بعد المؤرخين الجدد.. ظاهرة الروائيين الجدد في إسرائيل

تأثروا بتشكيكهم بالرواية الرسمية حول الفلسطينيين وإنشاء الدولة العبرية

الون حيلو
TT

كان ظهور المؤرخين الجدد في الثمانينات من القرن الماضي ظاهرة جديدة غير مسبوقة في تاريخ اسرائيل. وكان أهم ما قامت به هذه المجموعة من المؤرخين هو التشكيك بالرواية الرسمية الصهيونية للأحداث التي أدت إلى ظهور الدولة العبرية، والتي نشأ وتربى عليها المواطن الإسرائيلي.

وعلى الرغم من أن عدد هؤلاء كان قليلا (وكان بعضهم قد ارتد) إلا أن تأثيرهم ظل مستمراً خاصة على الفئات المثقفة من الإسرائيليين. وواجه هؤلاء المؤرخون كثيرا من النقد ليس فقط من المسؤولين في الدولة بل ومن الصحافة والإكاديميين حتى ضرب عليهم طوق من العزلة والتهميش فاضطر بعضهم إلى مغادرة اسرائيل مثل ايلان بابيه، كما أن بعض دور النشر الإسرائيلية ترفض ترجمة أعمال هؤلاء المنشورة بالإنجليزية إلى العبرية مثل كتاب أفي شليم «الجدار الحديدي: اسرائيل والعالم العربي». وافي شليم هو الآخر يعيش خارج اسرائيل. وفي مقالة له أخيرة في صحيفة يهودية بريطانية أعلن أنه قد أصبح ممن يعتنقون فكرة اقامة دولة واحدة لليهود والفلسطينيين على أرض فلسطين.

وكان من التأثيرات التي أحدثتها دراسات هؤلاء المؤرخين وآرائهم هو تأثر بعض الروائيين والروائيات بدراسات هؤلاء المؤرخين وكتاباتهم. وأصبحت هذه الروايات اليوم ظاهرة جديدة في الأدب الإسرائيلي لم يكتب عنها إلا النزر اليسير ولا تتجاوز أعمار الغالبية من هؤلاء الثلاثين أو الأربعين من العمر والظاهرة التي تجمع هذه الروايات هي التشكيك بالروايات الرسمية الصهيونية لإنشاء إسرائيل واعادة النظر فيها. وكذلك نقد بعض الأساطير التي عمقتها الصهيونية والتي جعلتها جزءاً مهماً من أدبياتها مثل أسطورة مسداه (التي وقعت أحداثها في فلسطين أيام الرومان) والتي تظهر اليهودي بطلا مدافعاً عن نفسه ينتحر ولا يستسلم لأعدائه. وكان أكثر من مؤرخ يهودي قد فكك وقائع هذا الحدث وأظهر التزييف فيه من قبل المؤرخ اليهودي المعروف فلافيوس يوسيفوس (القرن الأول الميلادي)، حيث كان قد بالغ فيه وزاد عليه. وكذلك ما زيفه الجنرال والاثاري إيغال يادين بعد إنشاء الدولة فيما يخص هذا الحدث. كما أن هذه الروايات تلقي ظلالا من الشك على بعض الموروثات اليهودية التي أصبحت جزءاً من ثقافة الإسرائيليين وتراثه.

