حركات تحرر المرأة الأميركية.. إلى الوراء سر

هيلاري كلينتون وسارة بولين نموذجان قيد الدرس

TT

بوصول نساء جمهوريات وديمقراطيات إلى مناصب سياسية تقترب كثيراً من الرئاسة الأولى، يعود موضوع تحرر المرأة ليطرح ساخناً في أميركا. وعلى عكس ما يمكن أن يتصور البعض، فليس الخلاف اليوم على إذا ما كانت المرأة قد نالت حقوقها أم لا؟ وإنما بيت القصيد هل بالغت المرأة في انتزاع الحقوق وتطرفت حتى أضرّت المجتمع وجنت على الرجال كما الأطفال؟ وما الذي يتوجب على المرأة أن تراجعه وتتخلى عنه، كي يستعيد المجتمع توازنه الأسري الحميم؟

مع تركيز الأضواء على كل من السيناتور هيلاري كلينتون (التي كادت ان تفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية)، والآن، سارة بولين، حاكمة ولاية الاسكا (ومرشحة الحزب الجمهوري نائبة للسيناتور جون ماكين)، تدخل حركة تحرير المرأة الاميركية مرحلة جديدة. وذلك لأنه يمكن القول ان هيلاري تمثل المرأة الليبرالية التي تؤيد الاجهاض، ومساواة الرجل بالمرأة، وحقوق الشاذين جنسياً والسحاقيات. وتمثل سارة المرأة المحافظة التي تعارض هذه الاشياء. وتتفق السيدتان على حرية المرأة، ورفع الظلم عنها، بدليل انهما وصلتا الى قمة الجهاز السياسي. وبينما تعارض هيلاري فكرة التعليم المنفصل للصبيان عن البنات، لا ترفض سارة تجربة الفصل بين الجنسين.

ولهذا الموضوع صلة بحملة يقودها ليونارد ساكس، طبيب نال دكتوراه في علم النفس، وكتب كتابين أثارا ضجة، الأول:«لماذا الاختلاف بين الرجال والنساء أمر مهم»؟، والثاني «خمسة أسباب لعدم حماس الصبيان للتعليم». والرجل هو مؤسس ومدير «الجمعية الوطنية للتعليم غير المختلط». ويبدو ان جهوده أثمرت، فقبل سنتين، أمر الرئيس بوش وزيرة التربية بوضع برنامج لتجريب التعليم غير المختلط في بعض المدارس الحكومية. وكانت هناك ثلاث مدارس فقط من هذا النوع سنة 1995. والسنة الماضية، وصل العدد إلى أكثر من مائتي مدرسة. وفي فبراير الماضي، قررت مقاطعة قرين (ولاية جورجيا) فصل الاولاد عن البنات في كل مدارسها، وأثار هذا عاصفة زادت من النقاش حول الموضوع.

في نفس الوقت، ظهر نقاش عن سلسلة جديدة لروايات يقرأها المراهقون في الولايات المتحدة، اسمها «تويلايت» (الشفق) تكتبها الاميركية ستيفاني مايار. وهي تشبه سلسلة «هاري بوتر» التي تكتبها البريطانية جي كي رولينج، وصارت أفلاما سينمائية. تبين ان روايات «هاري بوتر» تجذب الصبيان اكثر من البنات (لأن كثيراً منها عن مغامرات ومنافسات)، وتقرأ روايات «تويلايت» البنات أكثر من الأولاد (لأن كثيراً منها عن رومانسيات، وحب عذري، وزهور، وورود). والشهر الماضي، صدر الجزء الرابع من سلسلة «تويلايت»، بيعت حتى الآن، أكثر من عشرة ملايين نسخة، وسيصدر أول فيلم في ديسمبر.

