«اللامنطق» ينتصر على العلمانية في أميركا

صحافية سابقة في «واشنطن بوست» ومديرة مركز «انكواياري» تنعى المجتمع الأميركي

TT

صدر أخيراً في العاصمة الأميركية، كتاب «عصر اللامنطق الأميركي»، وعن التحديات التي تواجه الفكر العلماني، وكاتبته هي سوزان جاكوبي، الصحافية السابقة في «واشنطن بوست»، التي تعمل الآن كمديرة لمركز «انكواياري».

لكنها، وهي الملحدة، تقف في يسار العلمانية. ولا يمكن اعتبارها ممثلة للفكر العلماني الأميركي، الذي وضع أسسه توماس جفرسون، أبو العلمانية، وأبو الليبرالية، وكاتب إعلان الاستقلال، والرئيس الثالث.

كانت والدتها مسيحية، وكان والدها يهوديا، وعن ذلك كتبت كتاب «نصف يهودية». كانت صحافية في «واشنطن بوست»، والآن تعمل مديرة لمركز «انكواياري» (تحقيق) في نيويورك.

قبل أربع سنوات، كتبت كتاب: «مفكرون أحرار: تاريخ العلمانية الأميركية». وهو كتاب كبير من خمسمائة صفحة تقريبا. وفيه، افتخرت، ليس فقط بماضي العلمانية، لكن، أيضا، بمستقبلها. وقالت إن الدنيا كلها ستكون علمانية، مع زيادة التعليم، والعلم، والمنطق.

لكن، يوجد في الكتاب الجديد تشاؤم واضح. وخوف على العلمانية من «اللامنطق». وأشارت الى نوعين من «اللامنطق»:

الأول: زيادة «الصحوة الروحية» وسط المسيحيين في أميركا. (وأيضا، وسط المسلمين في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ووسط الهندوس في الهند، وفي أفريقيا).

الثاني: زيادة «الثقافة الشعبية» بعد ان ابتعد الأميركيون عن الفكر والتفكير، وبالتالي، ابتعدوا عن المنطق، وبالتالي قلّت علمانيتهم، وقالت إن نتائج ذلك «قاتلة ومدمرة».

ماذا حدث؟.. تقول سوزان جاكوبي: أولا: زاد «فكر الغوغاء».. وتقصد الاعتماد على التلفزيون والانترنت. وقلت قراءة الكتب الجادة، وحتى توزيع الصحف اليومية.

ثانيا: زاد «فكر المهووسين».. وتقصد الأصولية، في كل الأديان.

ثالثا: زاد «فكر السياسيين».. وتقصد أساليبهم، ومناوراتهم، ومراوغاتهم.، خاصة الذين خلطوا الدين بالسياسة، مثل الرئيس بوش الذي قال إن الله أمره أن يغزو أفغانستان والعراق.

لكن، كما قالت سوزان جاكوبي، لو كان بوش مسيحيا حقيقيا، لما غزا أفغانستان والعراق. ولأن بوش سياسي، يضع مصلحته فوق مصلحة دينه (مثل غيره من السياسيين المسيحيين، والمسلمين، واليهود، والهندوس، الخ..).

في الجانب الآخر، يريد رجال دين متطرفون «دولة مسيحية» (أو «دولة إسلامية» أو «دولة يهودية» أو «دولة هندوسية»)، لهذا، ليس الحل عند السياسيين، ولا عند رجال الدين المتطرفين. لكن عند معتدلين يؤمنون بالتعايش بين العلمانية والدين، حسب وجهة نظرهما.

لكن ما هي العلمانية؟.. يقول قاموس «وبستر» إن «سيكيولاريزم» (العلمانية)، هي «ما ليس دينيا». ويعود أصل الكلمة الى اللاتينية «هذه الحياة»، أي الحياة كما نراها بأعيننا، من دون تفسيرات دينية وروحية.

وهناك تفسيران للكلمة العربية: «علمانية»:

أولا: من كلمة «علم» (بكسر العين)، بمعنى ان كل شيء يفسر تفسيرا علميا.

ثانيا: من كلمة «علم» (برفع العين)، بمعنى العالم الذي يحيط بنا. وربما لا يوجد فرق كبير بين الاثنين. لكن، في كل الحالات، تبدو الكلمة سلبية، وليست ايجابية. إما تعادي الدين، أو تعارضه، أو تفصله. وهذه هي أولى مشاكل العلمانية (إنها رد فعل للدين، وليست ديناً). ثانية مشاكلها هي ان فصل الدين عن حياة الإنسان يُنسي ان للإنسان عواطف، منها العاطفة الروحانية. وثالثة مشاكلها ان فصل الدين عن الدولة يُنسي ان الدولة ليست فقط الحكومة، لكن الوطن، والشعب.

