ثقافة التلفزيون .. «تلفزة» الثقافة

رمضان.. موسم الهجرة إلى الدراما التاريخية والاجتماعية

TT

هل يمكن للتلفزيون، وهو الوسيلة التي تلف العالم وتقتحم بيوت الناس، أن يتحول من وسيلة للفرجة والتشويق إلى وسيلة للتثقيف وأن يصبح أميناً على السرد التاريخي؟ وإلى أي مدى يمكن للأعمال الدرامية أن تزيف الوعي أو تشوه الحقيقة، أو في الحد الأدنى تنتج جيلاً من المدمنين على تلفزيون خامل الفكر ومحدود القدرة على الخيال، ومصاب بالكسل العقلي والفكري؟.

في المتوسط، فإن نسبة ما يصرفه الطفل في العالم العربي من وقت أمام شاشة التلفزيون تقترب من أربع ساعات في اليوم، لذلك فالتلفزيون وسيلة الثقافة الأسرع نفوذاً إلى عقل الصغير، لكن في شهر رمضان يصبح التلفزيون الوجبة الأكثر دسماً على المائدة للأسرة العربية، التي تتنقل بين برامجه الدرامية من فضاء لآخر، محققة ما يمكن وصفه بحالة من (الاستلاب) أمام الشاشة الصغيرة.

وفي حين يعتبر باحثون عرب أن التلفزيون أصبح وسيلة التثقيف الوحيدة لملايين المشاهدين، فإنهم يدقون أجراس الخطر كون التلفزيون يقدم ثقافة ضحلة وخالية من العمق المعرفي، وتبعث على الخمول وانعدام الخيال، والكسل العقلي.

وفي حين يتحسر مثقفون من ضحالة الثقافة التي يقدمها التلفزيون، رغم سطوته، فإن آخرين شاركوا في هذا التحقيق يرون أن التلفزيون يمثل جانباً من الثقافة البصرية التي لا غنى عنها وأن الحديث عن تشويه الثقافة ليس سوى تهويل يفترض أن التلفزيون مطلق اليدين للهيمنة على تثقيف المشاهدين، أو أنه يقدم ثقافة لجمهور مغلوب على أمره في ظل انعدام وسائل المنافسة والتعدد التي تتيح للمشاهد حرية في الاختيار وقدرة على التمييز وفضاء للتنوع.

في هذا التحقيق يشارك عدد من المثقفين في الخليج في تحليل ظاهرة الثقافة التلفزيونية.

* كاظم: التلفزيون ثقب أسود

* الأكاديمي البحريني الدكتور نادر كاظم، يقول لـ«الشرق الأوسط»:«أتصور أن هناك افتراضين يمكن تقويضهما بسهولة: الافتراض الأول هو أن التلفزيون أصبح «المثقف الوحيد» في ساحة غاب عنها كل الفاعلين الناشطين في نشر الثقافة بدءاً من المثقف الفعلي وكتاباته إلى المكتبات العامة والمدرسة والجامعة والإنترنت. والحاصل أن كل هؤلاء ما زالوا على قيد الحياة. نعم، تراجع دور المكتبات العامة وانخفض عدد مرتاديها بصورة جلية، إلا أن المثقف ـ الأديب والكاتب والمفكر والفيلسوف والفنان والمؤرخ... الخ ـ باق على قيد الحياة، ومما لا شك فيه أن نسبة ما ينتجه العالم العربي من كتب لا يقارن بحجم ما تنتجه دولة واحدة مثل اسبانيا، إلا أن الصحيح كذلك أن عدد الإصدارات الجديدة يفوق تلك الإصدارات التي صدرت في النصف الأول من القرن العشرين، كما أن سوق الكتاب، وإن كانت تعاني من مشكلات جمّة، إلا أنها في تجدد مستمر. ولا يغيب عن بالنا أن الإنترنت أصبح مصدر المعلومات المتاح والسريع، الذي لا يصمد التلفزيون أمام منافسته من حيث توفير المعلومة وسرعة الحصول عليها. والخلاصة أن كل هذه المصادر موجودة، وأن المغالاة في إضفاء طابع تضخيمي على دور التلفزيون ربما كان صالحاً في الثمانينات إلا أنه اليوم أصبح بمثابة نكتة!.

