«السياحة الثقافية».. مشروع واعد للمستقبل

40 ألف موقع في فرنسا تنتظر حملات دعائية

أحد العروض التاريخية المسرحية الفرنسية («الشرق الاوسط»)
TT

هل تعرف كيف كان يعيش فيكتور هوغو؟ وكيف كان يكتب بلزاك ويمدد جسده المتعب؟ وما هي الطريق التي كان يسلكها ريتشارد قلب الأسد؟ وأي المأكولات كان الفرنسيون يأكلون، وأي لهجة يتكلمون في القرون الوسطى؟ ثمة وكالات سفر بمقدورها أن تجول بك في الأماكن الأكثر غنى ونبضاً بالتاريخ لتجيبك عن كل هذه الأسئلة وغيرها. وكالات لم تتجاوز العشر بعد في فرنسا، لكن أوروبا كلها، تسير على هذه الخطى السياحية المثمرة، بعد أن بات طلاّب المعرفة إلى جانب المتعة، يتكاثرون ويتنامون. فما الذي يحدث في فرنسا؟ وهل هو نموذج صالح لتطبيقه عربياً؟

منذ ستينات القرن الماضي، والطابع التسلوي والترفيهي هو الغالب على حركة التنقل والأسفار في العالم. وهي ظاهرة جعلت كثيراً من السّياح الغربيين يتخذون من الشواطئ ومراكز التزلج، كما المراكز التجارية وجهاتهم الأولى خلال جولاتهم الصيفية والشتوية حول أرجاء المعمورة. الجديد منذ العشرية الأخيرة هو تطور نوع جديد من السياحة يهدف إلى البحث عن المتعة والاستفادة في آن واحد، وهو ما يعرف اليوم باسم «السياحة الثقافية». المفهوم عرف تطوراً ملحوظاً في فرنسا التي تشهد الحياة الثقافية فيها حيوية وارتباطاً شديداً بالسياحة، فالبرغم من أن البلد ككل يستقطب السّياح لثروته الثقافية، حيث أن 65% من السيّاح الذين يزورونه يفعلون ذلك بدافع التّعرف على معالمه الثقافية، بحسب دراسة لـ«معهد إبسوس» بعنوان «فرنسا كوجهة سياحية عالمية» (2007) إلا أن المجال يبقى حسب خبراء السياحة والثقافة معاً بحاجة إلى تطوير كبير. وهؤلاء يشكون من انعدام التوازن الذي يجعل 90% من المعالم الثقافية التي يزورها السيّاح تتمركز في باريس وضواحيها عند «متحف اللوفر»، «معهد العالم العربي»، «قصر فرساي» وغيرها من الأماكن، بينما تبقى الأرجاء الأخرى «لفرنسا العميقة» كما يسميها الفرنسيون، أي مناطقهم الداخلية شبه خالية من السيّاح. والسؤال الذي يحير الخبراء هو: كيف السبيل لإقناع السيّاح بأن زيارة المعالم الثقافية، لا تتوقف عند المعالم المعروفة وأن البلد غني بأكثر من 40.000 موقع لها قيمة ثقافية عالية، تشمل القصور، الآثار العمرانية، المتاحف، الحدائق، ومهرجانات تستحق التعرف عليها عن كثب.

