ما لا نعرفه عن عبد الوهاب المسيري

شهرته في مجال «الصهيونية» حجبت وجوهه الأخرى

TT

لم يكن المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، الذي غادرنا الأسبوع الماضي، مجرد دارس ينحت في صخر الصهيونية، فقد كانت له جوانبه المتعددة ووجوهه المتنوعة، وإنه لمن الغبن ألا نرى في هذا المثقف الفاعل والنشيط الذي سلم آخر مقالاته عشية وفاته، إلا اختصاصه الوحيد الذي اشتهر به. وفي هذا المقال نكتشف المسيري المتابع لظاهرة الفيديو كليب، والناقد السينمائي كما الشاعر والمهتم بالرقص الشرقي، وقبل كل شيء كاتب قصص الأطفال وصديق العفاريت، وصاحب الطقوس الغريبة في مواجهة موت الأحبة.

ارتبطت حياة عبد الوهاب المسيري، بطقوس خاصة لازمته حتى في حالات وفاة أقرب المقربين إليه. فيوم توفي والده كان في نيويورك. وعندما علم بالخبر، ذهب لمشاهدة مسرحية بريخت «القاعدة والاستثناء». أما عندما توفيت والدته، حضر مراسم الدفن، ثم قرر أن يحتسي بعض المشروبات التقليدية، فذهب إلى عطار بحي الحسين وطلب منه عدداً من الأعشاب مثل التليو، الحلبة، منقوع ورق الجوافة، واليانسون. لكن المسيري للأسف، لم يتمكن من ممارسة أي من طقوسه ليستعد لوفاته التي باغتته فجأة، غير أن رحيله في مستشفى يحمل اسم «فلسطين» كان له دلالة رمزية كبيرة.

قد تبدو التفاصيل السابقة بلا رابط يجمعها، غير أنها تصبح في حياة المسيري ذات معنى حين نعود إلى مذكراته التي صدرت في القاهرة عام 2000 تحت عنوان:«رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر.. سيرة غير ذاتية غير موضوعية». وفي فصل حمل عنوان:«الرموز والطقوس وداء التأمل» يتضح أن كافة التفاصيل تتداخل عند المسيري لتكتسب دلالات شديدة الذاتية، فموسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد» تتحول عبر تفسيراته الرمزية إلى:«معركة الإنسان ضد الظلم، وإلى هذا الصراع بين الإنسان والإنسان الذي يحاول تجاوز عالم الحواس الخمس». لا تتوقف حدود الرمز عند المسيري عند مستوى الفكر، بل يتجلى فيما هو أبسط من ذلك بكثير، حتى لو تعلق الأمر ببعض الأطعمة:«فالمعكرونة كانت بالنسبة لي هي السحر بعينه. كنت أتصور في طفولتي أنها طعام أهل الجنة، لذا كان تناولها بالنسبة لي يعني تجربة شبه روحية لا علاقة لها بإشباع الحاجة البيولوجية للطعام، كنت آكل منها لا بمقدار حاجتي الغذائية المادية، وإنما بمقدار حالتي النفسية أو العاطفية». والظريف ان المسيري يربط بين المعكرونة وقراءة الوقائع التاريخية: «لذا كنت أنظر بشيء من الفهم لحالة الخديوي عباس الثاني، الذي يقال إن مستشاريه الأجانب سيطروا عليه من خلال المعكرونة. كما تفهمت حالة الملك فاروق الذي يقال إنه أصيب بأزمة قلبية بعد أن تناول كمية هائلة من المعكرونة»!! إنها تفاصيل لا يعرفها كثيرون، لكنها تشير إلى أن للمسيري وجوها عديدة ظلت شبه مجهولة، تختفي وراء دراساته للصهيونية التي منحته شهرة أكبر بوصفه واحداً ممن قدموا قراءات مغايرة لما هو سائد، لهذا قد تضيء التفاصيل الأقل شهرة جانباً من حياة الرجل.