لا أحد ينكر أن استهلاك الناس للمادة التلفزيونية يتضاعف في شهر رمضان لأسباب عديدة، إلا أننا نتحدث عن 30 يوماً ستنقضي دون أن تخلّف وراءها أي أثر في كثير من الأحيان، ثم من قال إن المشاهد يستهلك المادة التلفزيونية بسلبية كما لو أنه متلهف وينتظر هذه المادة لتشبع جهله أو حاجته للترفيه، كلنا يتذكر أن كتابات كثيرة ظهرت في العام الماضي تدور حول مسلسل الملك فاروق، وكثيرون تحدثوا بأن المسلسل أعاد الاعتبار لحقبة مضيئة كانت ثورة يوليو قد تعمدت إخفاءها، لكن هل تساءل أحدنا اليوم كم من المشاهدين اقتنع بما شاهد؟ وكم منهم صبوا جام غضبهم على ثورة يوليو التي كانت بالنسبة لكثير من الفقراء والمعدمين المصريين بمثابة مشروع إنقاذي؟ الحقيقة أن هذا النوع من الدراسات منعدم إلا أن المتابعة الشخصية تكشف أن كثيرا من التهليل والتهويل الذي دار حول المسلسل سيذهب ـ إن لم يذهب فعلاً ـ أدراج الرياح! والأمر ينطبق على كثير من المسلسلات التاريخية التي تعرض في شهر رمضان، والسبب أن الإعلام يتطلب مادة سريعة الاستهلاك، وسريعة الهضم والذوبان، وكل مادة تأتي تلعن سابقتها، وصدق جان بودريار حين تحدث عن الإعلام بوصفه «ثقباً أسود» يمتص المضامين ويذيبها في ضجيج يضيع فيه المعنى. أما الافتراض الثاني فيقوم على وهم أننا أمام إعلام موحد ينتج مادته بإتقان، ثم يبثها دون منازع من أي مصدر آخر. والحقيقة أن كثيراً من التحليلات النظرية حول وسائل الإعلام كأجهزة لتصنيع الثقافة لا يمكن فهمها إلا في سياق يقوم على وجود جمهور مغلوب على أمره في مواجهة تلفزيون واحد هو التلفزيون الرسمي الذي تديره الدولة. إلا أننا اليوم أمام تنافس مدوخ بين الفضائيات المتنوعة حد التناقض، وهذا التنافس يقوض بصورة كبيرة إمكانيات التأثير التي تفترضها التحليلات السابقة، والسبب أن ما تسعى هذه الفضائية لعرضه للتأثير في الجمهور، ستقوم فضائية أخرى بعرض نقيضه بحيث يقف الاثنان على أرضية يدمر كل منهما الآخر.

العثيم: الدراما الرمضانية

حصيلة الفوضى

وأوضح الناقد والمسرحي السعودي محمد العثيم، ان الدراما البصرية التلفزيونية، سواء كانت دراما أو ثقافة عامة دخلت لثقافة العرب منذ أربعين سنة، ومن الخطأ الذي ارتكب في حقّها أن الثقافة النخبوية تجاهلتها باعتبارها ثقافة خفيفة المحتوى، وبدعوى أن الثقافة العربية هي ثقافة صيغ ثقيلة، بمعنى أن الثقافة البصرية المحملة كوحدة وصول للعقل غير واردة عند كاتب النص الأدبي الّذي يستعمل أو يعتمد الصيغ الجاهزة في طرح الثقافة، لذلك هو غير مؤمن بالسيناريو بشكله البصري.

ويرى العثيم أن المثقف النخبوي فشل في تبني الثقافة البصرية، كما فشل أيضا المسؤول السياسي والإداري في فهم ماهية وكنه الثقافة البصرية المؤثرة بشكل خطير في عقول الأمة وايديولوجيتها.

