قسوة كندا في مذكرات شاعرة بريطانية مغتربة

سوزانا مودي كانت من أوائل المهاجرين في القرن التاسع عشر

TT

شظف العيش، خيبة الحلم، قسوة المناخ، فظاظة المهاجرين، والأمل في العثور على الحلم الموعود، كلها تفاصيل تصدم القارئ وهو يتابع سيرة حياة الشاعرة البريطانية الأصل سوزانا مودي (1803-1885) التي تعتبر من أهم أوائل المهاجرين إلى كندا في القرن التاسع عشر، الذين وضعهم حظهم العسير في مواجهة الموت والفقر والأمراض السارية كالملاريا والكوليرا أثناء رحلة استقرارهم في منطقة كيبيك وأونتاريو التي كان يطلق عليها حينذاك «كندا العليا».

الشاعرة ابنة العائلة الميسورة، فقدت والدها الذي خسر ممتلكاته، وصدّقت كغيرها من المهاجرين الإنجليز الفقراء، بأن كندا ستكون أرض الحلم، ومقبرة للفقر الذي كانوا يرزحون تحته. ولكن لم تكن كندا في تلك الحقبة سمكة ذهبية وكنزا مفقوداً ينتظر العثور عليه. بل كانت مثل جزرة معلقة في عصا، كما تصفها مودي في كتاب مذكراتها الذي يعتبر وثيقة عن طبيعة الحياة في هذه المنطقة. وقد أعيدت طباعة الكتاب أكثر من مرة وكانت عائداته المادية المتواضعة سنداً للكاتبة وزوجها وأولادها.

غادرت مودي وأسرتها الصغيرة زوجها «جون دنبر مودي» وطفلتها الصغيرة «كاتي» مغالبة دموعها وهي تودع أمها وشقيقتها الكبرى. عدة أسابيع قضتها على ظهر السفينة «آنّ» وهي تمخر عباب الأطلنطي، تغالب دوار البحر، البرد القارس وشح الطعام. حين اقتربت السفينة من الجزيرة الموعودة، كانت الأخبار غير سارة، إذ علموا بانتشار مرض الكوليرا القاتل وكان على السفينة أن تتوقف ليتم الكشف عن أي إصابة بالكوليرا بين الركاب، وكان ذلك في شهر آب 1832. بعد تسعة أسابيع من المعاناة وصلوا إلى الجزيرة. ساعدها زوجها في النزول، وضعت قدميها على الصخرة الحارة وكادت تبكي من الألم، لقد اهترأ الحذاء والجوارب. وكانت صدمتها بالغة إذ رأت المهاجرين وأغلبهم من الايرلنديين، يتصرفون بهمجية، يصرخون، يغتسلون في مياه النهر، ويغسلون ثيابهم فوق الصخور. حين ترجلت، قالت لنفسها بدهشة: أين أنا، هل أنا في بابل؟. أخذها زوجها إلى الأحراش لترتاح، لحين تم تجهيز السفينة، وللإبحار أخيراً نحو مرفأ مدينة كيبيك.

حين الوصول استأجرت وزوجها غرفة في فندق، ولم تستطع معرفة شيء عن أخبار أختها الأخرى المهاجرة مع زوجها إلى نفس المنطقة عبر سفينة أخرى، وعلمت لاحقا أن أختها «كاترين» قد أصيبت بالكوليرا ونجت منها.

في الفندق، كانت تقضي نهارها في البكاء، ووجدت هناك من يواسيها من الغرباء مثلها، سمعت من يقول «لو كان لي خيار الآن لعدت تواً إلى انجلترا: ووجدت من يسخر من كونها كاتبة. قالت لها إحدى السيدات بفظاظة « لا نريد «مس ترولوب» في كندا، الكتابة ليست عملاً مهماً، وأنا أفضل أن أخيط قميصاً أو أنظف بيتي، على أن أكتب». لاحقا عرفت أن مس ترولوب، كانت كاتبة بريطانية تسخر من طبيعة المجتمع الأمريكي. ولكن مودي رغم كل التحديات التي مرت بها في حياتها الطويلة لم تتوقف عن كتابة القصائد والسيرة وترسلها للنشر، سواء في صحف بريطانية، أمريكية، وكندية فيما بعد. وكانت سعادتها كبيرة حين تتسلم مستحقاتها المادية لقاء ما تكتب.

كان على الأسرة أن تجد بيتاً ومزرعة للعيش، وكان في حلم مودي أن تلتقي «بالتجمع الأدبي» كي تواصل نشاطها وعلاقاتها كما كانت تفعل في بلدها الأم، ولكن هيهات. بالنقود القليلة التي تملكها الأسرة، اشترى زوجها قطعة أرض في الأحراش، وبيتا لتنتقل إليه الأسرة. ذهبت مودي لترى البيت فصعقت وقالت لزوجها: هل هذا بيت للسكن، أم حظيرة للخراف، أم مأوى للخنازير.! كان كل شيء بائساً وكان لا بد من توضيب المكان ثم المقارعة مع الطبيعة والعمل في الزراعة لتأمين المواد المعيشية الأولية.

تعلمت كيف تزرع، وتعتني بالأولاد، وتكتب كلما سنحت لها الظروف. احترق بيتها للمرة الأولى وأكلت النيران محتوياته البسيطة، واحترق بيتها للمرة الثانية، ونجا أطفالها من النار بأعجوبة. ثم لاحقا فقدت ابنها الصغير غرقاً في الجوار، وكانت تلك مأساة كبيرة للعائلة والمعارف والأصدقاء. وبقي الحبّ الذي يربطها وزوجها معيناً لها على تحدي الصعاب والأمل في مستقبل أفضل. لاحقا استطاع زوجها الحصول على عمل إداري في إحدى المدن المجاورة وكان عليه بموجبه أن يغادر ويتركها في مواجهة قدرها وقسوة الطبيعة. بدأت تعقد صداقات مع الجيران وتحظى بالمساندة من قبلهم. وقادتها الظروف القاسية إلى أن تضع ابنتها وابنها في رعاية عائلة صديقة ميسورة الحال لفترة من الزمن.