الحلّ وجدته المصالح الثقافية للبلديات والمحافظات الفرنسية الصغيرة التي تملك عدداً من المعالم الثقافية والتاريخية التي كانت أول من فكر في استقطاب سيّاح جدد باستغلال تراثها الثقافي والفني. بعض التجارب أصبحت مثالاً يحتذى، ليس فقط لأنها تضمن لأصحابها مداخيل سياحية لا يستهان بها، وإنما أيضا لأنها صارت مثالاً حيّاً على نجاح وفاعلية التزاوج بين السياحة والثقافة. إحدى تلك التجارب الناجحة نجدها في مدينة «مو» الواقعة وسط فرنسا والمعروفة بأجبانها اللذيذة، حيث كانت البداية بمهرجان صغير نظم في قصر قديم نهاية ثمانينات القرن الماضي، إحياءً لذكرى إحدى الشخصيات المحلية المهمة، وهو القسّ «بوسوي» الذي كان، في نفس الوقت، مستشاراً للملك لويس السادس العاشر. النجاح الذي حاز عليه العرض الأول، جعل هيئة المصالح الثقافية في البلدة، تفكر في تطوير هذا النشاط واستغلاله لاستقطاب سيّاح جدد، فراحت تنظم بمناسبة موسم الصيف عروضاً ضخمة في مواقع تاريخية تهدف إلى إمتاع السيّاح وتعريفهم، في نفس الوقت، بحقبة معينة من تاريخ هذه المدينة العريقة. «رماح الزمن» هو العرض الأخير، يروي قصة 1000 سنة من تاريخ هذه البلدة، وقد عرف مشاركة ما لا يقل عن 500 ممثل متطوع من سكان البلدة، واستعملت فيه أساليب إضاءة متطورة وألعاب نارية، كما أن نصوصه كتبها مؤرخون مختصون في تاريخ المنطقة. وقد نجح هذا العرض ـ الذي لا يزال مستمراً ـ في استقطاب ما لا يقل عن 250 ألف متفرج لغاية الآن. يقول تشارل بوشارت، المسؤول الثقافي لهذه المدينة ومخرج العرض في نفس الوقت: «أحسن شيء في هذه العروض أنها تسمح بتوصيل معلومات تاريخية ثمينة بطريقة سريعة وفعّالة. فالأطفال الذين يقرأون عن الثورة الفرنسية قد لا يحتفظون إلا بنسبة 10% بما يجدونه في الكتب، لكن هذه النسبة قد ترتفع إلى 100% إذا شاهدوا نفس الأحداث في عرض حيّ مليء بالحركة والحياة، كالذي نقدمه لهم هذه الأيام». منطقة «لا فوندي» التي تقع غرب فرنسا عرف القيمون عليها أيضاً، كيف يستغلون تراثها التاريخي لخدمة أهداف سياحية حتى أصبحت ثاني اكبر المحافظات السياحية في فرنسا. الفضل في هذا، يعود لقصر «لوبوي دي فو» الذي يمتد على مساحة 23 هكتاراً ويعود تاريخ إنشائه للقرن الثاني عشر، وقد ظّل طويلا مهجوراً وآيلاً للسقوط لولا تنبه مسؤولي المنطقة إلى إمكانية استغلاله لجذب سيّاح جدد ببعث الحياة فيه. وهو ما يحدث اليوم فعلاً، حيث تُقدم في أرجاء القصر وضواحيه عروض مسرحية هي عبارة عن إعادة تمثيل حياة الفرنسيين في العصور القديمة مع مراعاة أدّق التفاصيل: من لباس وديكورات ووجبات وحتى اللّهجة التي كانت تميزهم آنذاك، إضافة إلى عروض ضخمة بأساليب تقنية متطورة تحكي 700 سنة من تاريخ المنطقة من القرون الوسطى إلى الحرب العالمية الثانية. والموقع ككل يستقطب سنويا ما لا يقل عن مليون ونصف المليون زائر يأتونه من جميع أنحاء فرنسا ومن الدول المجاورة كبلجيكا، سويسرا، بريطانيا، هولندا، وألمانيا.