في إطار برنامج حمل عنوان «عالمك من يحكمه»؟ طرحت إذاعة bbc عام 2005 سؤالا على المسيرى هو: هل يمكن القول إن روبي أو نانسي عجرم تحكمان الشباب؟ في أحوال كثيرة يرفض المثقفون الإجابة عن أسئلة من هذا النوع تخصّ ثقافة دون مستواهم. لكن إجابة المسيري أوضحت أنه متابع جيد لكل ما يحدث حوله، لأنه يرى الأمور كلها تتقاطع، وقد أجاب:«أعتقد أنهما تحكمان جزءاً صغيراً للغاية من الشباب». ثم أضاف:«أزعم أنهما تقدمان نفسيهما باعتبارهما مفعولا به وليس فاعلا، وشيئاً يتمتع به الإنسان. وهذا الشيء يختزل في عالم الجسد فقط، وهذا كان أحد اعتراضاتي الأساسية على الأغاني المصورة. لذلك طالبت جماعات الدفاع عن حقوق المرأة بالاحتجاج على هذا باعتباره امتهانا للمرأة». ثم بدأ في التحليل:«في حين تتجه روبي للغرائز بشكل مباشر وقوي جداً، نجد أن مخرج أغاني نانسي عجرم يضع فيها بعض البراءة، بحيث ان الإنسان حتى وهو يستجيب بشكل شبه حيواني، يظل هناك عنصر من عناصر البراءة. وهذا يشجع المشاهد ويسكت ضميره بعض الشيء. وقد درست ثلاث أغان مصورة لروبي ووجدت أن المخرج يحاول باستمرار أن يعمق الجانب الجسدي (....)، بينما مخرج أغاني نانسي عجرم يتعمق في الجانب العادي والطبيعي. يظل الجسد حاضراً ويظل هو المركز، لكن مع وضع جوانب إنسانية». الرأى السابق كان اختزالا لرؤية أكثر عمقا قدمها المسيري في مقال نشره بجريدة «الأهرام» في أبريل 2004 تحت عنوان: «الفيديو كليب والجسد والعولمة، نحت فيه مصطلحاً جديداً عندما فرق بين الرقص الرأسي والرقص الأفقي:«بعد دراسة متأنية للفيديو كليب استغرقت ساعات طويلة لذيذة أمام التلفزيون، أقلب من قناة راقصة إلى أخرى أكثر عرياً، اكتشفت أنه مما يساعد الفيديو كليب على اقتحامنا ما أسميه الرقص الأفقي. فكلنا يعرف الرقص الرأسي، وألفناه، فقد شاهدناه في الأفلام وفي فنادق الخمس نجوم والكباريهات التي بلا نجوم، ولكنه كان رقصا رأسيا دائمًا. أما الرقص الأفقي فهو مختلف تماما إذ تنام الراقصة/المغنية على الأرض (وهي نصف أو ربع عارية ثم تحرك ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة) لأسباب لا تغيب عن بال أي مشاهد. هذا الرقص أكثر وقعا وتأثيرًا، وهو يدهشنا تماما، مما يجعلنا نستسلم لإغواء الصورة ونرفع الرايات البيضاء والخضراء والحمراء وكل الألوان الأخرى، إذ كيف يمكن للمشاهد أن يتفكر أمام هذه الصور الملونة بالألوان الطبيعية وغير الطبيعية لهذه الحسناء المتحركة الأفقية»؟ وبعد أن يشير إلى أن الرقص الشرقي الذي يهدف لإثارة الغرائز ظل منفصلا عنا يوضح مكمن الخطورة الأساسية في الكليبات:«الأهم من كل هذا هو ما أسميه عملية تطبيع الرقص والإثارة، فالرقص يقدم في الفيديو كليب على أنه جزء من صميم حياتنا العادية اليومية. وبدل أن تذهب إلى الكباريهات جاءت هي إلينا. ولعل هذا ما حققه شريف صبري في أغنية روبي الأولى «انت عارف ليه»، حين ظهرت وهي تسير في الشارع بشكل عادى جدًا ببدلة الرقص، ثم ظهرت بملابس عادية، واستمرت في نفس الرقص البلدي». ويبدو الكاتب الراحل على وعي بأن اهتمامه بهذا الموضوع سيكون محل تساؤل، فيقول: «سيطرح الكثيرون عليّ هذا السؤال: لماذا تكتب عن هذه الأمور؟ والرد بسيط للغاية، وهو أن مثل هذه الأمور تؤثر في الملايين، وهي تبين مدى تغير إدراكنا لأنفسنا ولما حولنا، ولوظيفة العواطف والجسد والجنس. وهي أمور من صميم وجودنا الإنساني». اهتمام المسيري بالفن ليس جديداً ففي مقال نشرته له مجلة «الشهر» في مايو 1961 (وعثر عليه الشاعر شعبان يوسف) قارن بين فيلمين أحدهما أميركي والآخر مصري. المقالة التي حملت عنوان: بين التراجيديا والإحساس بالحزن... دراسة في جلد الثعبان وبداية ونهاية، حيث قدم المسيري رؤية تحليلية للفيلمين دون أن يعمد حسبما أكد إلى المفاضلة بينهما.