وعلقت د. ايمي كلارك، أستاذة الأدب في جامعة كاليفورنيا ان هذه ظاهرة جديدة: انها روايات هدف البنت فيها الحب ثم الزواج. وسألت، وهي الليبرالية التقدمية:«هل حقيقة نريد من بناتنا ان يقرأن روايات عن بنات ضعيفات لا همّ لهن غير تزيين أنفسهن كلما خرجن من البيت بهدف جذب انتباه الصبيان. ماذا حدث لمائة سنة من حركة تحرر المرأة الاميركية»؟

في الحقيقة، حركة تحرر المرأة الاميركية، والغربية، عمرها أكثر من ذلك.

ربما تعود إلى نهاية القرون المظلمة في أوروبا. في ذلك الوقت كانت المرأة الاوروبية ملكاً لوالدها، ثم لزوجها. وربما صارت الملكة البريطانية اليزابيث الاولى (توفيت سنة 1603) أول رمز لتحرير المرأة الاوروبية، عندما سمحت للمرأة بأن تذهب الى محكمة (بدائية)، وتشتكي من ظلم والدها او زوجها، لها. ثم كتب الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل (توفي سنة 1873) «ثيوري اوف ليبرتي» (نظرية الحرية)، وفيها الاسس الثلاثة للحرية الغربية الحالية:

أولاً: لا يسيطر المجتمع على الفرد. 

ثانيا: حرية الفرد أساس كل الحريات. 

ثالثا: الخط الفاصل هو ألا يؤذي جانب الآخر.

استعمل ميل كلمة «هارم» (أذى)، وهي التي تطورت وصارت، في الوقت الحاضر، تطبق على الأذى المالي (خسارة مالية) والاجتماعي والنفسي، بعد أن كانت تعني الاذى الجسدي (الضرب، الحبس، التجويع، التهديد بالقتل، والقتل).

لكن، مرت مائة سنة حتى اقتنعت المرأة الغربية بأن اشتكاء الرجل لا يكفي، حتى اذا انصفتها الحكومة، وانها لا بد ان تقاسم الرجل سيطرته على الحكومة. هكذا بدأت مطالبة المرأة بحق التصويت والترشح. 

في سنة 1818، سمحت  السويد للنساء ان يصوتن اذا دفعن ضرائب (لكن، لم تكن دافعات الضرائب كثيرات). وفي سنة 1869 سمحت بريطانيا للمرأة بأن تصوت (ولا تترشح) في الانتخابات المحلية فقط. وفي نفس السنة، سمحت ولاية وايومنج الاميركية للمرأة بأن تصوت في انتخابات الولاية. وفي سنة 1896، فعلت نفس الشيء ولاية يوتا. لكن، مرت عشرون سنة، حتى سنة 1920، عندما عدل الكونغرس الدستور الاميركي للسماح بتصويت المرأة في كل الانتخابات الفيدرالية والمحلية. اذا كانت سنة 1920 معلماً مهماً في تاريخ حركة تحرر المرأة الاميركية، فسنة 1964 هي معلم آخر، لأنها شهدت إعلان قوانين الحقوق المدنية، ليس فقط للسود، ولكن للنساء أيضاً. وفي نفس السنة، كتبت بيتي فريدان كتاب «فيمينزم ميستيك» (لغز الانوثة) الذي دعا المرأة لتخرج من البيت، وتعمل في المكاتب والمصانع.

خلال الاربعين سنة الماضية، تطورت حركة تحرر المرأة الاميركية، وتطرفت. وكتبت سوزان براون ان الاختلافات بين الرجل والمرأة ليست طبيعية ولكن ثقافية، وان حركة تحرير المرأة الاميركية يجب ان تنتقل إلى افريقيا والدول العربية والاسلامية والآسيوية لتحرر المرأة هناك، وانها يجب ان تكون ضد الاستعمار والرأسمالية، وضد الرجل ـ بإعلان «الحرب» عليه. وربطت سوزان براون، وغيرها، بين سيطرة الرجل على المرأة والآتي:

اولا: سيطرته على السياسة والاقتصاد وقيادته للحروب والاستغلال.

