المسلسلات التركية.. صدمة ثقافية؟

مثقفون سعوديون يرون أن هناك مبالغة في تأثيرها على القيم الاجتماعية

مشهد من مسلسل «سنوات الضياع» («الشرق الأوسط»)
TT

إذا صحت الأنباء أن امرأة سبعينية شرق السعودية، نذرت ذات مساء أن تذبح لله قرباناً إن عثرت بطلة المسلسل المكسيكي ذائعة الصيت (غوادا لوبي)، على طفلها المفقود. والأنباء الأخرى التي تحدثت عن قيام امرأة سعودية تملك مزرعة في نجران، ببيع قطيع ماشيتها عن آخره، حتى لا يتشتت انتباهها عن متابعة المسلسل التركي (نور).. فإن ذلك يؤشر على وقوع زلزال ثقافي حرك بعنف قناعات مجتمع مترسخة داخله النظرة السلبية للصورة، فكيف إذا كانت صورة وافدة بمنظومة قيم لم تعتد عليها؟!.

اليوم، يتم تداول الإقبال غير العادي للجمهور العربي، والخليجي خصوصاً، على مشاهدة المسلسلات التركية المدبلجة بكثير من الغرابة والتندر، فثمة حالات طلاق، وزواج، وتغيير في السلوك العام للمجتمعات أنتجته متابعة المسلسلين التركيين، (سنوات الضياع) و(نور)، بحيث يمكن القول إن هناك الآلاف ممن (شدوا الرحال) هذا الصيف إلى عاصمة الخلافة العثمانية لكي يظفروا برؤية بيوت أبطال المسلسلين، أو «تكحيل» العين بمشاهدة روب نوم البطلة ممداً على السرير، أو لمجرد المرور في فضاء ما زال عابقاً بنسيم فرسان الدراما. زلزال حقيقي، إذاً، أصاب الثقافة المحلية، ليس أقله الشعور العام بالحاجة إلى مدارس (محو الأمية العاطفية) لمجتمع ذكوري، تعود أن يستعرض فحولته أمام المرأة، وهاله أنها هي الأخرى تفتش عن الحبّ والعاطفة و(الرومانسية)، وثمة صدمة معتادة تنتاب كل الأعمال الجديدة، وهي الخوف على (حصن) القيم الأخلاقية من الانهيار.

التحقيق التالي، يستعرض آراء مثقفين وأساتذة إعلام سعوديين حول القراءة الثقافية لتأثير المسلسلات المدبلجة في الثقافة المحلية، ومناقشة الآثار المحتملة لهذه الأعمال، وتقييم المخاوف والتحذيرات من هذه المسلسلات، هل كانت حقيقية وجادة، أم مجرد (فوبيا) لا حقيقة لها؟.

* الأمير الدكتور نايف بن ثنيان: لا داعي للخوف على الثقافة

* أوضح عضو هيئة التدريس في قسم الإعلام، بجامعة الملك سعود، الأمير الدكتور نايف بن ثنيان آل سعود، أنه لا يوجد تأثير قوي في ثقافتنا المحلية، من خلال عرض المسلسلات المدبلجة (لما لثقافتنا من جذور راسخة وأسس ثابتة)، مضيفًا أنه ليس لمجرد عرض أعمال درامية وتلفزيونية، آتية من أقطار أخرى، وثقافات مختلفة، يمكن أن تتغير البنية الثقافية للمجتمعات، مع ما تمتلكه من مبادئ وقيم وإرادة. وأضاف الأمير الدكتور نايف بن ثنيان آل سعود، أن هذه الأعمال الدرامية المدبلجة، لا نستطيع وضعها في قالب واحد، فبعضها يكون طرحه مفيدا ويمثل قيمنا الإسلامية والمحلية، والآخر سيئا خارج عن إطار ثقافتنا المحلية، سواء من حيث النص الدرامي، أو السيناريو، أو المحتوى الفني. ورأى أن الانبهار بهذه الأعمال المدبلجة، يكون محدودا ووقتيا، ومن فئات عمرية معينة، و«علينا ألا ندع الخوف يسيطر علينا، من أن ثقافتنا سوف يشوبها تغيير من خلال عرض بعض هذه المسلسلات»، داعياً في الوقت نفسه لأن تكون الدراما العربية ذات مستوى عال من المهنية والحرفية التقنية، حتى تصل إلى عموم المشاهدين في أقطار العالم.

