هل ستنجح الدولارات في إسقاط الأقنعة عن الوجوه العربية؟

..وأخيراً حانت «لحظة الحقيقة»

لقطة من برنامج «لحظة الحقيقة» بنسخته الأصلية («الشرق الاوسط»)
TT

كما يستغل منتجو أفلام «الآكشن» رغبة الإنسان الدفينة في استخدام القوة وإحراز النصر الساحق على الآخرين ليحققوا مبيعات عالية، يستغل البرنامج التلفزيوني الأميركي (لحظة الحقيقة-The Moment Of Truth) رغبة الإنسان في «البصبصة» على خصوصيات الآخرين، ليبني شهرته. فهذا البرنامج الذي يحقق هذه الأيام أعلى نسبة مشاهدة في الولايات المتحدة الأميركية، يكشف ان أسرار المشاهير باتت أقل جاذبية على ما يبدو من أسرار ربة بيت لم ينقض عامان على زواجها تعترف أمام الكاميرا بخيانتها لزوجها، أو نادل مطعم يكشف عن غشه في تحرير فواتير الطعام التي يقدمها للزبائن.

الاعتراف يتم عادة أمام قس فى كنيسة بغرض الغفران أو أمام معالج نفساني أو صديق، أما الآن فقد بات الاعتراف أمام المشاهدين بغرض كسب المال، حيث يربح الفائز نصف مليون دولار فى حالة إجابته عن أسئلة خاصة وحساسة، يحدد جهاز دقيق لكشف الكذب مدى صدقيتها، وان كان المشارك سيربح أو يخسر المبلغ المرقوم.

المتقدمون للبرنامج يحضرون مع أقرب أفراد الأسرة الذين تخصص لهم مقاعد خاصة، تعرّيهم الأسئلة الحرجة لتنفضح النفس الإنسانية بكل تناقضاتها وإشكالاتها ونفاقها، ورغم تصاعد عبارات الدهشة والاستنكار من المشاهدين على الأسئلة الحرجة والإجابات الصريحة، إلا أن كل واحد منهم يرى نفسه في الوضع الحرج الذي يعيشه غيره. البرنامج يساعد على معرفة ثقافة الشعوب حقيقة. فرغم ما يشاع عن الإباحية في الدول الغربية إلا أن سؤال الجنس ما زال مربكا للمشاركين من الجنسين، والخيانة توقع صدمة للطرف المخدوع وتتسبب في الطلاق، واليهود لا يبوحون بتفاصيل عقيدتهم الدينية لاعتبارات تاريخية واجتماعية!

يشارك علماء نفس واجتماع فى وضع الأسئلة الحرجة والحساسة، يشاركهم المذيع الذي لا يخلو من دهاء بأسئلته التي تختلف بحسب شخصية المشارك فتطال: علاقات جنسية، علاقات أسرية مفككة، حسد الاخوان والأخوات أو الأصدقاء، ذكريات الطفولة المعذبة.

البرنامج الذى يقدم على قناة MBC4 بدأت المحطة في الإعلان عن خطة لاستنساخه عربياً، وتطلب ممن يود المشاركة أن يتصل على رقم معين لتسجيل اسمه. قد لا يجد معدو البرنامج صعوبة فى إعداد أسئلة حرجة للمشتركين العرب، فكلنا يعرف ثالوث المحرمات العربية وهي: الدين، السياسة والجنس، باعتبارها الجوانب التى يعيشها المواطن العربي بازدواجية حادة قد توقعه في الكذب فيخسر الملايين، وإذا ما أجاب صادقا فسيخسر الكثير بل قد يخسر حياته، لماذا؟

نبدأ بالسياسة. من يجرؤ، مثلاً، على الإجابة بصدق عن سؤال حول انتمائه السياسي ويعرض نفسه لفقدان لسانه أو حياته بمجرد خروجه من الاستوديو، وقد يطال الأذى أحد أقاربه انتقاما، كل ذلك مقابل بضعة آلاف من الدولارات! فالمعارضة السياسية فى معظم البلاد العربية ما زال جلّها يختبئ فى بلدان أخرى ويحارب عبر الإنترنت أو الشاشات التلفزيونية، أو هم بالسجون، بل قد يتجنب البرنامج الأسئلة السياسية خوفا على استمراريته هو نفسه!

