثيرا في منطقة الشرق الأوسط ومتزوج من جزائرية، هو «الرجل المناسب في المكان المناسب».

بعد سنوات من المتاعب المالية أحاطت بـ«معهد العالم العربي» في باريس جاءت الأخبار السّارة على لسان مديره الجديد دومينيك بوديس حيث أعلن الأسبوع الماضي بأن المعهد خرج من دائرة الخطر وتمّ تسديد ديونه البالغة 15 مليون يورو، بل ان المؤسسة حققت في 2007 ولأول مرة منذ إنشائها قدراً من الأرباح.

لكن ما الذي جعل هذا المشروع الثقافي الطموح الذي ظهر أواخر السبعينات لتعزيز «الصداقة الفرنسية العربية» يقع في كل هذه المشاكل المالية التي هدّدت وجوده.

دومينيك بوديس قال ان الأمر لا يتعلق بضعف أداء المعهد، فهو يعتبر من أنشط المؤسسات الثقافية الفرنسية وجسر تواصل بين الثقافتين العربية والغربية، ويكفي أنه ثاني أكثر المعالم الثقافية زيارة في فرنسا بعد متحف اللوفر، حيث يصل عدد زواره سنوياً إلى المليون ومكتبته الكبيرة ذات الثلاثة طوابق تستقبل سنويا أكثر من 50.000 طالب، كما أن نشاطاته تلاقي نجاحاً جماهيرياً كبيراً: مليون زائر شاهدوا معرض «الفراعنة»، 250.000 زائر لمعرض «البندقية والمشرق»، «ماتيس والمغرب»: 000 350 زائر. هذه التظاهرات توفر نصف مداخيل المعهد، إلا أن تكلفة مثل هذه التظاهرات مرتفعة جداً. فالمعرض الذي أقيم حول الحضارة الفينيقية مثلاً كلّف 2 مليون يورو. والمشكلة يقول بوديس ان الدول العربية لم تعد تدفع مستحقاتها، رغم أن الاتفاق كان يقضي بتقاسم تكاليف المشروع بين فرنسا التي تعهدت بتحمل60 في المائة والدول العربية40 في المائة. إلا أن فرنسا وجدت نفسها تتحمل كل الأعباء لوحدها والاتفاق لم يصمد الا في السنوات الأولى، توقفت بعدها معظم الدول العربية عن الدفع. فالتسعة ملايين يورو التي تعطيها وزارة الخارجية للمعهد سنوياً والمليونان الآخران الآتيان من جهات حكومية فرنسية مختلفة، إضافة لمداخيل المعهد من العروض لم تعد تكفي، خاصة أن ميزانيته تصل إلى 23 مليون يورو ما بين أجور عماله الـ 160 وتكلفة تسيير المؤسسة وتنظيم التظاهرات التي ترفع الفاتورة.

لكن مدير المعهد الجديد يقول ان زمن المتاعب قد ذهب وولىّ، وتمّ التحكم في الوضعية المالية بفضل اتباع سياسة جديدة: أهمها التخلي عن مطالبة الدول العربية بدفع اشتراكات سنوية والاكتفاء بمطالبتهم بتسديد المتأخرات. وقد استجابت معظم الدول لهذه الفكرة، وتأسيس صندوق لدعم مشاريع المعهد، دخل فيه سنة 2007 أكثر من 37 مليون يورو. دومينيك بوديس وإن عبرّ عن ارتياحه لاستجابة معظم الدول العربية لطلبه بتّسديد ديونها، إلا انه ذكر أن ثمة خمس دول لم تقم بعد بأي مبادرة وهي: ليبيا، العراق، السودان، الصومال، واليمن، وباب المفاوضات مع هذه الدول لا يزال مفتوحاً. الإدارة الجديدة فور وصولها قامت أيضا بالمطالبة بإعادة تقدير المساهمة المالية لوزارة الخارجية الفرنسية التي ُرفعت من 8 ملايين يورو إلى 9 ملايين سنة 2007. تفادي الكارثة جاء أيضا بفضل تفعيل عمليات الشراكة مع القطاع الخاص، فبعد أن كانت شركة «توتال» الحاضرة في عدة دول عربية هي أهم شريك للمعهد، استطاعت الإدارة الجديدة أن تجلب مساهمة شركات جديدة. كما أن البحث عن شركاء آخرين جارٍ على قدم وساق، بفضل استحداث المعهد لقسم خاص بالشراكة الثقافية وعرضه لخدمات مختلفة للشركات كتنظيم حفلات، وتأجير قاعات للندوات واللقاءات المهنية.

