لماذا يسيطر الغرب على العالم منذ 5 قرون؟

كتاب لبناني عن «المحركات الذهنية الراسخة» عند الأفراد والمؤسسات

TT

ما هي مرتكزات سيطرة الغرب على العالم أجمع منذ ما يقارب خمسة قرون؟ ولماذا فشلت تجارب السيطرة الأخرى التي عاشتها أقاليم جيو ـ سياسية أخرى؟.

قدّم عدد من المفكرين إجابات متنوعة ومختلفة عن هذه الأسئلة، في العالم العربي وخارجه، خاصة في الحقل السياسي والاقتصادي والثقافي. لكن الدكتور فريدريك معتوق اعتمد في دراسته لتقديم إجابة معرفية على علم الاجتماع المعرفي لكشف المرتكزات الأساسية البالغة الأهمية والخفية التي أتاحت لهذه السيطرة أن تكون وأن تستمر.

لا يمكن التقاط وتحليل أسباب هذه الظاهرة دون فهم المحركات الذهنية الراسخة في الغرب في الأفراد والمؤسسات. وأتاح تنسيق هذه المحركات وتطويرها بشكل دائم ومنهجي مواصلة السيطرة الثابتة والمتواصلة لقرون عدّة.

ينفي الدكتور معتوق وجود اختلاف في طبيعة البنى الذهنية بين الغرب وبقية شعوب الأرض الأخرى. لكنه يؤكد على اختلاف في تحريك وتفعيل عناصر هذه البنية، الموجودة أصلاً عند الجميع.

كما يفضي التحليل إلى التوقف عند مرتكزات هذا التحريك المعرفي الذي من المفترض أن يثير فينا الحشرية العلمية. فتماماً كما الغرب يعرفنا، علينا نحن أيضاً أن نتعرّف عليه، لنتمكن من بناء حوار إيجابي معه من منظور مفاهيمنا ومفاهيمه.

فقد استطاعت المحركات الذهنية الغربية، لارتباطها بعقل الإنسان المنتج للأحكام والأفكار والتصورات، لا بغريزته التي تحركها المشاعر والانفعالات والعواطف، أن تضيف المعرفة وتراكمها في تناول الموضوعات وتحليلها واستثمار نتائجها.

يقول ماكس فيبر:«ان العلاقة بين المسيطِر بالمسيطَر عليه تتضمن حداً أدنى من الطاعة الطوعية، وبالتالي من المصلحة في الرضوخ للسيطرة»، كما يشير إلى أن السيطرات ليست دوماً من أجل أهداف اقتصادية، علماً أن قاسمها المشترك هو محافظتها على طابع شرعي ما تتستّر به لديمومة مشاريعها والسيطرة.

يرى المؤلف أن أولى مرتكزات السيطرة الغربية تتمثل في "الهيمنة" كطاقة حيوية أساسية. فمفهوم الغرب للهيمنة تأسس عبر التحالف المضطرب ولكن الفعلي بين قوتين عظيمتين، البريطانية والفرنسية، ما وراء البحار، اعتباراً من القرن الثامن عشر. وشهدنا مذاك خطة عمل جديدة ومختلفة قضت إلى القيام بعمل واحد مع تعدّد في مصدر القرار. فالكتلة الغربية التي تعيش ظاهرياً تناقضات كبيرة، بنت مشروعها الاستعماري في مساحة تقع ما بعد تناقضاتها، بغية السيطرة على العالم بأسره. وهذه الهيمنة المنسقة، دفعت بالشعوب الواقعة ضمن دائرة أطماعها إلى إدراكها على أساس أنَّها هيمنة حضارية. وأسياد العالم الحديث الذين ينتمون إلى عصر ما بعد الرأسمالية، يطرحون أنفسهم على أساس إنهم متفوقون وحملة رسالة حضارية. فالآخر الغربي يستقدم مع جيوشه تجارته وأساتذته وخبراءه وسلعه كافة، ويسعى مباشرة إلى اعتماد نماذجه السلوكية ومعاييره القيمية غير آبه بثقافة المجتمع المختلف الذي يقيم بينه، مكتفياً بإشعار محيطه بأنه أفضل وأرقى. وكي تصح معادلة السيطرة المعنوية هذه ينبغي أن يشعر غير الغربي بأن ثقافته أدنى شأناً، فيحجب ضمناً عنه إمكانية التساوي به. فالغرب يعتبر أنه على من يتعامل معهم أن يذوبوا في نماذجه وأن يبقوا بعيداً عنها في ما يشبه التخلف. فنموذج حقوق الإنسان الذي تمخضت عنه الثورة الفرنسية، كما النماذج الثقافية الكلاسيكية التي وضعت أسسها حركة النهضة، وتنظيم وعقلنة العمل مع الثورة التكنولوجية والصناعية وغيرها من الإنجازات لا ينقلها معه الغربي إلى البلدان التي يسيطر عليها لأنه يستند إلى منطق الهيمنة لا إلى المنطق السياسي الذي يعمل على أساسه ضمن دائرته الخاصة.

