صور خفية عن تجربة جيل

المغربي أحمد المديني في روايته الجديدة «رجال ظهر المهراز»

TT

يفتتح سارد رواية «رجال ظهر المهراز» التي صدرت حديثا للكاتب المغربي أحمد المديني حكايته بهذه العبارات: «لم يكن يعرف الطريق، ولا فكّر في هذا من قبل، فقد بدا له ذلك استباقا لا معنى له، فهو يحب أن يكتشف كلّ شيء في أوانه، وأن يستمتع بهذا الاكتشاف ويدخره للمستقبل ربما، مثلك (ص 9)». لم يتنازل السارد (أحمد البيضاوي) على امتداد الرواية عن هذه الحكمة التي يسرت له تقديم الأحداث بالتّوقع والاحتمال حينا، وباليقين القادر على اكتشاف صور خفية لواقع معلوم ومشدود، زمنيا، إلى مغرب أواسط الستينات ومطالع السبعينات من القرن الماضي، ومكانيا إلى قلعة حصينة اسمها كلية آداب ظهر المهراز، على مشارف مدينة فاس العتيقة. وبما أن سارد الرواية «يحبّ أن يكتشف كلّ شيء في أوانه»، فإنه يؤطر سرده بلغة الاستبطان والحوار والاعتراف ساعيا الى إعادة تشخيص مسار من حياته، من أجل فهم ما عاشه في عالم قائم، وما يمكن أن يعيشه في عالم محلوم به، ويمكن كتابته. وهذا ما يجعل من عالم الحكاية في الرواية حصيلة تجربة جيل بأكمله، هو جيل ظهر المهراز. لذلك، لم يكن أحمد البيضاوي محتاجا إلى استثمار أية حيلة سردية أو مناورة حدثية لكتابة تلك التجربة... خطواته تقوده، منذ مفتتح الرواية وعلى طريق التوت، إلى عالم لا يكون فيه مجرّد شخصية من شخصيات الرواية، بل إنسان هو على يقين مسبق أنه يحتاج إلى شعور غامر برباطة جأش وقوة عزيمة ضروريين لتخطّي كل إحساس بالخوف والقلق من هذا العالم الجديد الذي يلجه. سيلتقي السارد صديقه التطواني على طريق التوت المؤدية إلى ظهر المهراز، وسيلتقي معه أيضا فيما فكّر فيه في الأشهر الأولى من الإقامة في الظهر من أن الدولة جمعتهم هنا ربما لأن لديها خطة لتقوية الأواصر بين بشر يأتون من جهات متعددة، وغدا سيصبحون مواطنين نموذجين يتعلقون بالوطن لا بإقليمهم. سرعان ما تبخر هذا الأمل عندما استقبلهم البوليس بوليمة هراوات على الرؤوس والعظام... لقد جمعتهم الدولة في الظهر لتفصلهم عن البشر العاديين، الطبيعيين. وهذه الدولة تستطيع أن تفعل ما تشاء بمن تشاء.وسيعترف أحمد البيضاوي، في ما بعد، لصديقته زينب أنه يريد كتابة رواية عن ظهر المهراز، محيطة بكل ما هو أساس ، معبرة عن روح تلك المرحلة، بمزاياها وخباياها ومثالبها، وبما عاشوه فيها بسذاجة وتلقائية وزيف أحيانا (ص 149 ـ 150)، كأنه يتساءل: هل يمكن استرداد الماضي؟ وكيف يمكن استرداده روائيا وهو لم يزل طريا؟ بالحنين والاشتياق إليه؟ نعم. ولذلك، حين يفصح السارد عن هويته في الفصل السادس من الرواية بوصفه كاتبا، فإنه يلحقها بتصوّر للكتابة. يقول:«... نحن أحببنا أم كرهنا لا نكف عن ملاحقة الزمن، وبالنسبة للكاتب الكتابة هي فعل التذكر الذي يحاول به طيّ الصفحة، ليس للانتقال من صفحة أخرى بالضرورة، وإنما لمزيد من الابتعاد، سمّه الاغتراب بمصطلح المتفلسفة (ص 139)». بهذا المعنى، يتكثف التذكر في الرواية حول رجال يتتبع السارد قدر كلّ واحد منهم كما لو أنه يتفحّص ألبوم صور. يروي أحمد البيضاوي حكايته برغبة، لذلك كان محتاجا إلى قسط من التحفظ والحذر، لأنه اختار أن يحكي عن تجربة ثقافية وسياسية بصمت تاريخ المغرب المعاصر، من أبرز علاماتها: أحداث مارس 1965 بالدار البيضاء وما رافقها من تدخل للجيش بقمع الحركة التلاميذية، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، والاحتجاجات الطلابية أواسط الستينات، حدث استشهاد المهدي بن بركة، هزيمة العرب في حرب 67... يعود السارد إلى حوالي ثلاثين سنة من تاريخ المغرب المعاصر كي يعيد كتابته، يروي وقد شعر أنه ربح نفسه، بعدما صنعها يوما إثر يوم. وهذه اعتبارات تفيد أن ثمّة «فضاء أوتوبيوغرافيا» في «رجال ظهر المهراز» تشخصه صور ومشاهد عديدة من الرواية، بيد أن كلّ «قراءة إحالية» له لن تأخذ قيمتها وأهميتها إلا من أسئلة الكتابة ذاتها، حيث تتعلّق تخيّلية الرواية مع واقعيتها الاجتماعية والتاريخية. التخييليّ هنا ندّ للحقيقي، ولذلك، يسعى السارد إلى ترميز بعض شخصياته بمنحها أسماء مستعارة أو حركية (التطواني والزياني، والشاوني والهبطي، وسليمان والجعفري والطرماح، وخيرون، والمكناسية، ووردية)، ويحتفظ لشخوص أخرى بأسمائها الحقيقية ومنها:(أستاذ البلاغة سيدي عابد الفاسي، الشاعر عنيبة الحمري والقاص الأمين الخمليشي والعلامة علال الفاسي والشاعر محمد السرغيني وإبراهيم السولامي...)، هي شخصيات تطفو وتغور في أحداث الرواية، بعضها يخصص له السارد فصلا كاملا هو أحيانا سرد تفصيلي ممزوج بلغة الحلم (الفصل العاشر سلهام البلاغة المخصص لسيدي عابد الفاسي مثلا)، وأحيانا أخرى استعادة جوانية من ثنايا الذاكرة ذات رقة ويناعة في التقاط هباءات الوقت، ومما هو عابر وتافه وجسيم (الفصل الرابع «الرؤيا» مثلا). هذا ملمح من ملامح «ظهر المهراز»: فضاء ثقافي وسياسي من مغرب أواسط الستينات حافل بأنواع الصراع، بين الحي والكلية، بين أفراد ومجموعات، بين أحزاب وتنظيمات، بين الإدارة والطلبة، وحتى بين الأساتذة الذين يتنابزون في ما بينهم سرا بالألقاب. كلهم ينشد البطولة والزعامة في محيط مليء بطلاب رقيقي الحال، أو خائبين، أو حالمين، وحتى من المتهيجين (ص 276).