* الريس: الجدل يكشف إشكالية ثقافية وأخرى معرفية

* وقال عضو هيئة التدريس في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود في الرياض الدكتور حزاب الريس: «إن التعاطي مع المسلسلات الأجنبية المدبلجة المنتشرة على القنوات الفضائية العربية أخذ منحا مغايرا لسياقاتها الطبيعية، خصوصا «المسلسلات التركية» وهو نوع من الدراما الذي يطلق عليه دراما «الصابون»، الذي أنتجته ماكينة الأفلام الأميركية (هوليوود)، وهو يهدف إلى وصول المعلن عنه إلى المشاهدين، وما يحمله هذا المعلن من أبعاد ثقافية واجتماعية واقتصادية».

ويرى الريس أن السياق الدرامي الفني من خلال الأفكار المطروحة يبين من خلال عرض مسلسلين للدراما التركية، وما أحدثه ذلك من ضجة داخل المجتمع السعودي، يشير إلى أن هناك إشكالية ثقافية وأخرى معرفية، وهو الذي يصل بالبعض إلى التخوف من تأثيرهما في ثقافتنا أو في سلوكيات مجتمعاتنا المحلية، وهو يعتبر ذلك خارج المنطق والمعقول، والسبب هو عدم التفريق بين ما هو خيالي وواقعي. ولا يعتقد الريس أن مجتمعاتنا هشة من الناحية الثقافية والدرامية بحيث لا تفرق بين ما هو خيالي وواقعي، وأن ينسف مسلسلان أو أكثر تاريخ وثقافة شعوب ضاربة في أعماق التاريخ وأمة لأكثر من 14 قرنا، مع وجود المؤسسات المتنوعة، التي تغذي هذه الثقافة وتحافظ على استمراريتها، ممثلة بالمساجد والمدارس والإعلام والأسرة وغيرها. ويؤكد الريس أن «مجتمعاتنا متمسكة بقيمها وعاداتها، غير أنه من شدة الحرص على ثقافتنا والخوف من التأثر بالثقافات الأخرى، خصوصا المسلسلات المدبلجة، تخرج أصوات تحذر من تأثيرها في ثقافتنا».

* العسكر : لا يمكن فصل السياق الدرامي عن المحتوى

* وأوضح أستاذ قسم الإعلام، وعميد البحث العلمي، في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، الدكتور فهد العسكر، أن أي منتج درامي سيكون له تأثير، سواء إيجابا أو سلبا، من خلال ما يحمله هذا المنتج من قيم وعادات وتقاليد وأعراف، خصوصا إذا كانت هذه الثقافة قادمة ومستمدة من خارج البيئة المحلية، التي منها المسلسلات المدبلجة، والتي قد ينعكس تأثيرها في الثقافة المحلية من خلال الأفكار، وأيضا من ناحية المأكل والمشرب، وغيرها من مناحي الحياة العامة. ويقول العسكر: «إن ما تم طرحه حول المسلسلين التركيين، وقبلهما من المسلسلات المكسيكية، غالبا ما يتركز حول المشاهد التي تتعارض مع القيم الإسلامية، كذلك ما يتصادم مع ثقافتنا المحلية». ويرى العسكر أن حالة الانبهار بالمسلسلات المدبلجة ناتجة عن ضعف الإنتاج الدرامي العربي، كذلك التغيير والتجديد في الفكرة والطرح وطريقة المعالجة، وأيضا الترجمة من خلال التأثيرات الصوتية، والإضاءة البراقة. ويشير إلى أن تأثير المسلسلات ينحصر خلال فترة عرضها على الشاشة، بعدها يتناسى الناس هذه المسلسلات مثلما حدث في المسلسلات المكسيكية، لكن الخوف على ثقافة المجتمع يكمن في حالة تراكم هذه التأثيرات وتزايد عرضها على القنوات العربية. إنه لا يمكن فصل السياق الدرامي الفني، كما يضيف العسكر، والأفكار والمفاهيم التي تتضمنها المسلسلات المدبلجة، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن العملين الإعلامي والدرامي ينطلقان من أفكار ورؤى ثقافية خاضعة للمكان الذي تم فيه الإنتاج.