كانت كتابتها المفضلة هي تقديم صورة عن طبيعة الحياة والمحن التي عاشتها والتي شهدتها وسمعت بها. بالعكس من أختها الكبرى «اغنيس» المقيمة في لندن التي كانت تفضل التقرب من الأعيان والطبقة الأرستقراطية والكتابة عنهم، والتي كانت دوما توجه اللوم الى أختها سوزانا بسبب كتاباتها عن الفقر والمهاجرين وتجاربهم. حين صدر كتاب سيرتها، أهدت الكتاب إلى أختها، لكنها فوجئت برسالة شديدة القسوة من أختها، ترفض الإهداء وتهددها بالمقاطعة وعدم الكتابة إليها ثانية. ولم يظهر الإهداء في الطبعات التالية للكتاب الذي لاقى رواجا كبيراً في حينه.

كانت أسعد لحظاتها حين تكون قريبة من أختها كاترين التي كانت تعيش في منطقة مجاورة والتي كانت لها تجربة صعبة في كندا، وكانت موهوبة في الكتابة.

تحسنت أحوال مودي، وأصبح لها بيت جديد تسكن فيه مع زوجها جون، بعد أن كبر الأطفال وتزوجوا. لقد تحقق حلمها بأن تجتمع بجيرانها وعشاق القراءة وتقدم لهم الشاي بعد الظهيرة. امتلاك عدة تحضير الشاي على الطريقة الإنجليزية، كان حلما وتحقق أخيرا.

حين كانت مودي وأختها في المدينة تزور مخزنا للكتب، راحت تفكر في كتابها الجديد، الذي وضعت له مخططا بمساعدة زوجها. ستكتب عن: ارشادات لبناء مأوى، نوعية النباتات التي يمكن أن تستخدم كأدوية، كيف تصنع خبزا، شموعا، بسكويتا، وما شابه، وذلك بعد ان اختبرت الأرض وثراءها، وبعد ان تشققت يداها بين الجليد والشوك. وبعد أن اكتسبت معرفة من خلال زيارتها لجيرانها من الهنود الحمر الذين كانوا يقدمون لها ما يستطيعون من محاصيل أراضيهم، الشحيحة على الغالب. رغم أنها حين صنعت أول رغيف خبز كندي، كانت النتيجة محبطة، وقال لها الضيف «نأمل يا سيدة مودي أن تكون كتبك أفضل من هذا الخبز».

بقي تفكيرها معلقاً بأختها ووالدتها، وحين انقطعت أخبارهما عنها، كانت تسأل أختها كاترين عما يصلها من أخبار، ولكن الأخت أخفت عليها خبر وفاة والدتها، ولم تخبرها عن الهدايا الغبية التي أرسلتها الأخت الكبرى. لقد ارسلت إليها قفازات بيضاء طويلة، وربطات عنق للأولاد!.

كبر الأولاد وتزوجوا وانتقلوا للعيش في تورنتو وغيرها. كان زوجها يخدم حينها في منصب «شريف» في المدينة، وهذا المنصب حقق لهما بعض الراحة، وبعض الأعداء من جهة أخرى. وحين توفي الزوج، أخذ البيت الذي كانت تسكنه وأصبحت مشردة من جديد. فذهبت لتعيش مع أختها. كان حلم مودي منذ شبابها أن تزور شلالات نياغارا، وتحقق لها ذلك حين بلغت من العمر 84 سنة. زارت المنطقة وكتبت عن مشاهداتها ورحلتها كما كتب عنها تشارلز ديكنز الذي أقام في كندا وتورنتو لفترة من الزمن. لم يكن الحصول على الثروة الهم الأساسي في حياتها، بل كان لديها وزوجها معتقدات روحانية وأهداف نبيلة إنسانية. لقد كتب زوجها كتابا ضد العبودية وذلك من خلال رحلته إلى افريقيا في مقتبل شبابه وقبل أن يتزوج. وكان بذقنه الطويلة يشبهونه بالشاعر والت ويتمان.

توفيت سوزانا مودي في 5 نيسان 1885، ودفنت إلى جوار زوجها جون مودي. ابنتها كاتي نصبت على قبرها ملاكا كبيرا وفي يده نجمة. كاتي لا تتذكر انجلترا وطريق السفر لانها كانت طفلة بين ذراعي أمها في ذلك الحين، لكنها تتذكر بأنها كانت تقوم عنها ببعض الأعباء المنزلية كي توفر لها وقتا لكتابة قصصها كي تصل إلى العالم. وهذا ما نقرأه بالتفصيل في كتاب السيرة الذي صدر للكاتبة «آنّ سيمون». ويعد إضافة إلى سلسلة الكتب والدراسات الكثيرة التي كتبت عن سوزانا مودي، التي علمها الزمن أن تعتاد على موطنها الجديد وتحبه رغم كل شيء.

لم تكن سيرة حياتها معروفة على نطاق واسع، إلى أن كتبت الشاعرة مارغريت أتوود مجموعة شعرية خصصتها لهذه الشاعرة، بعد أن رأتها في حلمها. جاءت مجموعة أتوود بعنوان «جورنال سوزانا مودي» عام 1975، ولاقت اهتماما من قبل القراء والنقاد.