هذه، إذن، حكمة رواية شيّدت نظام خطابها على تجاور الشغف بانجلاء الوهم. لذلك، تُقبل شخصياتها على الحياة رغم مظاهر الاستبداد والعسف السياسي البادية آثارهما في الواقع والنفس، تروي تجاربها ومخاطراتها وأهواءها بشجاعة هي بديل عن مرارة الأمس. من ثمة، فإنها شخصيات قادرة على إعادة ترميم المنهار من القيم والقابل للتلف منها، بواسطة إعلان للمشاعر الذاتية بما هي سبيل لاسترجاع الواقع والتاريخ روائيا، من هنا هذه الرؤى المتقاطعة في الحكايات المشكلة لمتن الرواية، بحثا عن وحدة مفتقدة في تجارب الشخصيات ذاتها وتفتّت أقدارها أو تبعثر مصائرها، تبعا لما يطبع الفضاء العامّ الذي تتحرّك فيه، والهواجس الخاصة التي تسبح فيها.

«أريد أن لا تنهار أحلامي (ص 384)»، ليس هذا إعلانا ـ من قبل السارد ـ عن رؤية رومانسية وحنينية، ولا تغنّياً بمَجْد أضحى قُدْوة معتبرة... كأني بأحمد المديني يلفت انتباهنا إلى حقيقة تضمرها حكاية هؤلاء الرجال وهي أن التاريخ يمكن أن يتقدمنا كذلك.

* باحث وناقد من المغرب