المنح المالية التي تلقاها المعهد ساهمت هي الأخرى في تحسين وضعيته المادية، أهمها الهبة التي تلقاها من المملكة السعودية بقيمة مليون يورو وأخرى بنفس القيمة من الكويت. الإدارة الجديدة للمعهد قالت ان أولى النقاط التي تمّ التطرق إليها هي تكثيف الاتصال مع الشركاء العرب وتحميسهم للمشاركة ليس كضيوف شرف فحسب، بل كمنظمين ومشرفين أيضاً. هي السياسة الجديدة التي تعتمد على التعامل معهم كشركاء وأصحاب قرار وليس كمانحين ماليين فقط، كما كانت تفعل الإدارات السابقة. الوضع الآن مختلف، حيث يتم إشراك هذه الدول في كل التظاهرات تنظيماً وتمويلاً. فقد قامت دولة قطر مثلا بتنظيم تظاهرة ثقافية للتعريف بتراثها في شهر ديسمبر الماضي وتكلفت بكل شيء، بينما وفّر المعهد المكان والشروط الملائمة. ويجرى الاستعداد لتنظيم معرض حول «الأمراء المشيّدون» في ربيع 2009، عن أهم المعالم الهندسية في دولة الإمارات وتستعد هي للإشراف عليه وتمويله. وفي الوقت الذي أثمرت فيه سلسلة مفاوضات تمت مع ليبيا إثر الزيارة الأخيرة للرئيس القذافي لباريس على اتفاق مبدئي بتسديد ديونها مقابل تخفيضها للنصف (7.5 مليون يورو) يجري التفاهم معها الآن على اللمسات الأخيرة لتنظيم معرض كبير حول الكنوز الأثرية الليبية التي من المنتظر أن تشرف هذه الأخيرة على تحضيره وتمويله بما يعادل 2.5 مليون يورو. دومينيك بوديس أدلى أيضا بتصريحات مهمّة: كرغبته الصّريحة في فتح باب الشراكة بين هذه المؤسسة الثقافية وأوروبا، وقال انه ينتظر من المعهد أن يلعب دوراً مهماً في إنجاح مشروع «الوحدة المتوسطية». ولهذا فهو سيتقدم يوم 16 يونيو المقبل، للمجلس الأعلى لمعهد العالم العربي الذي يمثل كل الدول العربية بطلب منح كرسي عضوية للاتحاد الأوروبي وآخر للجامعة العربية، مضيفا أنها خطوة جديدة نحو إرساء جو من الحوار بين أوروبا والعالم العربي، وإن كان يستهدف المجال الثقافي مباشرة إلا انه لا محالة سينعكس إيجاباً على العلاقات السياسية أيضا. في السياق نفسه تنوي الإدارة الجديدة خلق وتدعيم شبكة قوية من الشركاء الأوروبيين الذين يهتمون مثل معهد العالم العربي بالتعريف بكنوز الثقافة العربية، وهو ما بدأ فيه المعهد فعلا حيث انه كثيراً ما نسّق مع دول أخرى - خاصة اسبانيا- مشاريع للتعريف بكنوز الثقافة العربية وتقريب هذه الحضارة العظيمة إلى قلوب الغربيين. فقد سبق وعمل مع مؤسسة «الثقافات الثلاث» الموجودة بمدينة اشبيلية الإسبانية على عدة مشاريع ثنائية وكذلك مؤسسة «دار العرب» الموجودة بقرطبة ومؤسسات أخرى بإيطاليا. وهو نظرا لخبرته الغنية بـ 20 سنة ودوره الرّيادي في تنظيم التظاهرات، يجد نفسه الأجدر بهذه المهمة.

المشاريع المنتظرة للأشهر المقبلة كثيرة أهمها معرض على امتداد 1000 متر مربع يتناول السيرة الفنية والشخصية لكوكب الشرق أم كلثوم من 17 يونيو إلى 2 نوفمبر، تتخلله حفلات غنائية، معارض ولقاءات، معرض آخر حول «بونابرت ومصر» ينظم بالتعاون مع جهات مصرية، تُعرض فيه أكثر من 400 قطعة أثرية وفنية، إضافة إلى مهرجان للموسيقى العربية من 17 إلى 20 يونيو.