اهتمامات المسيري بالصهيونية دليل على اهتمامه بالسياسة الخارجية، لكنه في سنواته الأخيرة بدا أكثر اهتماما بالشأن الداخلي، شارك في تأسيس حركة «كفاية» وصار منسقا لها حتى وفاته، شارك في مظاهرات عديدة، ورفع دعوى قضائية يطالب فيها رئيس الجمهورية بالدفاع عن اللغة العربية مما يهددها من أخطار. غير أن السياسة كانت تشغل المسيري منذ سنوات صباه، خاصة أنه ولد عام 1938 في ظل ازدهار حركات التحرر الوطني. وقد أشار في مذكراته إلى بعض ممارساته:«لا بد أن أذكر أنني أنتمي لجيل كان ينضج سياسياً بسرعة مقارنة بأجيال هذه الأيام. فقد كانت لي مواقف سياسية وأنا ما زلت بعد في السابعة. وفي الأربعينات ـ على سبيل المثال ـ كنا لا نكف عن التفكير في الحرب ضد الانجليز وتحرير مصر. فكنا عند خروجنا من مدرسة قرطسا الابتدائية، نلوح للجنود الانجليز الذين تنقلهم القطارات من مصر إلى الإسكندرية أو العكس، ونشير لهم بعلامة النصر v فيخرجون لتحيتنا فنقذفهم بالحجارة، ونجري لنختفي في شوارع دمنهور وحواريها (...) وقد كونا أنا وأصدقائي في شارع الأنصاري بدمنهور جمعية سرية لمحاربة الانجليز. وكانت سرية حتى لا يكتشف الإنجليز أمرنا في حالة دخولهم دمنهور مرة أخرى». ويرى المسيري أن هذه القصة الطفولية تبين انه حتى (لعب العيال) كان يتخذ الشكل السياسي الوطني. وهو ما تحول إلى ممارسة حقيقية عندما شارك في مظاهرات الطلبة ضد الملك فاروق في أوائل الخمسينات عندما أقال وزارة الوفد، بعدها بسنوات انضم إلى أحد التنظيمات الماركسية (وكان قبلها عضواً في جماعة الإخوان المسلمين!) ليصبح مسؤولاً حزبيا عن مصنع «شربيط» لتجفيف البصل بالإسكندرية، ونجح في تنظيم إضراب عمالي. كما قبض على المسيري في الإسكندرية أثناء توزيعه منشورات ترحب باندلاع ثورة العراق في الخمسينات، وموقفه السياسي من مظاهرات الطلبة عام 1971 كان سبباً في علاقة ظلت مستحيلة مع الشاعر الراحل أمل دنقل:«قابلت المرحوم امل دنقل عدة مرات، وكان يرفض أن يحييني دونما سبب واضح، إذ انني لم أسىء إليه قط، بل ولم أكن أعرفه. ولكني فوجئت به ذات مرة يحييني بحرارة بالغة، وقال إنه كان يظن أنني عميل أميركي لأنني تعلمت في الولايات المتحدة. أما وقد شاركت في مظاهرات الطلبة عام 1971 وقمت أنا وزوجتي بتوقيع البيان الذي كتبه الدكتور فؤاد زكريا مؤيدا للطلبة ومطالبا بإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، فقد انتفت عني صفة العمالة بالتالي. وقد تعجبت للغاية من سطحية هذا الموقف، فلا التعلم في الولايات المتحدة يجعل من المرء عميلا ولا الاشتراك في مظاهرات الطلبة ينفي عنه هذه الصفة». وسط زخم الفكر الأكاديمي لم ينس عبد الوهاب المسيري نفسه كأديب، خاصة أنه بدأ حياته دارساً للشعر، وكان بين الحين والآخر يكتب قصائد دون ان ينشرها:«لا أطلع عليها إلا أقرب الأصدقاء. فهي خاصة للغاية، ذات طابع فلسفي متطرف ولا أعتقد أنها ممتازة»، كما استمر في كتابة الدراسات الأدبية، التي بدأها في مستهل حياته بمقال عن إبراهيم ناجي أرسله إلى إحدى الصحف الكبرى ليفاجأ به منشورا باسم أحد كبار الكتاب! والطريف أن أول مقال نقدي نشر له بعد ذلك بأيام وكان ذلك الذي نشرته له مجلة «الشهر» وسبقت الإشارة إليه.

