المعنى المستتر لمسيرة التاريخ الإنساني

مختارات معربة لأهم فلاسفة التاريخ في العالم الغربي

TT

المعرفة التاريخية مجال متشعب، تتناطح في داخله نظريات مختلفة الأطروحات والمواقف. فالتاريخ بوصفه مادة للعلم لم يسلم بحكم نسبية المعرفة المتراكمة حوله من محو وإعادة كتابة ومقاربات جديدة. إن نظريات مؤرخي الأمس ليست متماهية مع فلسفات التاريخ المعاصرة والحديثة الشيء الذي يعمق الحيرة المعرفية التاريخية ويجعلها لا ترتكن إلى مستقر دائم الاعتماد، وأبدي الاطمئنان لمضامينه ومبادئه.

فما هي إشكاليات كتابة التاريخ اليوم وما خطورة الدّور المنوط على عاتق المؤرخ الحالي، خصوصا أن التاريخ نفسه توسعت وتشعبت وتعقدت ماهيات الأطراف المنتجة لأحداثه ولمساراته. بل إن الأسئلة التي تطرحها مدرسة «ما بعد الحداثة»، تعود بنا إلى نقطة الصفر في مجال المعرفة التاريخية، حيث تضع استفهامات مبدئية تدور حول مدى «علمية التاريخ» وفائدته وما إذا كان التاريخ الإنساني تحدوه غايات معينة.

في هذا السياق المعرفي المحيّر، أوكل المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» إلى فريق من الأساتذة الجامعيين بإشراف الدكتور الهادي التيمومي تعريب عدد من الأبحاث والدراسات المتعلقة بفلسفات التاريخ ونظريات المعرفة التاريخية في الحقبة المعاصرة أي في النصف الثاني من القرن العشرين. فكان نتاج الفريق العلمي الذي خُصص للبحث والتعريب، تأليفا من الحجم الضخم (775 صفحة) تضمن مختارات معربة لأهم فلاسفة التاريخ في العالم الغربي وهم كل من هنري ايريني مارّو، ريمون آرون، كارل بوبر، ليفي شتراوس، أرنولد توينبي، فرنان برودال، ميشيل فوكو، لويز ألتسير، موريس قودولياي، جاك تكسي، فرنسيس فوكوياما، وصموييل هنتنغتون. ويشير الدكتور الهادي التيمومي في مقدمته المطولة إلى أن الكثير من المؤرخين لا يزالون متشبثين بنظريات المعرفة القديمة وهي نظريات الوضعية والماركسية والتاريخانية والفرويدية والبنيوية، ولا يزال أيضا لفلسفات التاريخ بعض المغرمين رغم تقلص الشغف بهذه الفلسفات مقارنة بالقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

ويبين التيمومي في المحور المخصص لفلسفات التاريخ أن هذه الأخيرة عرفت أوجها في القرن التاسع عشر (كانط، هيغل)، وكانت آنذاك فلسفات متفائلة نظرا إلى طبيعة العصر وهو عصر العلم الظافر والتكنولوجيا والوضعية، لكن الشغف بفلسفات التاريخ ضعف كثيرا في القرن العشرين، وأصبح الاتجاه هو التركيز على تحليل قضية المعرفة التاريخية وشروطها ووسائلها وحدودها، وفضل أغلب المؤرخين القيام بأبحاث محددة في الزمان والمكان، لكن متميزة بأكثر دقة وبأكثر موضوعية، على الانكباب على مسائل شائكة وشديدة التعقيد مثل المعنى المستتر لمسيرة التاريخ الإنساني.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت كذلك بعض فلسفات التاريخ، وكانت أقل تشاؤما وإن لم تكن مغرقة في التفاؤل، وهذه الفلسفات انعكاس لما شهدته المعارف التاريخية من تطور والتفكير الفلسفي من تعمق. وتحمل بعض هذه الفلسفات بصمات «العولمة» التي حولت العالم إلى «قرية كونية» بفضل ثورة الاتصال والمعلومات، كما تمثل بعض هذه الفلسفات إفرازا لتنامي النزعة الإمبراطورية للولايات المتحدة الأميركية ولانتصار قيم العالم الغربي مثل الرأسمالية والديمقراطية، وذلك غداة انهيار الاشتراكية بالاتحاد السوفياتي والبلدان الحليفة له في بداية تسعينات القرن العشرين.