ويرى العثيم ان الدراما التي تبث الآن في رمضان ليست مشوهة للحدث أو الحقائق أو السيرة، كما أنها ليست محسّنة لها، وإنما هي محصلة واقع الفوضى والارتجال، ولن تغني حاليا ولا مستقبلا المشاهدين لها عن الإطلاع على حقائق الأمور بشكل مكتمل من أمهات الكتب، فلكل ثقافة نخبوية أو شعبية ماهيتها المستقلة في التلقي، لكن يجب النهوض بالثقافة البصرية وعدم تركها للارتجال.

* باقادر: الدراما ليست تاريخا

* الدكتور أبو بكر باقادر وكيل وزارة الثقافة والإعلام للعلاقات الثقافية الدولية، يرى الأمر من زاوية مختلفة، حيث يقول انه يجب أن نصنف الأعمال التلفزيونية بشكل صحيح حتى لا نخلط بين ما هو فني وتاريخي، متسائلاً: هل الاعمال الدرامية المقدمة على الشاشة الصغيرة في رمضان، هي أعمال تاريخية حتى نعاملها كتاريخ ونحاكمها على هذا الأساس، أم هي أعمال فنية إبداعية لها ارتباط ما بالواقع وهذا الواقع قد يكون التاريخ على سبيل المثال، كما في الأعمال التلفزيونية التي تطرح في محطات التلفزة؟

ويضيف:«إذا كانت هذه الأعمال فنية وإبداعية فعلينا النظر إلى زاوية الطرح وطريقة السيناريو والحوار، وهذه يفترض فيها أن تكون مشوقة، وأن تكون لها عقدة لتزيد في تشويق الجمهور، وهو مطلوب فنياً، والمنتج كمبدع له موقف لأنه أراد أن يحسن ويجمل طرفا على حساب طرف آخر أو يزايد شخصية على حساب أخرى، وهذا موجود حتى في كتب التاريخ وليس فقط في الأعمال الفنية التي تتعرض للتاريخ أو تتخذه مادتها الأساسية».

ويشير باقادر إلى أن النقطة المهمة هي كيف يتلقى المشاهد هذه الأعمال، خصوصاً أنها تطرح لجميع المستويات، للمشاهد العادي وللمشاهد القارئ للتاريخ، وكذلك الناقد وغيرهم من المستويات الثقافية في المجتمع. وشرط النجاح في هذه الحالة هو التشويق، والمشاهد هو من سيفرز العمل ويحكم على نجاحه من عدمه، ويبقى لكل فرد من المجتمع أن يأخذ ما يناسبه من هذا العمل الإبداعي، حتى وان كان هناك من سيأخذ هذا العمل الإبداعي مصدراً للمعلومة التاريخية وكتاريخ وليس كعمل فني يحاكي مرحلة تاريخية معينة أو يتصور الوضع في فترة تاريخية ما.

وهو يدعو القائمين على إنتاج الدراما التاريخية أن يأخذوا في الاعتبار مستوى الموضوعية والصدق في الطرح فلا بد أن تكون الوقائع والأحداث صحيحة، ولا حاجة في مثل هذه الأعمال، كما يرى، للجوء إلى شخصيات خيالية تتدخل حتى «تحسن الحبكة الفنية للعمل، وتجذب المشاهد إليه».

ويستطرد قائلاً:«ان كل قائم على عمل فني إبداعي يريد أن يترك انطباعاً ما لدى المتلقي، وهذا متاح للجميع. ولكن يجب أن يفهم المتلقي هذه الرسالة، كما ينبغي عليه أن ينظر للزاوية التي يمرر القائمون على هذا العمل الفني أو ذاك فكرتهم عبرها، حتى لا يقع ضحيتهم في سرد الأحداث أو الوقائع بهذه الصورة ويعتقد أنها هي الحقيقة فقط».

* الحرز: التوظيف الآيديولوجي للتاريخ

* ويقول الناقد السعودي محمد الحرز:«ان الثقافة التلفزيونية هي ثقافة توظيفية، ولها القدرة على توظيف كافة مجالات الحياة، وهي أحد أوجه الثقافة التقنية، التي يمكن أن توجد «أزمة تسطيح ثقافي»، فتجعل من الفرد العادي يتلقى كثيراً من الأفكار في وقت واحد مما ليس له القدرة على تحليله. وتبدو المسألة أكثر وضوحاً في شهر رمضان، حيث تكون كثافة الأعمال الدرامية التلفزيونية، سواء الاجتماعية منها أو التاريخية في أوجها».

