الروائي العربي تنقصه الجرأة على الوصف

قضية مسكوت عنها تطرحها الباحثة التونسية نجوى الرياحي القسنطيني

TT

تهتم الباحثة التونسية نجوى الرياحي القسنطيني المتخصصة في الأدب والنقد الحديث بمجال الرواية العربية، وما يثيره من حيرة معرفية نقدية خصوصا في البعد الفنّي الجمالي.

وإذا كانت قد اشتغلت في المرحلة الأولى من أبحاثها على جدلية الحلم والهزيمة في روايات عبد الرحمن منيف والأبطال وملحمة الانهيار، فإنها في كتابها الجديد المعنون بـ «في نظرية الوصف الروائي» والصادر عن دار «الفارابي»، تحفر في مسألة رأت أنها شبه مسكوت عنها لجزئية دراساتها النقدية وعدم تعمّق تطبيقاتها ومحدودية أدواتها التحليلية وقلة مصطلحاتها، وتقصد بذلك ظاهرة الوصف باعتبارها مكونا نصيا جديرا بالدراسة والتحليل ومدخلا مناسبا لفهم النص الروائي.

وقد طرحت الدكتورة نجوى الرياحي السؤال التالي الذي يشكل جوهر مراكز اهتمام تأليفها: ما هو مدى توافر النقد العربي على جهاز نظري عريق أو حديث خاص بظاهرة الوصف. وهل الوصف ذاته قابل للضبط والتحديد والتخصيص في لغته وأشكال توزيعه وانتظامه؟

في الصفحات الأولى من الكتاب شخصت الباحثة أسباب ما وصفته بالخلل في تعامل باحثين عرب مع الوصف، متوقفة عند مجموعة من العوامل أبرزها قرب عهدهم بفن الرواية مقارنة مع الشعر، وافتقارهم إلى جهاز نقدي نظري موروث خاص بالكتابة الروائية، ومجاراتهم النقد الغربي في تأخر اهتمامه بالوصف الروائي، وتحليلهم الوصف في الرواية بأدوات لا تبلغ بهم جوهره، واستعانتهم عليه بمرجعيات لا تناسب طبيعته وآلية اشتغاله. وقد زاد على ذلك أمران: أولهما هو استخفاف دارسين عرب بالوصف واستهانتهم بدوره في الرواية، وثانيهما تصاعد الاهتمام بمكونات الكتابة الروائية ومقولاتها وتقنياتها منذ أواخر القرن التاسع عشر، في حين ظلّ الوصف الروائي مهشما في النقد مشكوكا في قيمته وجدوى وجوده ضمن الرواية، وذلك رغم ثبات مكانته فيها. وفيما يتعلق بمدى اهتمام المدونة النقدية العربية القديمة بظاهرة الوصف، ذكرت نجوى الرياحي القسنطيني أن الاهتمام حاصل ولا شك فيه إذ تمت دراسة الظاهرة الوصفية في الغالب من ضمن ظواهر أخرى لها بالوصف صلة جعلته إما يذكر وينظر فيه صراحة أو يعرض عرضا ضمنيا من خلال غيره مثل المحاكاة والتخييل والتصوير خاصة.

وبينت في هذا السياق أن اهتمام بعض النقاد بالوصف بدا كبيرا لعلاقته بالشعر غرضا وأسلوبا، مضيفة أنه قيده بالمنفعة الإخبارية التواصلية حتى لم يستطع أن ينظر له وهو ما يتضح مثلا في العمدة لابن رشيق وعيار الشعر لابن طباطبا. واهتم فريق اخر بالوصف اهتماما جزئيا لهوسه بمسألة إعجاز القرآن أكثر. وهي مسألة لم يوظف الوصف من الجانب الفني الجمالي فيها.

في حين اهتم نقاد آخرون اهتماما جزئيا بالوصف إذا كان صريحا لكنهم بحثوا في قضايا مهمة استفاد الوصف من بحثها كثيرا وذلك لاتسام هذا المبحث بطابع فلسفي خلص النقد والبلاغة- نسبيا- من سلطة الإعجاز ومن سلطة المشابهة والمطابقة بين الموصفات والصفات. وممن نحوا هذا المنحى أشارت الباحثة إلى كل من قدامة بن جعفر في نقد النثر بدرجة صغيرة وحازم القرطاجني في منهاج البلغاء وعبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة بدرجة كبيرة.

ومثل هذه المباحث النقدية والبلاغية قد ساعدت في تعرّف: مفهوم الوصف ومجالاته وخصائصه وشروطه ومراتبه وعملياته ومراحله وعلاقته بالحس والخيال واحكامه ومعاييره. وبعض تلك المباحث أفاد في تعريف جمالية الوصف وأولياته وطرق نظمه وبلاغته.

