أوروبا.. القارة الوحيدة التي تعادي العنف وتكره الحروب؟

الحمقى وحدهم يعتقدون دائما بأن قاذفات القنابل هي الحل

TT

الاتحاد الأوروبي حقق نجاحا متناهيا فالشعوب اليونانية، الاسبانية، البرتغالية والروسية تحرّكت من الشمولية لتتجه نحو الديمقراطية، ليس عن طريق الثورة الدموية، ولكن، عن طريق التغيير السلمي. وفي عواصم مثل مدريد، لشبونة، براغ، برلين، وارسو، وحتى موسكو، التي امتلأت شوارعها بدماء القرن العشرين، يرفض الجنود توجيه فوهات أسلحتهم إلى صدور شعوبهم.

التناقض بين الرغبة إلى السلم، وبين ما يبدو عدم تفادي الحرب، يكمن في قلب أوروبا القرن العشرين. ففي بداية ذلك القرن، وصفت الدول الأوروبية باحتكارها للعنف، وبشكل خاص، قدرتها على شن الحروب. لكن، عند نهاية القرن العشرين، استقرّت وبثقل كبير، على نجاحاتها في تجنب الحرب، وهذا يعني بأنها في كل الأحوال، لم تعد قادرة على إدارتها بإخلاص، أو بالأحرى غير راغبة فيها.

هذا التحوّل في دول أوروبا، على نطاق السياسة، الاقتصاد، والسيكولوجية، هو الموضوع الرئيس للباحث الأميركي جيمس شيهان، المختص في التاريخ الأوروبي. إنه في الحقيقة موضوع جديد، لم يتطرق إليه أحد من الباحثين من قبل.

في الخامس عشر من فبراير (شباط) عام 2003، تظاهر ما يقرب من مليون إنسان في لندن ضدّ القيام بشن حرب وشيكة على العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، حيث اعتبرت هذه المظاهرة اكبر مظاهرة في تاريخ لندن. كذلك انطلقت تظاهرات مشابهة في عموم أوروبا، وكان المتظاهرون في كل مكان لا يلتزمون في مظاهراتهم هذه أي جانب من جوانب الصراع، بل انهم كانوا فقط ضدّ الحرب، أو بالأحرى ضدّ أي حرب تقام في العالم. ولكن على الجانب الآخر كان هناك خمسة وخمسون في المائة من الأميركيين يؤيدون الحرب، وذلك لإحلال «العدالة»، فيما لم يسجّل أي بلد أوروبي أكثر من عشرين في المائة من المناصرين لهذه الحرب، وفي بعضها لا تكاد النسبة تصل إلى عشرة في المائة. الأوروبيون يعتبرون الالتجاء إلى العنف، ولأي سبب كان، مسألة أصبحت من مخلفات الماضي: مخلفات بربرية من بقايا القرن العشرين المليء بالأحداث الدامية.

إذن، هل ان أوروبا، هي القارة الوحيدة التي تعادي العنف وتكره الحروب؟ وهل أن سكانها يختلفون في سلوكهم عن بقية العالم، خاصة عن الأميركيين؟ يقول مؤلف كتاب «احتكار العنف: لماذا يكره الأوروبيون الذهاب إلى الحرب»، جيمس شيهان:«لقد احتفظت الدول الأوروبيّة بالقدرة على صناعة الحرب، لكنها، فقدت كل رغبة في خوض غمارها. هذا ما خلق ثورة دراماتيكية، مثل أية ثورة في تاريخها». فخلال القرن الماضي، ذاقت أوروبا مرارة طعم الحرب وخاضتها حتى التدمير الشامل، ثم توصلت إلى نتيجة مفادها ان الحرب عديمة الجدوى، ولاطائل تحتها.

في الحقيقة، إن أوروبا، وكلما ذهبت إلى الحرب طواعية، كجزء من تحالف، كما في كوسوفو، أفغانستان أو العراق، فإنها لا تفعل ذلك إلا بشكل نصف متعاطف ولا تؤدي إلا دوراً ثانوياً وغير فعّال. من هنا نجد ان شعوب أوروبا وحكوماتها لا تميل لمثل هذه الحروب ويرون أنها اصبحت خارج إطار التاريخ. وبسبب ما عانوه من ويلات أثناء الحروب التي أنهكتهم، أسس الأوروبيون «الدولة المدنية»، أو الدولة الاقتصاديّة. ولعلّ آخر حرب كان فيها القتال يمثّل المجد والاعتداد، هي الحرب العالمية الأولى.

