استقالة مستحيلة من الوطن

الفساد والديمقراطية والجماهير الغائبة في كتاب لفخري كريم

TT

هل يمكن للإنسان أن يستقيل من وطنه؟ يهدد الكاتب والصحافي فخري كريم، مؤلف كتاب «لكي لا أستقيل من هذا الوطن»، بأن يُقدم على هذه الاستقالة المستحيلة، كما يهدد أغلبنا، في لحظات الجزع واليأس، أن يفعل ذلك، مدفوعاً بعاطفة حب كبيرة تربو على هذا الوطن أن يكون دون ما ينبغي أن يكون عليه.

يكتب كريم عن خيبة الأمل الكبيرة في «العراق الجديد»: «بات المواطن الحر ينتظر من ممثليه الارتقاء إلى مستوى تطلعاته وطموحاته في تصفية إرث الديكتاتورية، وبؤرها ومخلفاته، وإنهاء ما أنتجته عهودها. لكن ذلك لم يتحقق، بل طال الفساد والتفسخ أغلب الوزارات والمؤسسات عملا ونهباً وسلباً بالممتلكات العامة عبر الرشاوى والعمولات والبيع الحرام وظواهر انحطاط لم يتعرف المواطن على منابتها الحرام ولم تسجل بعد في قواميس التفسخ السياسي والاجتماعي!».

كتب فخري كريم، الذي هو أيضاً رئيس المجلس الوطني للسلم والتضامن، ذلك في رسالة وجهها إلى مجلس النواب العراقي، الذي كان قد انتخب لتوه في انتخابات 30 يناير (كانون الثاني) التاريخية 2005. وتضمنت الرسالة آنذاك مطالبات لم يتحقق منها شيء، رغم مرور ثلاث سنوات:

1ـ أنتم مطالبون باتخاذ قرار بالإجماع يلغي جميع القرارات المتعلقة بالتصرف بالمال العام وتحديد امتيازات أي مسؤول في أي موقع كان.

2ـ أنتم مطالبون بإدراج فقرة خاصة في قسم أعضاء الرئاسة والوزراء يتعهدون فيها بحماية ممتلكات الدولة والمال العام، وملاحقة المفسدين!.

3ـ إنكم مطالبون باتخاذ قرارات وتدابير تحدد صلاحيات الصرف وأوجهها، والتصرف بالموازنات الخاصة بالوزراء وقادة البلد. لقد تحولت بقايا الدولة العتيدة التي شرعت في التكون على يد بريمر ومعاونيه، إلى مستودع مفتوح لكل مظاهر الفساد والتعدي وقهر المواطنين، كما يقول الكاتب، وتسلل «الحواسميون» وأزلامهم وحملة أختامهم إلى جسد الدولة الوليدة التي لم «تفطم» بعد، حسب تعبيره، والتي لم تتعلم وهي في خطواتها الأولى التمييز بين الحلال والحرام. ومن يومها «اتخذ الفساد له لبوساً جديداً، وصار له حراس ودهاقنة». يضم الكتاب مقالات مختلفة، كتبت في أزمنة مختلفة، وبذلك قد تبدو مجردة من الحدث. غير أن مجازفة جمع هذه المقالات في كتاب، تنفع، كما يقول الشاعر اللبناني عباس بيضون الذي كتب المقدمة، «في النفاذ من التشويش الحاصل بين الزمن والذاكرة. تنفع في اختراع نوع من التذكر الموجه، في إيجاد أرضية أولى للذاكرة».

لكن القضايا الكبرى لا تحتاج إلى ذريعة للتذكر. إنها تنتمي للحاضر والمستقبل، ولا تزال مطروحة على جدول الأعمال الوطني، ومنها، بالإضافة إلى الفساد، المحاحصة، والمصالحة والعملــية الـــديـــمقراطية، والديمــقراطية والفـــيدرالية، والجماهيـــر والـــديمقراطية، وغيرها. وهنا يحاول المؤلف أن يجيب عن السؤال الذي يطرحه كثير من المهتمين بالشأن العراقي: أين غابت الجماهير في بلد اشتهر بتحركاته الاحتجاجية حتى في ظل أقسى الأنظمة، بالرغم من معاناة الناس اليومية كانقطاع الكهرباء، وشحة المياه، والبطالة. لقد تراجع النشاط الجماهيري، وعادت الأغلبية الصامتة، بعد التظاهرات والتجمعات التي أعقبت سقوط النظام العراقي السابق، إلى صمتها. والمسؤول الأول عن ذلك الأحزاب التي انحصر همها في صيغة مشاركتها في الحكم، وتقاسم الحصص، وتحديد النسب. ومع ذلك، هناك أمل كبير مزروع في ثنايا الكتاب. وهو أمل في مستقبل لا يمكن الوصول إليه إلا بتفكيك ليس الحاضر فقط، لكن الماضي أيضاً، بشجاعة من لا يريد أن يستقيل من الوطن، ولا أن يستقيل الوطن منه.