ويضيف الحرز:«عندما نربط هذه الكثافة في العروض بنوعية المواد التي يتم عرضها، نجد أن هذه الثقافة موجهة ضمن منظومة وسائل الإعلام، وتوجد أزمة للمتلقي العادي وحتى المتلقي النخبوي، لأنها تعرض ضمن توجهات ايديولوجية معينة، بمعنى أن المعلومة لا تأتي خالصة حتى يتلقاها الفرد ويحللها عن وعي، بعيداً عن الضغوط التي تمارس عليه. فالمعلومة تأتي من خلال ترميز معين، وتقود إلى تلقي المعلومات عبر الطريقة التي يرغب فيها المصدر، وهذا ينطبق على ما تبثه وسائل الإعلام كافة من أعمال درامية أو ثقافية أو حتى اخبارية».

ويشير الحرز إلى أن هذا التوجيه الايديولوجي الذي تنطوي عليه وسائل الإعلام يوقع المتلقي العادي في أزمة بين تنمية ثقافته من خلال ما يتم بثه من معلومات متاحة له بشكل مكثف أكثر من أي وقت سابق، وبين تحليل هذه المعلومات والظروف والطريقة التي تم من خلالها تقديمها له، حتى أن المثقف النخبوي يمكن أن يقع ضحية هذا التوجيه المقصود للطرح من خلال عدد كبير من المؤثرات التي تعمل على إخفاء التوجيه الايديولوجي لتقديم المعلومات.

ويرى الحرز أن المعلومات التاريخية التي يتم تقديمها من خلال الأعمال التاريخية التي تبثها محطات التلفزة، هي نوع من التوظيف الايديولوجي للتاريخ، وهي نوع من التخدير الذي يمارس على المشاهد، فبقدر ما ينظر لهذه الأعمال على أنها نوع من التسلية وتمضية الوقت، فهي في نفس الوقت توجيه أيديولوجي لفكر معين أو موقف معين من الحدث التاريخي الذي يتم التطرق له.

* ربيع: ثقافة تلفزيونية مشوشة

* ويقول الكاتب والناقد السينمائي السعودي خالد ربيع السيد:«إن الدراما التلفزيونية باعتبارها فناً حديثاً قائماً على محاكاة الواقع الراهن أو محاكاة ما حدث في الماضي (التاريخ) أو حتى ما يتم تخيله، خاضعة دائماً لتدخل الفن ورؤية الفنان صاحب العمل في طرح ما يحاكيه بحسب معطياته الخاصة، ووفق ما يريد أن يلفت له الاهتمام، فالفن له منطقه الخاص. من هذا المنطلق تقوم الدراما التلفزيونية التاريخية، على نحو خاص، في تشكيل ثقافة المتلقي وفق وجهة نظر القائم على العمل سواء أكان الكاتب أو المخرج أو معد السيناريو أو كلهم مجتمعين، ناهيك عن الخلفيات الفكرية غير المباشرة المطروحة في ثنايا العمل والمؤثرة في إبراز حقائق بعينها دون الأخرى».

كل ذلك يقودنا الى ثقافة تلفزيونية مشوشة تؤثر على الأجيال الصاعدة وتجعلهم يبنون معتقدات مغلوطة، وربما تقودهم إلى تعصبات ايديولوجية تودي بهم إلى تطرف فكري أو ديني أو اجتماعي. والتساؤل الذي يجب أن يطرح هنا: من الذي تقع عليه مسؤولية تقييم هذه المسلسلات وإجازتها قبل عرضها؟

ثمة آراء تقول بأن المخرجين والمنتجين والمؤلفين وحتى الممثلين يسعون الى ارضاء القنوات الفضائية وتقديم أعمال درامية تتناسب مع إمكانات وأهواء تلك القنوات، ومواصفاتها التي حددتها، بمعنى أنها «أعمال حسب الطلب»، متفقة مع منهجية «الجمهور عايز كده». والسؤال الأهم الذي يجب أن نجد له إجابة شافية هو من المسؤول عن التاريخ؟! المؤرخون أم المنتجون؟!