أسئلة الجنس، أحفاد سي السيد أحياء يرزقون، ومن الطبيعي أن يخبئ الزوج خيانته عن زوجته والشاب العازب علاقته الجنسية عن أسرته، وقد يحدث ويأتي متقدم عربي للبرنامج ويجيب بصراحة وجرأة عن علاقات سابقة أو عن خيالات وشهوات جامحة لا يحدها حد. فهذه أمور لا تعيب الرجل الشرقي كثيراً، بل قد تثبت فحولته، ولكن ماذا عن الفتيات لو سئلن عن علاقاتهن العاطفية؟ هل هناك امرأة عربية تجرؤ على البوح لزوج المستقبل عن علاقة سابقة حتى ولو كان حبا عذريا ناهيك عن اعتراف أمام الكاميرات؟!

جرائم الشرف ما زالت ترتكب في بعض البلاد العربية، ويحمل مرتكبها وسام الشرف والعزة والشجاعة على قتل شقيقته التي تحمل العار. ورأينا بالأمس كيف قام ساحر الكرة زيدان بنطح لاعب فرنسي في أكبر مباراة يشاهدها الملايين، بسبب أن همس له لاعب ليستفزه، بما يخدش سمعة أخته. وزيدان يعيش في فرنسا منذ طفولته ويكاد لا يعرف العربية لكن الكرامة الشرقية تفور بدمه.

مثقفو الأمة الذين من المفترض أن يحملوا لواء التغيير تلاحقهم العقوبات بكافة أشكالها، وما زالت الأعمال الأدبية الجريئة تصادر وتمنع، والأفلام تحرق رغم أن ما فيها خيال في خيال وتمثيل في تمثيل! وما زال الأدباء يكتبون بأسماء مستعارة كي لا يتعرضوا لأذية لفظية أو جسدية، ونوال السعداوي تعيش في منفاها بشمال أوروبا بسبب دفاعها عن حرية الآخرين حتى قيدت حريتها. أما الدين، المحرم الثالث، فمن يجرؤ على الرد عن سؤال حول اعتقاده الديني، وتهم التكفير توزع بالمجان عند أدنى اختلاف مع الآخر أو فكرة جديدة أو تأويل. نجيب محفوظ رحمه الله نال ضربة أوشكت أن تزهق حياته بسبب رواية نشرت له قبل 30 عاما، وما زالت تهم التكفير تلاحق حتى الآن مفكرين كبارا رحلوا، من الإمام الغزالي وابن رشد والحلاج إلى ابن عربي وتصادر كتبهم في عدة بلدان. نصر حامد أبوزيد منفي في هولندا بسبب كتاب، فرج فودة سبقه بالرحيل الى الحياة الأخرى قتلا.. كثيرة هي العوائق أمام البرنامج بنسخته العربية. فالبرنامج الأميركي الحالي قدم أسئلة من نوع: هل قمت بممارسة مهنة هامشية لزيادة دخلك؟! هل تخجل من مهنة والدك؟ أسئلة مثل هذه مبعث للحرج في المنطقة العربية. مقدمة برنامج «على المكشوف» تقول انها وجدت صعوبة بالغة في إجراء مقابلة مع شباب جامعيين يعملون في مطاعم بيروت لزيادة دخلهم، فكانوا يختبئون خلف الكاميرات خجلا أو يعتذرون بشدة. وشعب لبنان يعد الأكثر ثقافة وانفتاحا. شاب سعودي فضل أن يعاقب بالجلد بدلا من العمل في غسيل سيارات لمدة أسبوع بسبب مخالفة ارتكبها! مهنة الآباء، حين تكون متواضعة، ما زالت تمثل مصدر حياء أمام الكثير ممن برزوا في الحياة العامة.

حتى الراقصة لو تحدثت بصدق أنها تحب مهنتها وتفخر بها ستقابلها الأقلام والألسن بالشتائم، لتغيّر تصريحها في اللقاء التالي بـ «ربنا يتوب عليّ». قد يسأل البرنامج عن علاقة المشترك بأمه وأبيه في الصغر، والمجتمعات العربية تتعامل مع الأم معاملة التقديس والتبجيل وأنها الكائن الذي لا يخطئ أبدا، وعاق هو من يوجه لها اللوم أو التأنيب ولو كانت أماً شرسة أو مهملة أو أنانية. فهل سيجيب المشترك بصدق لتطلق عليه صفة الابن العاق ناكر الجميل؟

سكان المنطقة العربية فى حفل تنكري، لإرضاء المجتمع وإرضاء التاريخ وإرضاء الموتى والحكومات والآباء.

لذلك سيجذب البرنامج بنسخته العربية، بلا شك، ملايين المشاهدين ليكتشفوا من هو الشجاع الذي سينزع أوراق الملفوف عنه. وإذا ما نجح أحدهم في الوصول الى قمة الجائزة المالية واخترق كل تلك الأسئلة بصدق، فاعلم أن الأزمة الاقتصادية قد بلغت مدى بعيداً، أبعد مما تنقله الصحف والإحصاءات.