غير أن المسيري كان أكثر جرأة في مجال قصص الأطفال (مقارنة بالشعر)، فقد نشر عدداً من كتاباته للأطفال، ويرجع اهتمامه بهذه النوعية إلى مصادر متعددة:«كانت هناك قصص المربيات، خصوصا قصص خالتي (ستيتة) التي أخبروني عنها، لأنني كنت أرفض النوم إلا بعد أن تحكي لي قصة من قصصها الشعبية الخرافية الجميلة (...) وحينما كنت في الولايات المتحدة كنت أقرأ كتب الأطفال». ونتيجة هذه القصص والبيئة التي نشأ فيها المسيري بمدينة دمنهور ظل يخشى العفاريت، ولم يتغلب على مخاوفه تلك إلا بعد أن تجاوز الأربعين! غير ان الأمر الغريب أنه كان يخلق في طفولته عفاريت خاصة به ويعطيها اوصافاً دقيقة واسماء مخيفة ليرهب بها أقرانه:«المشكلة ان هذه العفاريت كانت تنفصل عني تماما وتصبح كيانا مستقلا له صفات محددة، فتتصرف بحرية شديدة، وتبدأ تظهر لي فيصيبني الرعب وترتعد فرائصي منها»!!

ويرى المسيري أن كتاباته للأطفال تعبر عن نفس الأفكار التي توجد في أعماله الأخرى ومن بينها الموسوعة الشهيرة، فثمة نموذج معرفي أساسي كامن وراء كل القصص، ورفض للموضوعية المتلقية والنصوصية البلهاء والمعلوماتية الفجة والسببية الصلبة، حسب تعبيره. كان المسيري قد بدأ كتابة قصصه تلك عام 1970 وعندما عرضها على احد الناشرين بعدها بثلاثة أعوام رفضها لأنها غير علمية وخيالية غير واقعية. واستمر المسيري في كتابة قصص الأطفال، لكن هناك موقفاً طريفاً حدث له مع أبنائه:«حينما كنت أطلب من أطفالي تدوينها كانوا يرفضون، ولعلهم كانوا يشعرون بأن عالمهم الأسطوري عالم شفهي ليس له حدود ثابتة». بعدها بسنوات بدأ تعاونه مع «دار الشروق» لنشر موسوعته، وعندما عرض القصص على مسؤولة قسم الأطفال، أعجبت بها وقررت نشرها لأنها خيالية وغير واقعية. ويعلق قائلا:«أي أنها قبلت نشر القصص لنفس الأسباب التي رفضها من أجلها ناشر آخر عام 1974». وهكذا ظهرت القصص ضمن سلسلة تحمل عنوان: حكايات هذا الزمان.

ما سبق مجرد لمحات من مسيرة مفكر كبير، يحتاج منجزه إلى إعادة قراءة، خاصة أن هناك ملاحظات عديدة للمتخصصين في مجال الدراسات الإسرائيلية على بعض ما ورد في كتاباته. لكننا فضلنا أن نركز على الجوانب التي اختفت ولو جزئيا في خضم إنجازاته الأكثر شهرة في مجال الصهيونية.

* صباح ياسين: الغرب يعرفه أفضل منّا

* الباحث والكاتب العراقي صباح ياسين، مساعد مدير «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت يرى ان للأعمال التي تركها عبد الوهاب المسيري أهمية يصعب تقييمها، لأنه أشبه بالجبل الكبير الذي تصعب الإحاطة بجوانبه. الأعمال التوثيقية والموسوعية التي كتبها، لم تجد الانتشار ولم تحظ بالنقاش الجدير بها، لأنها تقدّر وتفهم من نوعين من الناس: إما أصحاب الرأي والسياسة أو اصحاب الفكر. أما عموم الناس فيهتمون بمقالة أو مسرحية أو فيلم، (في ما) كتب هو نوعاً من الثقافة الاستراتيجية المعمقة. لذلك ستعرف أهميته الحقيقية الأجيال المقبلة. وعن سبب عدم معرفة العديد من الكتّاب بفكره في لبنان، واقتصارهم على معرفة اسمه واختصاصه، أجاب صباح ياسين: «نحن العرب في الفترة الأخيرة نسينا اسماء آبائنا. نحن أمة كانت تقرأ وتكتب، صارت تكتب ولا تقرأ وفي المستقبل القريب، قد لا نقرأ ولا نكتب». وأضاف: «قدم المسيري نمطاً من الدراسات الاستراتيجية التاريخية ذات منهج بحثي يعتمد النبش في الذاكرة، والفهم الحديث والموضوعي لمعطيات التاريخ. فالتاريخ العربي، يتعرض بين الحين والآخر لتسونامي يجرفه. وكل غازٍ يأتي يجرف مكتباتنا ويقتل علماءنا ويكتب تاريخنا على طريقته. هذا الرجل أعاد بناء تاريخنا وحقائقنا. وهو معروف في الغرب أكثر مما هو معروف في العالم العربي، فمراكز الدراسات والبحوث التاريخية هناك، تعرف من هو عبد الوهاب المسيري. أما نحن فنجهل رموزنا التي على هذا المستوى، ونصب اهتمامنا على ما هو أقل منهم بكثير.