وبالنظر إلى هذه الاهتمامات المختلفة، لاحظت صاحبة الكتاب أن المدونة التراثية العربية، قد ركزت الاهتمام بالوصف على الشعر أكثر من النثر بكثير، الشيء الذي جعل المدونة النقدية في هذا الغرض تبدو مقصرة في عدة جوانب. بالإضافة إلى ان استنتاج اخر مفاده أن الوصف النثري رضخ لما سلطه القدامى على فاعلية الإبداع من قيود الدين والأخلاق والمنطق وهي قيود حالت دون إنتاج جهاز نقدي على غرار ما تستند إليه الدراسات الغربية من نظريات واضحة البناء والشكل وعلى اثر النظر في المدونة النقدية التراثية، وجهت الباحثة أدواتها النقدية والتحليلية للحفر في الخطاب النقدي الحديث والمعاصر حول الوصف، مبرزة أن حاله يتراوح بين التحقير والتقدير مع غلبة الأول على الثاني. فكيف فككت الباحثة الموقف التحقيري لظاهرة الوصف؟

تقول القسنطيني إن الوصف، قد لحقه إهمال كبير وكثير من التحقير والتصغير وأيضا التشهير وذلك لثلاثة أسباب:

- السبب الأول يتعلق بطبيعة الوصف ومحتواه. فهو في نظرهم متصل بكل التلفّظات منطوقها ومكتوبها وبكل المجالات العلمية والجغرافية والإحصائية واللغوية وحتى الاشهارية، ومتعلق بكل المعارف القاموسية والموسوعية وحتى الاصطلاحية المختصة.

- السبب الثاني يتعلق في نظرهم بعدم قابلية الوصف للانتظام لان بنيته متسعة غير مقيدة بأية حدود.

- السبب الثالث يتعلق بأثر الوصف السيئ عندهم في الرواية. وهذا السبب مترتب على السببين السابقين ضرورة. لان الوصف إذا حضر في الخطاب الروائي سيكون محمّلا بجملة من المعلومات تُلقى فيه جزافا، وتُعد في منطق المغامرة الروائية حشوا وتفصيلا قد يلائمان الخطابات الإرشادية والتعليمية اما في الرواية فلا يبعثان الا على الملل والنفور.

وأضافت الدكتورة نجوى أن الأسباب الثلاثة، كرست اعتبار الوصف خطرا مهددا للرواية يقضي بضرورتين:

الضرورة الأولى: أن يبعد عنها فلا جدوى له فنية أو دلالية في خطاب الرواية.

الضرورة الثانية: أن تجعل له في الرواية إن حضر أصغر المواقع وأدناها فيكون خادما مطيعا للمغامرة الحكائية مطية ذلولا فيها، مقيدا بخطاب السرد ملتزما بحدوده.

وانتهت صاحبة البحث إلى مجموعة من الملاحظات أولاها أن ظاهرة الوصف النثري تعاني من نقص في تحديد جهازها المفاهيمي وآليات تركيبها مشيرة في نفس الملاحظة إلى أن إسهامات القدامى رغم تقصيرها تعد أكثر وأهم من جهود الخطاب النقدي الحديث معبرة عن تذبذب وضعية الوصف عندما نقارن مقامه في النص الروائي وموقعه في الخطاب النقدي وتقول في هذا الصدد: عندما تأملنا حركة الرواية العربية الحديثة، تبينا أن للوصف دورا كبيرا في جماليتها وآليات بنائها. وعندما نظرنا من جهة أخرى في حركة النقد الحديث، تبينا بصورة عامة نهضته الحاسمة إلى دراسة خصائص الخطاب الروائي البنائية والشكلية ووظائفه الفنية وأبعاده الدلالية، ولاحظنا بصورة خاصة تكاثر الدراسات الباحثة في السرد وتعمقها حتى أطلق النقاد عليها مصطلح علم السرد أو السردية، في حين ظل حظ الوصف من الدراسة ضئيلا حقيرا.

وهذه المفارقة التي تحيط بالوصف فترفعه في الرواية تحط من شأنه في النقد جعلتنا نحتار، فلا نجزم بخلو النقد الحديث مما يتعلق بالوصف ولا نثبت اهتمامه به. متكامل واضح. وأسفر نظرنا في بعض تلك القراءات عن نتيجتين: الأولى هي تعامل النقاد والدارسين العرب مع الوصف باعتباره مسلمة نقدية بديهية لم يخضعوها للبحث والمساءلة. والثانية هي انشغال من تجلى عندهم الوعي بضرورة التنظير للوصف، بجملة من العوامل مثل الحرص على تعليم المبتدئين والخشية من الإغراق في التنظير وضيق مجال البحث.

ولعل أهم ما يثير التفكير بعد الفراغ من قراءة هذا الكتاب هي مسألة إلى أي حد تتدخل منظومة القيم الثقافية في تحديد أنماط السلوك والتفكير كافة ومن دون استثناء، ذلك أن النسق القيمي الرمزي للثقافة العربية قد تحكم في إنتاج ما هو مسكوت عنه وما هو مباح إلى درجة أن الوصف، كمعطى تفصيلي تستوجب ممارسته هامشا واسعا من الحرية وعالي السقف وذلك باعتباره مرآة تعكس الحيز الذي تحظى به حرية التعبير في أي حضارة كانت. فهل نحن ننتمي إلى ثقافة تخاف الوصف أم تمارسه دون قيود أو حدود وهل الروائي العربي جريء في الوصف وإلى أي سقف؟