وهكذا، ظهر الاختلاف بين العلمانية الأوروبية (التي تفصل الدين عن الدولة)، والعلمانية الأميركية (التي تفصل الدين عن الحكومة). يعتبر توماس اكويناس (فيلسوف بريطاني توفي سنة 1274) أبو العلمانية، وذلك لأنه أول من فصل الإيمان عن المنطق.

ثم قال ديكارت (فيلسوف فرنسي توفي سنة 1650)، إن الدين ليس كل المعرفة. ولا يبرهن عن أي شيء محسوس.

وكتب جون لوك (فيلسوف بريطاني توفي سنة 1704)، ان الخلافات الدينية دمرت بريطانيا. ودعا إلى فصل الدين العام عن الدين الخاص، والى اعتماد الإنسان على نفسه. ووضع أساس نظرية «الفردية».

ثم قال فولتير (فيلسوف فرنسي توفي سنة 1778)، إن المسيحيين والمسلمين واليهود لا يتعاركون في سوق الأسهم. وقصد بذلك أن الدين شيء، والحياة شيء آخر. ثم نشر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو «العقد الاجتماعي»، وفصله عن الدين.

ثم قال هيغل (فيلسوف ألماني توفي سنة 1831)، إن الدولة أهم من الكنيسة، تنظيما، وأخلاقا، وان الله في الضمير، وسماه «الروح العليا». ثم قال كارل ماركس (أبو الشيوعية، توفي سنة 1883)، إن علاج الإنسان ليس في الكنيسة، لكن في الدولة. ويجب ان تواجه الدولة الواقع، والواقع هو الصراع بين الطبقات. ويجب ان تسيطر الطبقة العاملة على الدولة.

فرقت سوزان جاكوبي، في كتاب «تاريخ العلمانية الأميركية»، بين العلمانية الأوروبية التي تميل نحو اليسارية، والإلحاد (مثل حالتها)، والعلمانية الأميركية التي تميل في الدستور الفيدرالي الأميركي نحو الوسط، والاعتراف بالله تعالى.

في الدستور الحالي، هناك عبارة «نحمد ملك السموات والارض». لكن خلال المناقشات الأولى حول كتابة الدستور ظهر تياران: الأول: سياسيون علمانيون طلبوا عدم الإشارة إلى الله، أو الدين.

ثانيا: رجال دين متطرفون طلبوا إعلان الولايات المتحدة «دولة مسيحية». اقترح البعض وضع كلمة (الله). واقترح آخرون وضع كلمة «بروفيدنس» (العناية الإلهية). واقترح غيرهم وضع عبارة «مع الله والمسيح». وقالوا إن الإشارة الى المسيح «سوف تمنع أي يهودي من ان يكون رئيسا للولايات المتحدة». (في ذلك الوقت، كان العداء لليهود قويا، وعلنا).

لكن، في النهاية، فاز رأي توماس جفرسون، بعد أن قال: «نريد دستورا يحمي اليهود والمسيحيين، والمحمديين (المسلمين)، والهندوس، والكفار، والتابعين لكل الملل». وظهر هذا واضحا في العبارة الدستورية التي تقول: «لن يصدر الكونغرس قانونا يؤسس دينا، او يمنع حرية التعبير». وصارت العبارة أساس العلمانية الأميركية، اي فصل الدين عن الحكومة، لأن الكونغرس هو الجهاز التنفيذي للحكومة. (وليس فصل الدين عن الدولة).

تذكر سوزان جاكوبي: «آمن جفرسون بالله. لكنه لم يؤمن بتثليث الله والمسيح والروح القدس». ولهذا، وافق على ان تخضع الدولة الأميركية لله. لكنه منع رجال الدين المتطرفين من تحويل الحكومة الأميركية الى مسيحية. قبل اشتراك جفرسون في كتابة الدستور الأميركي، كتب، بمفرده، إعلان الاستقلال الأميركي، وأعلن فيه: «تتفق قوانين الطبيعة، وقوانين اله الطبيعة، على منح الإنسان الاحترام الذي يليق به..». وكتب فيه أيضا: «بهذا، نعلن ان هذه الحقائق تبرهن على نفسها، بأن كل الناس خلقوا متساويين. وبأن خالقهم اقر لهم حقوقا لا يمكن التخلي عنها..». بالإضافة الى ذلك، هناك إشارات إلى «الله» في أماكن أخرى: أولا،: في قسم الولاء: «امة واحدة، تحت الله».

ثانيا: على العملة الأميركية: «نثق في الله».

ثالثا: في السلام الجمهوري: «لتحمد أرضنا الله».

رابعا: في النشيد الوطني: «ليحفظ الله أميركا».

خامسا: يبدأ الكونغرس كل جلسة بصلاة.

سادسا: يختم خطاب تنصيب رئيس الجمهورية بعبارة: «ليحفظ الله أميركا».