درب الآلام إلى «الحلم الأميركي» المستحيل

روايات المهاجرين تفضح وجهه الخفي

TT

بلد المهاجرين أميركا، لم يشهد رواية يحكي فيها المهاجرون قصصهم إلا في العقدين الأخيرين. وهو أمر يثير الاستغراب ويدفع للتساؤل حول سبب دفن هؤلاء المهاجرين لحكاياتهم التي تستحق أن تروى، لا بل هي حين تكتب تصبح بمثابة تسجيل لحميميات المجتمع الأميركي وأسراره وخفاياه. ديفيد كوارت، أستاذ الأدب الانجليزي في جامعة «ساوث كارولينا»، من خلال مقالة كتبها أخيراً في دورية «بوبيولاد كالتشر» أثار هذا الموضوع المهم والحساس، لكن السؤال الأهم يبقى ما الذي كتبه المهاجرون حين قرروا ان يكسروا الصمت، وما هي طريق الآلام التي يسلكها المهاجر ثمناً لتحقيق الحلم الأميركي، الذي يبدو مستحيلا؟

ناقش ديفيد كوارت، أستاذ الأدب الانجليزي في جامعة «ساوث كارولينا»، روايات كتبها مهاجرون إلى أميركا غالبيتهم من دول العالم الثالث. وهو ليس غريباً عن الموضوع، فهو صاحب كتاب: «وراء سحب مرت: روايات مهاجرين الى اميركا». قال ان العشرين سنة الماضية شهدت ولادة ظاهرة أدب المهاجرين، وقبل ذلك لم تصدر غير روايتين مهمتين: اولاً: قبل ستين سنة، كتبت ايان راند (مهاجرة يهودية من روسيا) «رأس النافورة»، ومفادها أن «حب الرجل لنفسه هو رأس الحضارة الغربية». ثانيا: قبل سبعين سنة، كتب هنري روث (مهاجر يهودي من النمسا) رواية «دعينا ننام»، عن حياته مع عشيقته. وقال كوارت: «تكشف روايات المهاجرين الى أميركا ما لم نكن نعرفه عنهم، وأسرار البلاد البعيدة والغريبة التي جاءوا منها. وتوضح هذه الروايات ان الثقافة الأميركية العملاقة التي تقدر على هزيمة كل ثقافة غيرها، تتعرض هي الأخرى إلى التغيير من الداخل، ولكن ببطء». ويضيف كوارت «من جانب، نحزن لأننا لا نعرف كثيراً عن هذه البلاد وهؤلاء الناس. ومن جانب آخر، نفرح لأننا لم نستعمر هذه البلاد، وكل هذه الروايات تشكو من استعمار بريطاني، أو فرنسي، أو أسباني». ويقول: «تأدبنا، نحن الأميركيين، يمنعنا من الحديث عن عرق شخص ما، أو دينه، أو لونه. لكن، روايات المهاجرين تتحدث عن هذه المواضيع دون حرج. حقيقة، نفاجأ، نحن الأميركيين، لكننا نعتقد انهم لا يكذبون، لأنهم عاشوا هذه الاختلافات في بلادهم، ويعيشونها الآن بيننا». ويضيف: «هناك فرق كبير بين دراسات أكاديمية عن شعوب أجنبية، وروايات يكتبها المنتمون الى هذه الشعوب. وتقدم لنا الروايات الاختلافات مع عادات وثقافات الشعوب الأخرى بأسلوب سهل، وتؤكد ان الحلم الاميركي، اذا لم يكن وعاء ذوبان، فإنه، على الاقل، صحن سلطة».