وتنتقد هذه الروايات أيضا ما كتبه الجيل السابق من الروائيين مثل «أ. ب يهوشع» و«عاموص عُز» الذين رسخوا هذه الأساطير برواياتهم وعمقوها في اذهان الاسرائيليين. وقد ازداد عدد هؤلاء الروائيين والروائيات منذ ظهور رواية أميرغوتفروند «العالم في وقت متأخر قليلا» والتي كانت من أكثر الروايات مبيعا في حينها. وأبرز هؤلاء اليوم «يوخل براندس» و«نوا زيت» و«هداره لزار» والشاعرة والروائية «غابريلا افيغور ـ روتم» التي ربطت في روايتها «الأحمر القديم« بين بداية الاستيطان اليهودي وما يدور من صراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومن هؤلاء أيضا «شولاميت لبد». وكان آخر ما صدر من هذه الروايات في هذا الموضوع رواية «بيت دجاني» للروائي والمسرحي «الون حيلو» التي صدرت في هذه السنة وهي تأتي بعد روايته «موت راهب» التي حازت عدة جوائز وترجمت إلى عدد من اللغات. وتتحدث روايته الجديدة عن بداية مجيء المستوطنين إلى فلسطين وكيف أنهم استحوذوا تدريجيا على الأرض فيها. وهو يعرض الأحداث على شكل يوميات لمستوطن يهودي في نهاية القرن التاسع عشر ويوميات فتى فلسطيني، حيث يظهر المستوطن حاييم مرغليوث كالفاريسكي رئيس إحدى جماعات المستوطنين مشغولا بكيفية حيازة الأرض والاستيلاء عليها لليهود وطرد أصحابها حيث نسبت له هذه المسؤولية. ويصفه الكاتب في روايته بأنه كذاب ونفعي ودجال يقوم بأي عمل من أجل تحقيق أهدافه كالرشوة والمناورة. بينما تتزاحم في ذهن الفتى الفلسطيني صلاح دجاني صور سيطرة المستوطنين على أرض أجداده، بل وسيطرتهم على بيت عائلته الكبير أيضا وانشاء مدن لهم عليها وما ينتج عن ذلك من صراع. وقد اعتمد حيلو في روايته على وثائق تاريخية من الأرشيف الإسرائيلي (كما الحال مع المؤرخين الجدد). فهو عندما يجعل الفتى صلاح يتخيل أن المستوطنين سيبنون في مكان بيت عائلته ثلاثة أبراج بعد أن يستحوذوا عليه توجد اليوم في مكان البيت نفسه الذي يقع شرق تل أبيب ثلاثة ابراج. والون حيلو يعتبر نفسه واحدا من مجموعة من الكتاب الجدد الذين يعيدون كتابة ما قامت به الصهيونية في فلسطين وتصحيح أساطيرها. ويقول «إن الإسرائيلي ينشأ ويتعلم أن فلسطين قبل دخول الصهاينة إليها كانت صحراء وأن المهاجرين هم الذين جلبوا الخير للعرب القليلين الذين ازداد عددهم بعد أن هيأ لهم اليهود فرص عمل لهم وأنهم اشتروا الأرض منهم بتفاهم واتفاق معهم. بينما هذه كلها أساطير. وإذا أردنا أن نخرج من المأزق السياسي الذي نحن فيه فعلينا أن نراجع هذه الأساطير ونعيد النظر فيها ومنها الكذب والتزييف. وسوف لا يكون هناك حل إذا تجاهلنا الجانب النفسي من الصراع. كما علينا أن نعرف لماذا يطالب الفلسطينيون بحق العودة». ويقول: «إن حالة اسرائيل اليوم مثل قطار يسير بسرعة في الوجهة المعاكسة. وإذا لم نعترف بما ارتكبناه من مذابح فسيكون مصيرنا الارتطام».

وعلى الرغم من أن هؤلاء أخذوا يواجهون نقدا من بعض الكتاب كما في مقالة حديثة للكاتب يفتح أشكنازي في صحيفة «هاآرتس»، حيث انتقد روايات الكاتبة غابريلا أفيغور ـ روتم إلا أن تأثيرهم كما يُعتقد سيكون أكثر من تأثير المؤرخين الجدد بسبب الشريحة الاجتماعية الواسعة التي تقرأ الروايات والتي هي أكثر من تلك التي تقرأ الدراسات العلمية الجادة وسينعكس هذا في المدى البعيد على هوية اليهودي الإسرائيلي التي تعتبر الآيدلوجية الصهيونية جزءاً اساسياً منها.

* أكاديمي عراقي