كثيرة هي المناطق التي تزخر بمعالم أثرية وتاريخ حافل، وبدأت تلجأ أكثر فأكثر إلى هذا النوع من السياحة، وقد تستعين بخدمات فرق فنية مختّصة لتنظيم مثل هذه التظاهرات، نظراً لأهمية مردودها السياحي، لو تمت بطريقة أكثر مهنية. وبدأت وكالات سفر مختصة، بتنظيم رحلات ثقافية بحتة تتزامن فيها الجولات السياحية مع انطلاق تظاهرات ثقافية مختلفة كالمهرجانات الموسيقية والمسرحية، معارض الرسم والفنون المعاصرة. هذا بالنسبة للشباب، فيما تنظم زيارات لمواقع أثرية ومتاحف حين يتعلق الأمر بالأكبر سناً. عدد هذه الوكالات المختصة لا يتجاوز العشر في فرنسا أهمها: «كليو»، «إبيزود»، «أنترماد»، «أرْ إي فيِ»، «فوغ». واللافت للانتباه ان عدد زبائن هذه الوكالات لا يزال قليلاً ويتراوح ما بين 5000 إلى 60.000 زبون سنوياً . وهي نسبة ضعيفة إذا ما قورنت بوكالات الأسفار العامة كـ«فرام» مثلا التي تهتم سنويا بأكثر من 500.000 سائح ووكالة «سون فرونتيار» التي يصل عدد زبائنها إلى المليون كل سنة. السبب يعود حسب كلود أوريجي كلوزو، أستاذة جامعية وخبيرة في السياحة الثقافية إلى خصوصية السائح الثقافي الذي يتمتع خلافاً للآخرين، باستقلالية وفضول شديدين، فهو عادة ما يتمرد على الدوائر السياحية الرسمية وينظم رحلاته بنفسه، فيقرر زيارة موقع ما انطلاقاً من مسعى شخصي للتعرف الى هويته ومقارنتها بهوية مواقع أخرى. كما ان «السائح الثقافي» لا ينبهر بمظاهر الحياة العصرية بقدر ما تهمه الأصالة والقيمة الفكرية، وغالبًا ما يريد من خلال رحلاته أن يعطي للحياة وللتاريخ معنى ما، وهو يدفع الألمان مثلا لزيارة «ميموريال» مدينة روان الفرنسية بغرض فهم حقبة مهمة من تاريخهم المعاصر. «السائح الثقافي» دائم البحث عن التسلية لكن مع الاستفادة، فهو حين يصطحب أطفاله لمتحف اللّوفر فلكي يعمق لديهم المعلومات التي اكتسبوها في المدرسة، وإن زار موقعاً ما فلا بد أن يجمع عنه أكبر قدر ممكن من المعلومات.

أما الديوان الفرنسي للسياحة الثقافية فهو يرى في تقرير نشر على موقعه عبر شبكة الانترنت بأن الكثير من المواقع الثقافية الصغيرة رغم أهميتها وقيمتها لم تفلح في جذب السيّاح، لأنها لم تعتمد وسائل دعائية وإعلامية فعّالة، ويضيف أن هذا الموقع المتخصص مطالب اليوم بمنح السائح أجوبة عن أربعة أسئلة أساسية وهي: أين أنام؟ ماذا أزور؟ كيف أذهب؟ وكيف سيكون الطقس؟ كما يجب التفكير في إدراج اسم الموقع في دليل سياحي معروف كدليل: «لوغوتار» أو «غيد دوفوياج»، وهو ما لن يتّم إلا بتحسين الخدمات، والاستعانة بمرشدين متّعددي اللّغات وتخصيص أماكن استراحة وأكل للزوار. كما يجب محاربة الأفكار التي تقول بأن المواقع الثقافية بخلاف الترفيهية لم تنشأ على أساس توفير الراحة والاستجمام، بل يجب التكّيف مع طلبات الزوار وأذواقهم المختلفة، ولا بأس إذا راعينا عند البريطانيين حبّهم للحدائق الفرنسية، واليابانيين عشقهم للطبخ الفرنسي والأميركيين عشقهم للقصور والمتاحف. الديوان الوطني للسياحة الثقافية يوصي عملاءه أيضا، بتنويع عروض الرحلات الثقافية باتجاه فئات جديدة، خاصة الشباب والطبقات البسيطة عن طريق تخصيص رحلات سياحية قصيرة المدى، مدتها من 3 أيام إلى أسبوع بهدف التعرف الى موقع معين أو حدث ثقافي خاص، كمهرجان «أفينيون» أو مهرجان «مرسياك» لموسيقى الجاز. علماً أن الوكالات المختصة في السياحة الثقافية تقدم ضمن خدماتها مسارات متميزة تتراوح مدتها ما بين أسبوعين إلى 4 أسابيع للتعريف بتاريخ منطقة معينة وتراثها الثقافي. فهناك مثلا برنامج لزيارة منازل أشهر الكتاب الفرنسيين، وآخر لزيارة أكبر قصور فرنسا، وبرنامج ثالث يقتفي خطى الملك ريتشارد قلب الأسد، وهناك برامج تاريخية للتعريف بكنائس وأديرة مشهورة.