يرى المؤلف أن الفارق بين المشاريع التوسعية غير الغربية، كاليابانية والعثمانية والروسية، ظلّت إقليمية، في حين أن الهيمنة الغربية بلورت مفهوم الاستراتيجيا، حيث أضحت هذه الكلمة تعني في المنظومة الفكرية الغربية كيفيّة التحرّك على خريطة العالم، والإلمام بمتابعة المصالح بعيدة المدى على مستوى الكوكب برمته.

الكلمة المفتاح لمحرّك الهيمنة عند الغربي اليوم هي العولمة. فهي البديل المعاصر لمشروعه التاريخي الاستراتيجي. وتحمل العولمة في جوهرها جميع معاني فكرة الهيمنة التي حاكها الغرب بعد أن تخلّى إرادياً عن فكرة الاستعمار من منتصف القرن العشرين. فهي قادرة على بلوغ أقاصي الأرض، في القطب الشمالي كما في قلب أدغال الأمازون، في قلب الصحاري كما في الجزر النائية.

ويسهم تهجير الأدمغة في توسيع مشروع العولمة، بحيث إن كل عالم أو مهني أو مثقف يلتحق بالغرب يضحى بعد فترة أفضل مرشدا لتصويب تطبيقات العولمة عبر العالم بموضعتها موضعة محلية مناسبة. فيزداد بذلك نفاد بلدان الجنوب، التي تقع بين فكيّ كماشة الغرب المؤلفة من أدمغته ومن الأدمغة الوافدة إليه على حدّ سواء.

هكذا يغدو اجتياح الجنوب اجتياحاً ممنهجاً ومدروساً أفقياً. فالسلع التي ينتجها الغرب بغية تصديرها إلى هذا القسم من العالم سلع تتفق مع الأذواق المحلية. إن شركة «نستله» السويسرية العالمية، على سبيل المثال، تصدّر بسكويتاً مختلف المذاق إلى كل بقعة من العالم، آخذة بنظر الاعتبار الأذواق المحلية واعتيادها على هذا النوع من القمح أو ذاك، على هذا النوع من الأرز أو ذاك. من هنا تتبدّى لنا ضرورة أن نعير انتباهاً كبيراً للطابع العمودي لاختراق العولمة، الذي يتزامن مع طابع أفقي يقوم على الإقناع، فالبندقية والكمنجا يعزفان معزوفة مشتركة واحدة.

من مرتكزات السيطرة الغربية، مفهوم «المجادلة السياسية» «البوليميك» Polemique بالفرنسية المشتق كما في الانجليزية من الكلمة الإغريقية Polemos التي تعني الحرب. وأعطيت الكلمة مفهوماً اصطلاحياً بمعنى: المخاض السياسي العنيف حول شؤون تهم الطابع العام. والواقع أنه يعني الانفتاح الذهني على رأي الخصم، على الرغم من مقارعته العنيفة لدى الاصطدام العلني والعام به. وبالتالي تعني الجدل الخلاّق الذي يصبو من يدخل في مساره إلى نتيجة مختلفة جدلياً عن تلك التي انطلق منها. وفي نهاية الجدل هناك منتصر، لكنَّ المنتصَر عليهم لا يشعرون بأنهم مهزومون، بل يدخلون في معادلة جديدة مفتوحة وكأنهم منتصرون.

بهذا المعنى يشكل «البوليميك» استثمار السياسي في الحقل الاجتماعي، وقد تمكّن الغرب من خلال اعتماده للبوليميك من حلّ المشكلة العظمى التي تتخبط فيها معظم بلدان العالم الثالث التي يؤدي فيها الصراع السياسي إلى حروب أهلية داخلية متعددة الأشكال، نظراً لعدم إرساء الخلاف السياسي على قاعدة المصلحة الاجتماعية العامّة.