ثانيا: سيطرته على البيئة، ومسؤوليته عن تدهورها.

ثالثا: سيطرته على المرأة في سرير النوم، لإثبات قدرته على الانتصار عليها.

وهكذا، ظهرت، كجزء من حركة تحرير المرأة، «الحركة الجنسية الايجابية» التي تقول ان المرأة يجب ألا تقل عن الرجل في الاستمتاع بالجنس واللذة، وان الرجل يجب ألا ينظر إلى المراة نظرة مثيرة وجنسية، وان المرأة يجب ألا تعرض نفسها لإثارة الرجل جنسياً لأن ذلك يسيئ إلى بنات جنسها.

بعد ثلاثين سنة، وفي سنة 1994، عندما أثبت مكتب الاحصاء ان ستين في المائة من النساء يعملن خارج البيت، وان نصفهن عندهن أولاد في مرحلة التربية والدراسة، دقت بعض النساء جرس الخطر! 

كتبت كرستينا سومرز كتاب «من سرق الانوثة؟ كيف خانت النساء النساء»؟ وفي وقت لاحق، كتبت كتاب «كيف أثرت الحركة النسوية الخاطئة في أولادنا»؟ وكانت كرستينا أستاذة في جامعة كلارك (ولاية ماساشوستس)، وهي الآن خبيرة في معهد «اميركان انتربرايز» في واشنطن العاصمة. تتلخص آراؤها عن المرأة في الآتي:

اولا: انها جزء من الطبيعة، قبل ان تكون أماً وموظفة وسياسية ومهندسة. 

ثانيا: هويتها ليست في جنسها وإثارتها، ولكن في تفكيرها وحريتها. 

ثالثا: تختار ما تريد، ويجب ألا يكون اختيارها مثل اختيار الرجال. وانتقدت كرستينا سومرز قائدات حركة تحرر المرأة، وقالت انهن تطرفن:

اولا: حوّل الحركة لتكون ضد الرجال، أو على الأقل، لتكون منافسة للرجال، ويجب ألا تكون كذلك، لأن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست منافسة، ولكن مكملة.

ثانيا: خلطن بين أن المرأة تختلف عن الرجل في الطبيعة وانها تريد ان تكون متساوية معه في الحقوق والواجبات.

ثالثا: رفضن فتح صفحة جديدة في العلاقة مع الرجل، وظللن يتذكرن سنوات الاضطهاد، وتقريع الرجل ليشعر بالذنب.

وفي سنة 2003، كتبت سوزان فالودي كتاب «الحرب غير المعلنة ضد نساء اميركا». قالت فيه ان قائدات حركة تحرير المرأة المتطرفات، وبمساعدة الاعلام، حولن الحركة الى عدو للرجل وعدو للرأسمالية وعدو للدين والعائلة، وانهن يردن «انثوية انفصالية»، فيها بنوك خاصة للنساء، وشركات خاصة للنساء، وأحزاب خاصة للنساء.

وانضم إلى الحملة د. ليونارد ساكس، قائد دعوة فصل الصبيان عن البنات في المدارس. وخالفت أبحاثه ما كان قد نشره أطباء وخبراء في ذلك الوقت، بأن الفرق بين الولد والبنت يعتمد على تربية الوالدين، ومقررات المدرسة، وميول المجتمع. وقال ساكس:«الاختلاف بين الجنسين طبيعي ويلحظ منذ الولادة، وخلال العشرين سنة الاخيرة، صار مؤكداً ان الاختلاف بين الولد والبنت أكبر مما كنا نعرف، وأكثر أثراً مما كنا نتوقع، وان الاعتراف بالاختلاف الطبيعي هو الأهم في تربية، وتعليم البنات والاولاد». وأضاف:«أثبتت الأبحاث الطبية ان أموراً مثل: التربية، والتعليم، وإطاعة القوانين، وتنفيذ الأوامر، والالتزام بالتعهدات، والانتظام في المجموعات، والمغامرة، والعدوان، والعنف، وشرب الخمر، وتعاطي المخدرات، وممارسة الجنس تختلف بين الولد والبنت». وقال ان الابحاث التي اجراها اوضحت ان الاختلاف بين الولد والبنت يبدأ يوم الولادة. ويتركز على حاستين:

أولا: النظر حيث يتفوق الولد على البنت.