«ياسمين» بقلم الهندية

بهاراتي موخرجي من الهند

تزوجت ياسمين أول مرة، عندما كانت في الهند. رتبت عائلتها الزواج ولم تشاهد زوجها إلا ليلة الزفاف، لكن زوجها توفي، وتأكد لها أنها كأرملة ستعاني الكثير. لهذا، دفعت آلاف الدولارات لسماسرة أوصلوها إلى أميركا. وهنا بدأت مشاكلها الحقيقية. في ولاية فلوريدا. في فندق بائس سكنت مع أجانب دخلوا مثلها، بطريقة غير قانونية، اغتصبها أجنبي من السنغال، وفي اليوم التالي، قتلته بسكين مطبخ، وهربت إلى ولاية ميشيغان، حيث يسكن صديق هندي لزوجها المتوفى، كان يراسله، ويقول له انه أستاذ جامعي، لكنها عرفت انه عامل في الجامعة، وكان يكذب كل هذه السنوات، فكرهت الهنود. انتقلت إلى أوهايو، حيث عملت مربية، وأحبت أميركياً، لكنه، بعد علاقة جنسية معها في غياب زوجته، رفض ان يطلق زوجته ويتزوجها.  وانتقلت الى ميسوري، حيث عملت في منزل عائلة أميركية غنية، ترعى الابن المعاق، وسرعان ما أحبته لأنه أميركي. ولأنه معاق، اضطرا لإنجاب طفل في أنبوب في معمل، لكنهما اختلفا وهي حامل، انتقلت إلى ولاية كاليفورنيا، حيث وضعت بنتاً، دون أب قانوني. وأخيراً، عادت إلى الأميركي في ولاية أوهايو، الذي تزوجها، وتبنى ابنتها. لكن، ليس مؤكداً انها لن تختلف معه في قصة صراع واضح بين هندية فضلت رجال أميركا على رجال الهند، والسنغال.

«كيف فقدت بنات غارسيا لكنتهن الأجنبية؟» لجوليا الفاريز

 ارسل د. كارلوس غارسيا، وهو طبيب غني في جمهورية الدومينيكان (في البحر الكاريبي) زوجته وبناتهما الأربع الى أميركا، بعد مضايقات كثيرة من حكومة الجنرال تروويلو التي كان يعارضها. لكن، بدت الحياة صعبة بالنسبة لبنات (كارلا، وساندرا، ويولندا، وصوفيا) لم يتعودن السكن في شقة، والطبخ والنظافة دون خدم. وصارت الحياة صعبة بالنسبة للأم التي لم تتعود خروج بناتها دون (رقيب)، ومشاهدتهن لبرامج تلفزيونية اعتبرتها إباحية، واتصالات تليفونية من أولاد يريدون مراجعة واجباتهم المدرسية مع بناتها.  بعد سنة، استسلمت الأم، وكانت صوفيا قد جربت حشيشة «ماروانا»، وشاهدت كارلا تلميذاً في حمام المدرسة يكشف أعضاءه التناسلية، وانفردت ساندرا مع «بوي فرند» بحجة أداء واجبات مدرسية، ولم تفهم يولندا رغبة بنت سحاقية فيها. لكن، صغرت كل هذه المشاكل أمام خوف الأم من أن تفقد البنات عذريتهن، غير أن البنات كن أكثر حرصا على ذلك من والدتهن، حتى أكملن المدارس الثانوية، بل ظلت يولندا عذراء وهي في الثلاثين. 

لم تعرف الأم أن حرصها على عذرية بناتها يناقض حرصها على زواجهن، ومشاهدة أحفادها قبل ان تموت، وينقل جثمانها الى الدومينيكان حسب وصيتها. لم تتزوج إلا بنت واحدة. أحبت صوفيا أستاذها الجامعي، لكنه رفض طلاق زوجته، وأحبت كارلا واحداً أثناء إجازة صيفية في الدومينيكان، لكنه قال لها انها أميركية، وهو لن يتزوج أميركية أبداً.  وأحبت ساندرا أميركياً، استعلى على لونها الأسمر. لكن، تزوجت صوفيا، أصغرهن، رغم ان الأم والأب قاطعا حفل الزواج لأن الزوج مهاجر من ألمانيا، غير أن ميلاد حفيد حمل اسم الجد أجبر الاثنين على السفر الى ولاية ميشيغان لرؤيته». شيء واحد حسم نهاية القصة: أهم من فقدان عذريتهن، فقدت بنات غارسيا الأربع لكنتهن الأجنبية، وصرن يتكلمن وكأنهن ولدن في أميركا.

«جسر من القرود» كتبها

الفيتنامي آلان كاو

 تحدى الحلم الأميركي الفيتنامية «ماي»، وذكّرها بمثل فيتنامي عن عبور نهر على جسر تصطف عليه القردة، ودون مساعدة أي شيء سوى عصا من نبات «البامبو».