الكاتب شيهان يقتفي آثار الجهود التي بذلت من أجل توطيد سلام دائم، إبتداء من معاهدة هاغو عام 1899 وحتى معاهدة فرساي عام 1918. إنه يتناول بالبحث والتحليل اتفاقية كيلوغ ـ بريند للسلام عام 1929، ثم تأسيس عصبة الأمم، الأمم المتحدة والاتفاقيات الجديدة التي أنهت الحرب الباردة عام 1990. لكن شيهان يجد بأن آمالاً كبيرة ونبيلة يمكن أن تتحطّم على صخرة الشوفينيّة الرجعية والقوّة الساحقة للمؤسسات العسكرية «إن الحمقى، دائماً ما يؤّولون الموضوع ويدّعون بأن قادفات القنابل هي التي بإمكانها أن تنهي الحرب، أو أن الحرب سيكون تأثيرها هائلاً في إشاعة الديمقراطية». عند نهاية القرن الماضي، كان في ترسانات أوروبا من القوّة النووية ما يجعلها قادرة على تدمير الكرة الأرضيّة لعدّة مرّات. وفي هذا الصدد يستشهد الكاتب بالفيلسوف (كانت)، الذي يقول «الحرب هي حالة مرضيّة ينبغي التغلّب عليها، وهي اكثر من كونها حالة كارثيّة ينبغي تحمّلها». وفي ما يتعلّق بالجانب الاقتصادي والتجاري، يقول (جون برايت)، وهو سياسي وخطيب من القرن التاسع عشر «لا شيء يمكن أن يكون أكثر حماقة، أو أكثر جنوناً، مثل سياسات الحرب، بالنسبة للأمة التجارية، ذلك ان الاقتصاديين وجدوا «في التبادلات والمقايضات التجارية ليس فقط الطريق إلى النمو والازدهار، بل أيضاً، الطريق لحل المشاكل والمعضلات القائمة أو التي تنشأ، وأفضل دليل على ذلك، ما شهده القرن العشرين من مشاكل بين النظامين، الرأسمالي والاشتراكي.

يرى المؤلف، إنه كان من المستبعد، خلال الخمسينات قيام الغرب بمواجهة حربية مع الاتحاد السوفييتي، حتى لو كان «لانقاذ الحريّة» في هنغاريا وجيكوسلوفاكيا، لأن النتائج ستكون، بالتأكيد، مرعبة ومدمّرة. الشيوعية، حسب رأي الكاتب، قد دحرت، ليس بقوّة السلاح، ولكن، من خلال ما تكبّدته من تكاليف خلال الحرب الباردة، ومن خلال ممارسة «القوّة الناعمة»، وحقيقة إخفاقها في منح شعوبها الرفاهية التي تتمتّع بها الرأسمالية. ان أوروبا ترى من الأفضل استخدام العقوبات أو الحصار الاقتصادي والعسكري بدلاً من الحرب والعنف. الأوروبيون، ومنذ زمن ليس بالقصير، «استولوا» على مفردة «الحرب» لاستخدامها مجازاً، كإجراء مدني ضدّ الفقر، المخدرات والجريمة. المؤلف يلاحظ، بأن قوانين وشرائع عنف الدولة آخدةً إلى الاضمحلال. الآن، لم يعد الكثير من شبيبة أوروبا، يقبل «واجب الموت»، أي ممارسة القتال، الذي تطالب به الدولة مواطنيها، ولم يعد الموت ينظر إليه كجزءٍ من العقد الاجتماعي.

حسب رأي المؤلف، إن أوروبا اليوم، طوت كل تراثها العسكري القديم، لتخلق منه الاتحاد الأوروبي، وجهدت لاحداث حرب قاريّة، تستدعي «ليس مواطنين جاهزين للقتل والموت، وإنما، مستهلكين ومنتجين فقط. ضمن هذا السياق، يمكن القول بأن الاتحاد الأوروبي، قد حقق نجاحاً متناهياً فالشعوب اليونانية، الإسبانية، البرتغالية والروسية تحرّكت من الشمولية لتتجه نحو الديمقراطية، ليس عن طريق الثورة الدموية، لكن، عن طريق التغيير السلمي.

ففي عواصم مثل «مدريد، لشبونة، براغ، برلين، وارسو، وحتى موسكو، التي امتلأت شوارعها بدماء القرن العشرين، يرفض الجنود توجيه فوهات أسلحتهم إلى صدور شعوبهم. لم يكن غاندي في أي مكان، محل تقدير وإجلال،أكثر مما في أوروبا منتصف القرن الماضي». هذ ما يدل على أن شعوب أوروبا، وحتى حكوماتهم، تجنح، أساساً، إلى السلم، لأن شواهد حربين عالميّتين مدمرتين لا تزال قائمة إلى الآن.

وفي ما يتعلق بالوظائف العسكرية للدولة، والتصدي للأعمال العدوانية والحفاظ على النظام والأمن في العالم، فإن نصيب أوروبا ضعيف جداً، ولعلها منحته إلى أميركا «المولعة بالحرب منذ نهاية الحرب الباردة». وعلى هذا الأساس، يبدو أن الأميركيين أخذوا على عاتقهم تحمّل عبء «الرجل الأبيض»، أولاً، ضد الخطر السوفييتي «الأحمر»، والآن، وبعد زوال ذلك الخطر،ضد الدول «الحمراء» بشكل عام. يؤكد المؤلف على أن الحروب التي خاضتها وتخوضها أميركا هي حروب غير متكافئة، واعتقاد ساذج بالقوّة التكنولوجية للحرب كبديل لدموية ساحة المعركة. وإن حروب أميركا أواخر القرن العشرين، في فيتنام، أفغانستان والعراق، مليئة بالاخفاقات ومكررة الأخطاء التي ارتكبها الأوروبيون أثناء تراجعهم عن إمبراطوريّتهم.