* الحمود: نقل القلق الثقافي الاجتماعي للأسر العربية

* ويرى الدكتور عبد الله بن ناصر الحمود، أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ونائب رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، أن الجيل المعاصر، كبيئة مجتمعية متلقفة لمثل هذه المسلسلات الوافدة، هو جيل مختلف تماما في كثير من مركباته النفسية والثقافية وحتى الاجتماعية عن الأجيال السابقة، وبفارق زمني مجازي كبير جدا، مما جعل الحضور المتميز للمسلسلات التركية المدبلجة يجد مساحة واهتماما في خريطة المشاهد العربي عامة والخليجي خاصة. لقد استطاعت هذه المسلسلات، حسب وجهة نظره، نقل القلق الثقافي الاجتماعي في الواقع التركي من الطبقة النخبوية إلى الطبقة الشعبية، وبالتالي من المنتديات الفكرية إلى داخل الأسر العربية ذات الاهتمام بالشأن الفكري العام. أما في الإطار الاجتماعي، فيعتقد الحمود أن هذه المسلسلات، وربما للمرة الأولى في تاريخ الإعلام العربي «تثير غيرة الرجل الشرقي بعد عقود من الزمن كان الرجل خلالها يمتلك وحده مفاتيح إثارة غيرة المرأة من حوله، عبر تغزله بحسناوات الشاشة».

* العثيم: إذا لم نملأ الفراغ الثقافي سيملأه غيرنا

الكاتب المسرحي محمد العثيم يقول لـ«الشرق الأوسط»، حول الموضوع نفسه: «إننا نعاني من خوف غير مبرر من كل ثقافة وافدة، وقد يكون هذا الخوف من قِبل فئات ذات مصالح، وقد يكون من أناس تقليديين يظنون أن ثقافة العرب والمسلمين سوف تمحى بالثقافة الجديدة». ويضيف: «من المؤكد أن من يحارب ثقافة جديدة عليه أن يقدم البديل. والزعم بالضرر على الدين والأخلاق عبر الأعمال الفنية غير صحيح، فالناس تتفرج على الدراما وتذهب تصلي متمسكة بأخلاقها، كما كانت دائماً».

وقال العثيم: «إن البديل معدوم في ما يخص صناعة ترفيه فني جيد من خلال مؤسسات قادرة تساهم في صياغة المحتوى الثقافي للمجتمع عبر سياسات وخطط تقوم عليها كوادر عالية الثقافة والمهنية، فمنذ 40 سنة ونحن نسند التصنيع الثقافي إلى فئات لا تنظر إلى عموم المسألة بأكثر من كسب المال.. إننا إذا لم نملأ فراغنا الثقافي فسنجد من يملؤه وعلينا ألا نحتج حينذاك.. بل يجب أن نتدارس أسباب تقصير المؤسسات الثقافية عن القيام بدورها».

* المطرفي: نهاية أسطورة البطل الذكوري

* الإعلامي السعودي خالد المطرفي يرى أن المجتمعات بطبعها لا تتأثر من خلال بعض المسلسلات، والتأثيرات عادةً ما تكون عند أصحاب الرؤى الهشة والتركيبة الداخلية الرخوة، وهي تركيبة قابلة للتغيير في أي ظرف، سواء كان سلبياً أو إيجابياً، خاصة في المجتمعات حديثة العهد على الانفتاح الثقافي. ويرى المطرفي أن بعض الرجال يشعرون أنهم لم يعودوا قادرين على إيصال فكرة أنهم وحدهم يمثلون صورة البطل كرمز ذكوري، بالإضافة إلى أن انشغال الرجل بالأمور الحياتية كشف إلى حد كبير تعطش المرأة الشرقية للرومانسية.

* السالمي: ثقافتنا ليست هشة!

* ويعتقد الكاتب حماد السالمي، أن المسلسلات المدبلجة لا تشكل خطراً على المجتمعات، سواء كانت محافظة أو غير محافظة، متسائلاً: «كيف نقيس أثر المسلسلات الأجنبية التي كانت تعرض طيلة السنوات السابقة؟، إن العالم ـ كما يضيف ـ يعيش اليوم في قرية كونية، ولا يمكن لأي مجتمع أن يعزل نفسه عن غيره من المجتمعات، فكل مجتمع يملك ما يؤثر به معاً، وهو بالتالي يتأثر بغيره من المجتمعات شاء أم أبى». وهو يرى أن الثقافة السعودية «ليست هشة إلى حد الانسياق وفقدان هويتها في مقابل الآخر»، مبيناً أن «الثقافة الأصيلة هي التي تعرف كيف تتعاطى مع الثقافات الأخرى من دون أن تفقد سمتها أو لونها».