أما بالنسبة إلى تيارات علم التاريخ اليوم، فإن الكتاب يقر بأن الساحة البحثية التاريخية في العالم الغربي لم تعد خاضعة لهيمنة لون فكري واحد، إنّما إلى عدّة اتجاهات وتيارات. ويمكن الحديث عن تشظي عالم المؤرخين إلى عدد يصعب حصره من الاتجاهات منها ما هو جديد ومنها ما هو قديم ومنها ما هو قديم وقع تجديده. ورغم أن عددا لا يستهان به من المؤرخين لا يزالون متشبثين بالوضعية والماركسية والبنيوية والتاريخانية، فإن أنظار فريق آخر أصبحت متجهة نحو آيديولوجية عصر «العولمة» وهي آيديولوجية «ما بعد الحداثة» التي بدأت في الانتشار في أواسط المؤرخين خاصة منهج الانجلو ـ ساكسونيين، بداية من سبعينات القرن العشرين. وقد مهدّ لهذه الآيديولوجية كل من نيتشه (نظريّة موت الله) وهيدغار (نقده للحداثة) وهابرماس (نقده للعقلانية المعاصرة) وويتغنشتاين (نقده للغة الفلسفية). وقد قامت هذه الآيديولوجية ما بعد الحداثوية على نقد «السرديات الكبرى» أي مقولات الحداثة وعصر الأنوار كالعقل والحرية والتقدم والسعادة، وهي المقولات، التي لم تحل حسب أنصار هذه الآيديولوجية الجديدة من دون ظهور الاستعمار والإبادة العرقية والأنظمة السياسية الكليانية القمعية، كما يرفض أنصار هذه الآيديولوجية أي تفكير فلسفي يقيني لأن البحث عن اليقين في نظرهم ضلالة وأهل الضلالة لا يمكن إلاّ أن يمهدوا الطريق للأنظمة الاستبدادية، أحبوا ذلك أم كرهوا.

والمتأمل لإنجازات المفكرين والمؤرخين الغربيين في النصف الثاني من القرن العشرين حول المعرفة التاريخية أو حول معنى التاريخ الإنساني ككل، يكتشف توقا إلى التجديد وشغفا بالبحث العلمي ونزوعا إلى ترك السّبل المطروقة وإلى المساءلة الدائمة. ولا جدال في أن مهمة المؤرخ ـ إذا ما أراد الرقي بصناعته وتعزيز فاعليتها ـ صعبة المراس لأنه مطالب بأن يتجاوز علم التاريخ بالمفهوم الضيق للكلمة، وأن يكون له إلمام بالعلوم المعاضدة أو «المتاخمة» للتاريخ مثل علم الاقتصاد أو الفلسفة أو علم النفس أو علم الاجتماع.. كما هو مدعو للتصالح النهائي مع الابستمولوجيا واعتبارها ضرورة حياتية بالنسبة إليه، خاصة والحقيقة «المرّة» ماثلة أمام عينيه، وهي أن أغلب الذين طوروا علم التاريخ لم يكونوا مؤرخين بالمعنى الضيق للكلمة (مثل دلتاي وماركس وفرويد وفوكو...) إنّما كانوا مفكرين يجمعون بين علم التاريخ واختصاصات أخرى.

في المقاطع التي قام بتعريبها الدكتور محمد بن حمودة، نجد أن ليفي شتراوس قد ضمّن كتابه الشهير «العرق والتاريخ» رهانا قوامه إدخال التعدّد على مفهوم التاريخ. وفي سياق تحليله لفكرة التقدم، يشير شتراوس إلى أن درجات التقدم التي أنجزتها البشرية منذ بداياتها وإلى اليوم هي من الجلاء والسطوع بحيث تغدو كل محاولة للتشكيك فيها ضربا من الخور الخطابي.

