الهجرة على طرق الغرب

فيرنان بروديل يتحدث عن الجزيرة العربية والحضارة الإسلامية

TT

يعتبر فيرنان بروديل (1902 ـ 1985) أستاذ المدرسة التاريخية الفرنسية الحديثة. والقليلون يعلمون انه كتب أطروحته عن «المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني» وهو في السجن! وكانت من أشهر أطروحات الدكتوراه في هذا القرن. وقد ناقشها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروجه من السجن الألماني. ثم ترأس مجلة «الحوليات» عام 1948، وهي أشهر مجلة لعلم التاريخ في فرنسا. ودعا الى ادخال العلوم الانسانية الى ساحة البحث التاريخي لكي يغتني بها. والمقصود بالعلوم الانسانية هنا: علم الانتربولوجيا، والنفس، والاقتصاد، والجغرافيا، والديمغرافيا، والتاريخ، وسواها.

ألف بروديل رائعته الثانية عن «الحضارة المادية والرأسمالية» بين عامي 1967 ـ 1979. ودرس فيها كيفية تشكل الحداثة المادية والتكنولوجية في الغرب. وقد وصل بروديل الى أرفع المناصب الأكاديمية. فقد كان رئيسا للمدرسة التطبيقية للدراسات العليا، وأستاذا في الكوليج دوفرانس. وتخرج على يديه كبار مؤرخي فرنسا المعاصرين. نشر بروديل فيما نشر كتابا بعنوان «معجم الحضارات». وتحدث فيه عن كبريات الحضارات البشرية: كالحضارة الصينية، والهندية، واليابانية، والأمريكية، والأوروبية. ولم يهمل حضارتنا العربية الاسلامية وانما خصص لها حوالي المائة صفحة بالتمام والكمال. وكان مما قاله عن الجزيرة العربية ودورها في إعطاء العرب المكانة التي يستحقونها على صفحة التاريخ ما يلي:

لولا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لما قامت للعرب قائمة، ولما توحدت قبائل الجزيرة العربية. وقد ظهر في فترة كان فيها الروم والفرس يسيطرون على العالم. وما كانوا يتوقعون ان يظهر في هذه البوادي الشاسعة والمقفرة شخص قادر على تهديد هيمنتهم. كانوا يعتبرون العرب شيئا هملا لا أهمية له ولا قيمة. وفجأة انقلبت كل الموازين والمعطيات بظهور الاسلام. فقد انطلق الدين الجديد من الجزيرة العربية ـ بعد أن وحَّدها ـ لكي يفتح العالم. وهكذا حصلت الفتوحات الاسلامية وتهاوت أملاك فارس وبيزنطة أمامه. وهكذا انقلبت الأمور رأسا على عقب. فبدلا من ان كانت الجزيرة العربية مهددة بالأطماع الخارجية، بل وحتى بالاستعمار عن طريق الفرس واثيوبيا المسيحية وسورية أو مصر البيزنطية، أصبحت هي التي تهدد العالم وتفتح سورية ومصر وفارس وتصل الى حدود السند والهند. وكل ذلك يعود الفضل فيه الى رجل واحد: هو نبي الاسلام وخلفاؤه الراشدون وفرسانه الشجعان من البدو العرب.

فيثرب مثلا كانت في زمن الهجرة أصغر من مدينة طيبة في اليونان. وكان يوجد بعض الفلاحين المستوطنين في الوديان المحيطة بهذه المدن، بشرط ان تحتوي هذه الوديان على الحد الأدنى من الماء. ولكن أغلبية العرب كانوا من البدو الرحَّل الذين لا يستقرون في أي مكان. كانوا مشكلين من العائلة البطريركية، فالفخذ، فالعشيرة، فالقبيلة. وكانت قرابة الدم هي التي تشكل العصبية الأساسية التي تربط بين أعضاء القبيلة. واما التحالف القبلي (أو الأحلاف) فلم يكن يشكل عصبية متماسكة وحقيقية، على عكس القبيلة. وكانت حياة البدوي صعبة جدا عبر هذه الصحارى القاحلة أو شبه القاحلة للجزيرة العربية. وما كانت ممكنة لولا تربية حيوان واحد هو الجمل. فالجمل هو سفينة الصحراء كما يقال. ويستطيع ان يتحمل العطش لأيام عديدة، ويقوم بالرحلات الطويلة التي تنقل الناس من مرعى الى مرعى آخر عبر هذه الصحراء المترامية الأطراف. واما في الغزوات والحروب فكان دوره ايضا مهما. فهو الذي ينقل العلف (أو الكلأ)، وكذلك قِرَبْ الماء (ج قربة)، والطعام. وأما دور الأحصنة العربية فلا يجيء إلا في آخر لحظة: لحظة العدو الشديد والانقضاض على الخصم. ولذلك فإنهم يراعون الأحصنة كثيرا ويهتمون بها ويعلفونها حتى يجيء دورها.