ثانيا: السمع حيث تتفوق البنت على الولد. 

 بمجرد خروجه من رحم أمه، يفتح الولد عينيه لفترة أطول، وبتركيز أكبر. ومن جانب آخر، تركز البنت على الاستماع إلى ما حولها، خاصة أول كلمات تسمعها من الأطباء والممرضات وأمها. وفي بحث على مائة طفل صورهم ساكس بفيديو يوم ولادتهم، بعد أن وضع أمام كل واحد منهم لعبة كهربائية تتحرك، ووجه امرأة صامتة، لاحظ أن الصبيان انتبهوا أكثر إلى اللعبة التي تتحرك، وان البنات انتبهن أكثر الى الوجه الهادىء الصامت. ثم أجرى بحثاً آخر، أظهر ان المولودة الجديدة انتبهت أكثر إلى أغاني الاطفال الهادئة، مثل «تونكل تونكل ليتل ستار»، والمولود الذكر انتبه أكثر إلى قطعة موسيقية كلاسيكية صاخبة من الالماني فاكنر.

وقال ساكس ان الاختلاف في السمع يقود إلى الاختلاف في الحديث: حديث البنت هادئ لأنها تستمع بهدوء، وحديث الولد عالٍ لأنه لا يجيد السمع مثلها. وذكر قصصاً مرت به خلال عمله في عيادته النفسية، منها:

اولا: اشتكى آباء ان بناتهم اشتكين لهم انهم يتكلمون بصوت عال معهن (وفي خشونة، ومن دون تلطف).

ثانيا: قال اولاد انهم يفضلون سؤال امهاتهم، اكثر من آبائهم، لأن الامهات اكثر انصاتاً وانتباهاً. وقال انه، مع زيادة الأبحاث عن المخ وطريقة عمله، صار واضحاً ان الجزء الذي يسمى «اميجدالا» هو مركز العواطف، وانه أقوى عند المرأة عنه عند الرجل. وهو ينمو في مخ البنت قبل نموه في مخ الولد. والولد، خلال مرحلة المراهقة، لا يستطيع التعبير عن عواطفه مثل البنت، وحتى خلال بقية حياته، ولكن بصورة اقل.

وقال ان التلميذ في الصف يفضل مقعداً بعيداً عن عيني المدرس او المدرسة، بينما تفضل التلميذة مقعداً أقرب، والتلميذ يفضل النظر عن بعد إلى المدرس او المدرسة، بينما تفضل التلميذة الاستماع الى كل كلمة يقولها الأستاذ، والتلميذ يصغي اكثر للمدرس منه للمدرسة،  بينما تفضل التلميذه المدرسة على المدرس.

واخيراً: خلال الحملة الانتخابية الحالية، صارت هيلاري كلينتون (التي كادت أن تفوز بترشيح حزبها)، وسارة بولين (التي رشحها حزبها) رمزاً لهذا النقاش حول مستقبل حركة تحرير المراة الاميركية. طبعا، تتفق السيدتان على حرية المرأة ورفع الظلم عنها، بدليل انهما وصلتا إلى قمة النظام السياسي. لكن، الاولى ليبرالية تقدمية، تؤيد الإجهاض وحقوق الشاذين جنسياً والسحاقيات، والثانية محافظة متدينة، تعارض ذلك. لهذا، لا بد ان السيدتين ستؤثران في هذا النقاش تاثيراً واضحاً.