هربت «ماي» مع أمها في زورق صغير من سايغون يوم سقطت بعد هزيمة القوات الأميركية. وبعد سنة في معسكر لاجئين في تايلاند، وسنة أخرى في معسكر في الفيليبين، وصلا الى أميركا. لم تدم فرحة البنت، لأن الأم أصيبت بجلطة دماغية سببت لها شللاً جزئياً، إلا ان الام ظلت تتذكر والدها «بابا كوان»، وتستيقظ كل ليلة وهي تصرخ: «بابا كوان، بابا كوان». 

عندما قرأت البنت مذكرات سرية كتبتها أمها، عرفت ان «بابا كوان» لم يكن والد امها الحقيقي، وان والدها الحقيقي كان اقطاعيا. وان زوج والدتها، كان يعمل خادما عند الاقطاعي، وعندما رغب الاقطاعي في زوجته، واعطاه رشوة، لم يرفض. لكنه ندم في ما بعد، وقتل الاقطاعي انتقاما، وانضم إلى ثوار «فيات كونغ» الشيوعيين. ولهذا، يوم هربت الأم وابنتها من سايغون، دخلها هو مع الثوار المنتصرين، ولم يهاجر إلى أميركا لأنه هزمها.

لكن صحة الأم تحسنت، وفتحت مطعما في «ليتل سايغون»، قرب واشنطن. كان مطعماً للفيتناميين، يجتمعون فيه ليتناقشوا في التطورات السياسية في بلادهم.  

كبرت «ماي» وصادقت الأميركي «بوبي« الذي اقترح عليها العيش في كندا، لكنها فضلت البقاء مع أمها، بدل الهجرة الى بلد ثان، غير انها أجادت الانجليزية، وصارت تتكلم مثل الأميركيات، وتخجل من أمها عندما تتكلم مع زميلاتها بإنجليزية لا يقدرن على فهمها، وهي تبتسم ابتسامة الأجانب الانهزامية.

كتبت البنت في مذكراتها: «أصبحت أعرف اسم كل طير في السماء، وكل  حيوان في الغابة. زادت إنجليزيتي ثقتي بنفسي». وكتبت: «اغفروا لأمي.  انها حية، لكن عقلها ميت، لا فائدة منها. صارت أمي مثل ابنتي، أقول لها: لا تفعلي هذا، لا تقولي هذا، ستضحك علي صديقاتي».

«حلم في كوبا» كتبتها كرستينا غارسيا من كوبا

 هذه رواية ثلاثة أجيال. تنتمي الأم «لورديز» إلى ما قبل ثورة كاسترو (سنة 1959) وتنتمي البنتان «سيسلا» و«فيليشيا» إلى الجالية الكوبية في أميركا، أما الحفيدة «بيلار» فهي أميركية مائة في المائة.

في كوبا، أحبت الأم الأرملة رجلاً متزوجاً من اسبانيا لكنه تركها، بعد علاقة مثيرة، ثم تزوجت جورجي الكوبي، لكنه اكتشف علاقاتها السابقة، قبل نهاية شهر العسل، وبدأ علاقات مع عشيقات وصديقات.

 في أميركا، كانت «فيليشيا» مغامرة، «سيسلا» هادئة. حيرت أميركا «فيليشيا»، وعرقلت تحقيق طموحاتها، وشككت في هويتها وانتمائها. وجعلتها تجوب الكنائس، والحانات، والهيبيز،صبغت شعرها، ووضعت حلقة في أذنها، وانضمت إلى طائفة «سانتيرا» (دين شعوذة أصله من قبيلة يوروبا في نيجيريا). تركت المدرسة الثانوية قبل ان تكملها، وانتقلت من وظيفة إلى وظيفة، أنجبت توأمين، من دون زواج من «هوغو» الذي يتكلم الاسبانية مثلها، الذي كانت له عشيقات أخريات، ونقل مرض الزهري من واحدة اليها. لهذا، أصيبت بانهيار عصبي، وحاولت قتل «هوغو» بحرق بطانية كان يتغطى بها، لكنه نجا، وعادت وأنجبت له طفلا ثالثا من دون زواج، ثم حاولت قتله مرة ثانية ونجا.