ولتحليل فكرته هذه، يلجأ شتراوس إلى المجاز واستعارة صور تبلغ المعنى المقصود إذ يقول: وهذا يعني شيئين اثنين: أن «التقدم» لا يتّسم لا بالضرورة ولا بالاتصال. فهو يتعاطى مع القفزات والوثبات، أو كما يقول البيولوجيون، الطفرات. ولا تستمد تلك القفزات والوثبات قوامها من قدرة على المضيّ أبعد في نفس الاتجاه الأول، بل يعقبها دائما تغيّر في الاتجاه، تماما كما يجري عليه الأمر مع الحصان في لعبة الشطرنج، حيث إنه من المتاح له أن ينجز عدّة تقدّمات مرة واحدة، لكن لا ينبغي أن تكون في نفس الاتجاه. فالإنسانية في تقدمها لا تشبه البتة شخصا يتسلّق بحيث يضيف مع كل درجة يرقاها إنجازا يضاف للمكاسب التي حصلت له. بل يذكرنا تقدم الإنسانية بالمقامر الذي ترتهن حظوظه بحاصل رميات عدة قطع من النرد والتي كلّما رماها إلاّ وتناثرت أمامه على طاولة القمار مكرّسة لمحصلات متباينة.

وينفي شتراوس في المقاطع المعرّبة من تأليفه «العرق والتاريخ» وجود مجتمع تراكمي بذاته ولذاته، مبرزا أن التاريخ التراكمي ليس سمة تختص بها بعض الأعراق أو الثقافات، فتتميّز على أساسها عن الثقافات الأخرى، إنه يتولّد عن سلوكها لا عن طبيعتها. وهو التعبير عن نمط وجودي تتوخّاه الثقافات من أجل العيش المشترك. في هذا الاتجاه، يمكن القول إن التاريخ التراكمي هو الشكل التاريخي الذي تعتمده الأجسام الاجتماعية العظمى التي تصطنعها الجماعات المجتمعية، في حين أن التاريخ التراوحي هو ـ في حال وجوده ـ العلامة المميزة لذلك النوع الأدنى من الحياة التي تحياها المجتمعات المتوحّدة.

فمجموعة بشرية ما، لا تواجه نهاية مصيرها ولا تجد نفسها مصابة بعورة لا شفاء منها، بحيث تمنعها من التفرغ لتحقيق الإمكانات الكامنة في طبيعتها إلاّ إذا تحتّم عليها أن تكون وحيدة.

إن توقفنا في هذا العرض عند النسق الفكري الذي اتبعه لفي شتراوس لطرح فكرة التقدم وتحليلها، لا يعني البتة أن المختارات المعرّبة التي يزخر بها الكتاب لا تستحق التوقف. بل غايتنا أن نوفر لأطروحة فلسفية تاريخية بعينها حقها في استعراض جوهر نظريتها. ذلك أن محاولة الإلمام بأطروحات هنري ايريني وريمون آرون وكارل بوبر في خصوص مقاربتهم للتاريخانية مثلا يستدعي حيزا أكبر مما نتصور، خصوصا أن الأساتذة المعربين قد وفقوا في نقل مختاراتهم بكل دقة وأمانة علميتين (المعربون هم: صالح مصباح، مصطفى اللطيفي، محمد بن حمودة، فتحي ليسير، فرج معتوق، نور الدين الشابي، حميد بن عزيزة، الهادي التيمومي، حفناوي عمايرية، صالح مصباح، والمنصف وناس).

إن العمل الجماعي الهائل كمّا وجهدا، رغم محاولته الإلمام بنظريات المعرفة التاريخية وفلسفات التاريخ في العالم الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنه يثير فضول القارئ للعودة إلى النصوص في صورتها الكاملة وحتى في لغتها الأصلية، وهو أقصى ما يمكن أن يسجله إصدار مماثل، أي أن يكون وثيقة وفي نفس الوقت يفتح الباب لقراءة كتب أخرى قصد مزيد التعمق.