وأما الحياة اليومية للبدو فكانت جريا دائما وراء العشب الذي يهرب بدوره. وكان البدو يتنقلون على مسافة ألف كيلومتر من شمال الجزيرة العربية الى جنوبها، وبالعكس. ولكن البداوة تتدهور وتنحط ما ان تصل الى الحدود الشمالية: حدود الهلال الخصيب ما بين سورية ووادي الرافدين. فما ان تحتك البداوة بالحضارة والحضر حتى تثقل وتفقد قيمتها تدريجيا. وبدلا من تربية النوق والجمال يصبح البدو يربون الأغنام! ومن المعلوم ان الخروف لا يستطيع ان يمشي مسافات واسعة، على عكس الجمل. وما ان يتفرغ البدوي لتربية الأغنام حتى يتحول الى مجرد «شاوي»: أي بدوي أقل عراقة وقيمة. وتحت الشاوي يجيء مربي العجول أو الجواميس، وعندئذ يتحول البدوي النبيل الى مجرد فلاح مستوطن لا قيمة له (بحسب المعايير السائدة آنذاك).

ان بداوة النوق والجمال تحافظ على كل صفائها ونبلها في جنوب الجزيرة العربية ووسطها. هناك توجد البداوة الحقيقية، البداوة العريقة. وهذه القبائل النبيلة (أو الارستقراطية) هي دائما في حالة حرب، فالأقوى تطرد دائما الأضعف. وهكذا تطرد الصحراء المثقلة بالسكان زيادة عدد سكانها الى خارجها، أي الى التخوم القصوى. وعندئذ تذهب القبائل المهزومة الى سيناء ومنها الى الصحارى المغربية، ويتم ذلك بواسطة طرق الغرب. هناك أسباب جغرافية وتاريخية للهجرة عن طريق الغرب. ففيما يخص الناحية الجغرافية نلاحظ ان الصحارى الباردة تعقب الصحارى الساخنة في الشمال. ينبغي ان نعلم هنا ان العرب لم ينتصروا في آسيا الصغرى في القرن السابع الميلادي لأن جمالهم لم تستطع مقاومة البرد القارس لهضبات الأناضول. واما الصحراء المغربية فهي ليست إلا امتداد لصحراء الجزيرة العربية، وذلك فيما وراء حفرة البحر الأحمر. ولهذا السبب كان انتشار العرب في بلاد المغرب ـ أو شمال افريقيا ـ أكثر سهولة.

واما من الناحية التاريخية فيمكن القول بأن مناطق آسيا الوسطى كان لها بدوها وجمالها ذات الحدبتين لا الحدبة الواحدة. وكانت لها جيادها وفرسانها وتحركاتها الخاصة. وبالتالي فلم تكن مناطق فارغة لكي يجيء اليها العرب. ولذلك فضلوا الهجرة نحو الغرب الافريقي وصحاريه الواسعة.

وأود ان اضيف هنا ما يلي: لقد وضع بدو الجزيرة العربية تحت تصرف الاسلام قوتهم العسكرية الضاربة. صحيح انهم ترددوا في البداية، لكنهم وضعوها في نهاية المطاف، ولولا ذلك لما كانت الفتوحات. في الواقع ان البدو لم يعتنقوا الاسلام بين عشية وضحاها. فقد كانوا مشاكسين وغير مستقرين باستمرار. وقد استمرت شجاراتهم القبلية حتى في اسبانيا المفتوحة أيام الخلافة الأموية. فقد انقسموا الى يمنيين وقيسيين وهم على بعد آلاف الكيلومترات من الجزيرة العربية! وبعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) ارتد بدو كثيرون عن الاسلام. واضطر الخليفة الأول أبوبكر (رضي الله عنه) الى اعادتهم الى جادة الصواب عن طريق القوة. ولم يجد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وسيلة لضبطهم إلا ان يزج بهم في الفتوحات خارج الجزيرة العربية. وهكذا حقق البدو أولى الفتوحات الاسلامية. وينبغي ان نتخيلهم وهم يحملون خيامهم معهم ويقطعون مئات الكيلومترات ويفتحون البلدان الواسعة ويستوطنون فيها مع لغتهم وفولكلورهم وحسناتهم وسيئاتهم. ومن أهم مزايا البدو سمة لا تضاهى: هي الكرم وحب الضيافة.

ولا يزال العرب الحقيقيون الى الآن مشهورين بذلك. هكذا ابتدأت الملحمة العربية ـ الاسلامية: ملحمة الفتوحات وتشكيل الامبراطورية الواسعة. وهكذا تحول الفقراء الى اغنياء، والبدو الى حضر، وتم تشكيل حضارة مزدهرة دينيا وعلميا وأدبيا وشعريا وفلسفيا.. وكانت من أجمل الحضارات في العصور القديمة ان لم تكن أجملها وأعظمها.