عادت الى كوبا مع ثلاثة أطفال غير شرعيين، لم تصدق أمها لكنها، أمام الأمر الواقع، وافقت على مساعدتها في تربيتهم. وتزوجها «أرنستو» الذي كان يريد منها أن تقدم له طلبا للحصول على إقامة دائمة في أميركا، وزاد جنونها، وقتلته. ودخلت، الى الأبد، معبد شعوذة تابعا لطائفة «سانتيرا».

اما أختها «سيسلا» فكانت أحسن حالاً، تزوجت مهاجراً من كوبا، وأنجبت «بيلار»، لكنه مثل كثير من رجال العالم الثالث، لم يكتف بزوجة، وأقام علاقات مع أخريات متحاشياً الأميركيات، ومفضلا المهاجرات. وانتهت الرواية والبنت «بيلار» تكبر أميركية وتواجه مشاكل بقية الأميركيات (التي لا بد أن تكون أقل من مشاكل خالتها).

«حشرة الشجرة الميتة» رواية الهولندية مايلين دريسار

تقاعد ترستان مارتنز، أستاذ حشرات في جامعة نيويورك، ومهاجر من هولندا، ووجد وقتاً كافياً لممارسة هوايته المفضلة: جمع قطع الأثاث الأوروبية القديمة. وعندما زار متجراً في نيويورك، ووجد كرسياً مكتوباً عليه انه من هولندا، وعمره أكثر من مائة سنة، أحس أن الكرسي ليس غريبا عليه. وعندما رفعه ونظر إلى أسفله، وجد عبارة مكتوبة بخط والدته، وتذكر انه هو نفس الكرسي الذي كان في منزل العائلة قبل ستين سنة، مع بداية الحرب العالمية الثانية، قبل أن تهرب العائلة من هولندا إلى أميركا خوفا من غضب هتلر. ماذا كتبت الأم تحت الكرسي؟ «بعد ان يبيد هتلر اليهود، سيبيدنا».

تذكر ان والده ووالدته كانا يتناقشان عن الحرب التي أعلنها هتلر ضد اليهود، والدول المجاورة، ومنها هولندا. أيد الوالد هتلر، وكان نازيا متطرفا، لكن، عارضته الوالدة، وكانت تكرر عبارة: «بعد أن يبيد هتلر اليهود، سيبيدنا».

فوجئ البروفيسور عندما قالت له صاحبة المحل انها لن تبيعه الكرسي. وصار يزور المحل من وقت لآخر، ليقنعها بأن تبيعه الكرسي، ويتناقش معها حول العبارة المكتوبة، من دون ان يوضح صلة الكرسي بعائلته، ومن دون ان تقول له صاحبة المحل انها يهودية. (لكن، شك كل جانب في حقيقة الآخر).

وصار هذا النقاش هو محور هذه الرواية. لم يكن البروفيسور نازياً صارخاً مثل والده، لكن كانت له ميول نازية.

ومثلما اختلف والده ووالدته حول هتلر، اختلف هو مع زوجته، ثم مع ابنهما الوحيد، حول هتلر. وفي وقت لاحق، تركته زوجته، وانتقل الابن الى ولاية تكساس. وعندما أنجب حفيداً لوالده، رفض أن يريه إياه، وكتب له ذات مرة: «لا مانع أن ترسل هدايا كرسماس، لكن، من فضلك، لا تأت لزيارتنا». وكتب له مرة أخرى: «تريد أن تخلص العالم من الحشرات الضارة، ونسيت أن الحشرة يمكن أن تكون طريقة تفكير أيضاً.

لقد صرت مثل حشرة تقتات من شجرة ميتة». باستثناء رواية «حلم في كوبا» التي كتبتها صحافية في مجلة «تايم» فإن كل الروايات الأخرى كتبت بأقلام أساتذة جامعيين، وهو ما يلفت إلى ان قضية آلام الهجرة لا تبقى جارحة وعصية على من لا يحالفهم الحظ أو يسعف أطفالهم فقط، بل هي مهمة أيضاً لأولئك الذي تسلقوا أعلى المراتب وارفعها.