شخصيات عراقية تهرب بمآسيها.. إلى إسرائيل

«على ضفاف بابل» لخالد القشطيني

TT

هذه رواية نصفها أسطوري، ونصفها لغزي، بقلم كاتب فنان عاش عبر أحداث جسام، لكنه كرسّام، شاء أن يصور الأحداث والأماكن بفرشة ناعمة الضربات.

خالد القشطيني، كاتب ساخر بارع كما يعرفه قراؤه من عموده في «الشرق الأوسط». والمواضيع الرئيسية في روايته الجديدة، المعاملة غير العادلة للمرأة وجلادة الفرد العراقي والشقاء الذي فرضته التطورات السياسية على مجتمعه. ويتجسم كل ذلك عبر حكاية ومجموعة من الشخصيات تشد القارئ انطلاقا من أول مشاهد الرواية، عندما نرى أن الذكور يجوز لهم فقط دخول البيت بأحذيتهم، وممنوع ذلك على النساء.

إنه عام 1948، وفي بغداد تواجه أسرة الحاج نوفل، أزمة خطيرة. لم تعبأ العائلة بكل ما كان يجري في المنطقة وركزت كل اهتمامها على ابنتهم «سميرة» وعلاقتها بالشاب اللعوب «حسون». يأخذونها الى طبيب يكلف بتطهير الأسرة من هذا العار. يقودونها من البيت في موقف مثير وقلبها يتفطر ألما وحسرة. يصطحبها أخواها بعربة أجرة. يجلسان في صدر العربة وتجلس هي تحت أقدامهما على المقعد السفلي كقطعة كبيرة من الفحم وهي ملتفة بعباءتها السوداء. تتحول الرواية في الواقع الى حكاية الدكتور «عبد السلام ساسون»، احد أبناء الطائفة اليهودية العريقة في العراق، حيث عاشت أسرته في بغداد لقرون.

لكن الأمور لم تعد على ما كانت عليه. يواجه الدكتور خطرين، الأول شكوك الأخوين في انه لم ينفذ طلبهما بقتل أختهما، والثاني التأزم السياسي في البلاد. سرعان ما يتحول سعي الدكتور «عبد السلام» لضمان سلامته وسلامة عقله، الى حبكة ملحمية تأخذه وزوجته في رحلة طويلة تنتهي بخروجهما من العراق ونزوحهما إلى إسرائيل. وهناك يلتقي الدكتور بأسير عراقي شاب، هو «حسون» نفسه. وكان هذا الشاب قد انتقل بدوره في سلسلة من المغامرات تحاشيا لانتقام أهل البنت.

هكذا يلتقي الشخصان كتركيبة حلزونية مزدوجة في سعيهما لنيل السلامة والخلاص من البداية المأساوية للحكاية. يعطي ذلك المؤلف فرصته التي يجيد دائما استخدامها في تصوير حياة ذلك البلد الذي تحدر منه. يبدأ بوصف شارع السعدون الذي أقام فيه «عبد السلام» عيادته: «كان الشارع مرصوصا من كلا الجانبين بالمقاهي والمطاعم والمكتبات والدكاكين والصيدليات والسينمات والكباريهات. وعندما تسير فوق الرصيف المهشم بجانب المجاري المفتوحة، تشم شتى الروائح كل بضعة أمتار، رائحة الكباب والكبد المشوي واللبلبي والمشروبات الوطنية، ثم نكهات الأدوية من الصيدليات». هكذا يصف القشطيني عبر عيون الدكتور تلك المدينة التي عرفها في صباه. وأثناء ذلك يتحول «حسون» الى مجرد شحاذ في الطرقات ثم حفار في المقابر. وكلها صفحات بارعة من موهبة القشطيني الفائقة في سرد القصص. فكلما التقينا بأحد من هذه السلسلة من الشخصيات العجيبة الغريبة، وجدنا أنفسنا حيال حكاية مثيرة يطرب المؤلف في سردها مثلما نسرع نحن لمتابعتها.

الحقيقة ان هذه رواية تصلح لسردها لمستمعين وهم جالسون حول النار في المساء، فهي تمتلك ذلك اللغز المثير الذي يميز حكايات الألغاز الكلاسيكية. وهي مطرزة بالإشارات الاجتماعية والوصف وحتى بعض الأغنيات المحلية. وكل ذلك لا بد أن يشد المستمعين بما يتضمنه من مواقف ونتف من الطرائف، التي هي ملح الرواية، وتمنح بعض أجزاء الرواية روحية اللوحات الزيتية بما تحمله للقارئ من مشاعر فنية وحنين إليها: «كان الوقت قد أزف على الغروب عندما جلس السائق كريم وراء مقود السيارة وشغل الماكنة. بدت الشمس حمراء ومثيرة وهي تنحدر نحو الأفق وراء طبقة من الدخان الأزرق المتصاعد من التنانير، الأفران الدائرية التقليدية لصنع الخبز. كان الوقت قد حل بالنسبة للنسوة لشواء الخبز وخبز العروق باللحم المفروم والكرفس والبصل.. وبنحو مثير للشهية، اختلطت رائحة الخبز بالدخان الأزرق المنبعث من نار الحطب والروث المجفف. وهناك وقفت نساء قويات طرز الوشم وجوههن وقد لبسن الفوط السوداء والدشداشات الزرقاء، يمسكن بقضبان خشبية طويلة لنكش الوقود والسيطرة على النار، يتصبب العرق من وجوههن ويصرخن على أولادهن طوال الوقت. ظهرت جماعات من الفلاحين يحملون فؤوسهم ومساحيهم القديمة على أكتافهم، يسيرون نحو بيوتهم وهم يدردشون ويسعلون ويتضاحكون ويغنون أغانيهم من العبوديات في سيرهم.. وخلال طبقات الدخان، كان الحمام ينوح من أوكارها فوق أشجار البرتقال».

لا يستطيع القارئ، وهو يقرأ هذا الوصف، إلا ان يشعر وكأنه يرافق أبطال الرواية في مسيرتهم الملحمية. كان هذا قرب بابل وعلى جانب من ضريح «النبي الكفل»، حيث ذهب الدكتور «ساسون» وزوجته للاستشفاء.

لم ينفع العلاج الروحي واضطر الزوجان لمغادرة العراق تحت وطأة الاضطهاد الذي تعرضت له الطائفة اليهودية في خضم حرب 1948.

وفي إسرائيل يفقد المؤلف مع الأسف قدرته الوصفية. العراق بلد عرفه جيدا فأجاد وصفه، لكن إسرائيل بلد غريب عليه فضل الطريق الى حد ما وهو يعتمد على ما سمعه من الآخرين. والسماع غير المشاهدة والمعايشة. ورغم كل معرفته عن اليهود العراقيين، فإنه وقع في أخطاء بديهية. ومن ذلك تسميته لبطل الرواية بـ«عبد السلام»، فاليهود لا يستعملون «عبد» في أسمائهم. كثيرا ما سموا أولادهم «سلام»، لكن ليس «عبد السلام». بيد ان هذه أخطاء قلّما سيدركها غير اليهودي، ولا تؤثر في متعة قراءة هذه الرواية. وكم قيل من قبل: «حتى هوميروس يخطئ في الأوزان».

* كاتبة بريطانية