* صقر أبو فخر: نسف أوهامنا حول اليهود وأنفسنا

* الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، سكرتير تحرير «مجلة الدراسات الفلسطينية»، يعرف المسيري شخصياً وكتب عنه مقالات عديدة. ويرى ان المسيري لم يكن دارساً عادياً للقضية اليهودية، بل كان شغوفاً بها. تخصص في البداية بالأدب الانجليزي بجامعة الإسكندرية، وتابع دراساته العليا في أميركا. كان ماركسياً أيامها ولم يكن مهتماً بالصهيونية واليهود، لكنه التقى هناك ببعض الفلسطينيين، وبدأ يغير اهتمامه. قيمته الكبيرة تنبع من أنه استطاع، ان يقدم أفكاراً جديدة عن يهود العالم. بالنسبة لنا كان اليهود جميعهم يتشابهون، ولا نميز بين الأرجنتيني منهم والروسي، المسيري عرّفنا بالفروقات والميزات. كتب عن اللوبي الصهيوني لنفهم من خلاله أيضاً كيف انه لا يقود أميركا كما نتوهم، لكن اميركا هي التي تقوده. بالإمكان القول ان المسيري استطاع ان يقوم بعمل شديد الأهمية، فقد قدم تفسيراً علمياً لسبب استمرار الظاهرة اليهودية، وما هي الاتجاهات الفكرية المتنوعة لليهود، في الوقت الذي نتصور فيه نحن كعرب، انهم يفكرون جميعهم بطريقة واحدة. وبالإمكان اليوم ان نقول بأنه ترك لنا، مرجعاً مهماً، موسوعياً وعصرياً عن الصهيونية. وهو لم يهتم فقط بتفكيك وتشريح الحالة اليهودية والصهيونية وإنما تمكن ايضاً من تفكيك جوانب من الوعي العربي في ما يخص المسألة اليهودية، والخرافات التي تأسر عقولنا حول هذه القضية. قدم أطروحات مهمة يعرفنا من خلالها من هم هؤلاء الأعداء فعلياً، لا حسب تصوراتنا وتمنياتنا. فقد كتب مفسراً ومحللاً وموثقاً، نشوء المسألة اليهودية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكيف استطاع اليهود ان يصمدوا في مجتمعات تكرههم كل هذا الكره. فسر لنا ايضاً ان الغيتو الذي عاشوه في أوروبا لم يكن خيارهم وإنما خيار اوروبي فُرض عليهم. فهمنا عبره ايضاً أن اليهود ليسوا مجموعات تكره الامتزاج بغيرها، بل على العكس، هم يمتزجون ويتزاوجون ويذوبون، بدليل انهم يتناقصون، وكان يفترض ان يكون عددهم اليوم لو عاشوا منعزلين بين 300 مليون و400 مليون شخص. لقد نقض المسيري افكاراً وهمية عديدة شكلها فكرنا الأسطوري حول اليهود. نحن مثلاً لا نعرف من هو اليهودي؟ هل هو الذي يولد من أم يهودية؟ كما نقول عادة. المسيري يخبرنا انهم حوّلوا الدين إلى قومية وأن اليهودي قد يكون كذلك بالقومية لا بالدين، كما نعتقد.

يضيف أبو فخر: «لقد ضحى المسيري بموهبته الأدبية في سبيل اهتمامه الكبير بالصهيونية، ولولا ذلك لرأينا له كتابات أدبية مهمة. فقد ترجم نصوصاً من الأدب الرومانسي، وكتب قصصاً للأطفال. قاوم السرطان ـ كما كان يقول لي بمتعة مقاومته للصهيونية وبقي نشيطاً ومحاضراً حتى الرمق الأخير، ورئيساً لحركة «كفاية»، وتم اعتقاله منذ شهرين تقريباً. كانت ميوله إسلامية عصرية، اما العلمانية فقد كان من نقادها، وله فيها كتابان: «العلمانية الجزئية» و«العلمانية الشاملة».