تستكمل «المعرفة»، كمحرك ذهني، في المجال الثقافي ما تفعله الهيمنة والمجادلة السياسية في المجالين الاجتماعي والسياسي. ذلك أنه يستحيل أن نرسي مشروع هيمنة دون قاعدة معلومات ومعارف. والمعرفة المطروحة في السياق الغربي الحديث تأتي كمخزون ومهارة وشبكة لفهم المعلومات الجديدة الوافدة، الأمر الذي يعطي للمعرفة طاقة حيوية، وطابعاً بانياً ومبنياً على حد سواء.

يتعامل الفرد في الغرب مع المعرفة بشكل توليدي فوّار، في حين أن الفرد في المجتمعات الأخرى يتعامل مع المعرفة بشكل نقلي. فالطرف الأول يميل إلى «تثمير» المعرفة بتجديدها على الدوام، في حين يميل الثاني إلى تكرار المعلومات ولو في حلّة جديدة.

وتكمن ميزة المعرفة في الغرب اليوم في أن وظيفتها لا تقتصر على نفسها وعلى المجال الثقافي، بل تتخطّى ذلك لتهتم بالشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فالمطلوب من المعرفة أن تعزّز المنافسة، الأمر الذي يضعها باستمرار أمام تحدي تجاوز مكتسباتها. فللهيمنة على العالم شرط، هو الاعتماد على الاستيعاب المعيد لإنتاج مكتسبات المعرفة. وبالتالي يخضع الغربي المعرفة للمعرفة، فيعيد إنتاجها على نحو مختلف، متعاملاً معها وظيفياً.

فالاختراعات الميكانيكية والتكنولوجية والكهربائية والإلكترونية والمعلوماتية تعتبر كلّها في الغرب أسرار دولة، وتخضع للمراقبة شأنها شأن الاختراعات الذرية والنووية. غير أنَّه نظراً لأن العقلانية الغربية مبنية على المرونة، فإن الاختراعات بعد استنفادها عسكرياً وتخطيها علمياً، تُعرض للاستثمارات في المجالات التسويقية والتجارية، دون أن يعني ذلك تخلّي الجهات العسكرية عن الأبحاث والعلوم الجديدة التي تبصر النور سنوياً تقريباً في الغرب.

ومن الركائز التي يعتبرها المؤلف أساسية في السيطرة الغربية، «التنظيم الاجتماعي»، والتنسيق المناسب لعناصر مجموعة ما، بهدف تأمين حسن العمل في ما بينها. يقوم هذا التنظيم على سيادة الفرد الذي باتت الحرية تنشأ عنده كاملة بمجرد أن يولد مواطناً، وسيادة الفرد تقولب مفهوم التنظيم الاجتماعي وتمنحه الصلابة الداخلية، مما يؤدي إلى سيادة المجتمع على نفسه، من خلال دمج مصلحة المواطن ومصلحة الدولة الخاضعَتيْن للقانون، ممّا يشترط ابتعاداً قاسياً عن ذاتية السلطة التي لم تعد خاضعة لمشيئة المتربع في السلطة نفسه، بل خاضعة لشرائع سنّها ونظمها سواه، كما عدّلت ركيزة «الربح» من ارتباط السياسي بالاجتماعي، فمصير الإنسان الذي كان مرتبطاً بمنشئه الاجتماعي أضحى مرتبطاً بعمله. فانتشرت في الغرب مفاهيم جديدة مثل: القيمة الاجتماعية للعمل، ومفهوم الدولة الراعية. وارتبطت فكرة الربح بفكرة التقدم الاقتصادي والاجتماعي على حدّ سواء، لأن الثروة لم تتحوّل في الأنموذج الغربي إلى مفهوم وطني وعام بشكل طبيعي، بل بشكل إرادي وسياسي. ومن هنا التمسك بالاقتصاد كشأن عام، وكجزء من شخصية الغربي الأساسية.

ترك محرِّك التنظيم الغربي بصماته عميقاً في البلدان المستعمَرَة بعدما تم استثماره في مشاريع تحولت إلى بنى تحتية ملزمة لهذه البلدان، كما تحولت إلى تقاليد إدارية ثابتة. ويلعب اليوم الاستثمار في عمق النسيج الاجتماعي والاقتصادي دوراً مساعداً للغرب دون أن يصرّح عن نفسه. فنظم التعليم والإدارة والتفكير في العالم الثالث غربية الطابع تعود لقرنين ماضيين، وهي المساهم الأول في سيطرة الغرب على الجنوب، كما يرى الكاتب.