معضلات التعددية والطائفية تخرج من السرّ إلى دائرة العلن

المسلسلات السورية تقتحم دائرة المحظور

عباس النوري وسلّوم حداد في مسلسل «لست سراباً» («الشرق الاوسط»)
TT

قبل عقد تقريباً، بالكاد كنا نلمح إشارة دينية في المسلسلات الدرامية السورية أو البرامج التلفزيونية، وعدا موضوع الزواج والطلاق أو الأسماء الإسلامية للشخصيات، لم يكن في المسلسلات ما يشير إلى الانتماء الديني للشخصيات. واقتصر التطرق إلى الانتماء الديني في التلفزيون الرسمي على برامج قليلة، كنقل صلاة ليلة القدر، أو الاحتفال بالمولد النبوي. كما كانت نشرات الأخبار تقتصد في ذكر احتفالات الأعياد وتكتفي بأخبار عن مشاركة رئيس الجمهورية في الصلاة، أو إرسال مندوب عنه لتهنئة الطوائف غير الإسلامية في أعيادها. واعتاد الإعلام السوري الرسمي على التعامل بحذر مع الأديان، في تعبير عن علمانية حزب «البعث العربي الاشتراكي»، الحزب الحاكم في سورية منذ نحو أربعة عقود. فما الذي تغير اليوم؟ ولماذا بات الكلام على التعددية الدينية موضوعاً للمسلسلات السورية؟

مع انتشار الفضائيات في العالم العربي والولوج في الألفية الثالثة على وقع الحرب على الإرهاب ومن ثم الحرب على العراق وما تلاها من أزمة في لبنان وبروز مصطلحات الصراع الديني وملحقاته من تعابير الفرز الطائفي والفئوي (سني ـ شيعي ـ علوي ـ مسلم ـ مسيحي) كل ذلك فرض نفسه كتحديات صعبة، ليعاد النظر في منظومة الخطاب الثقافي السوري الذي ساد لعقود طويلة، وتجنب الخوض في موضوع الأديان الذي اعتبر من المحرمات الاجتماعية والسلطوية. وظهر أخيراً موضوع الطائفية والتطرف الديني، بوضوح في الإنتاج الدرامي ونصوص المسلسلات التي كان لها قصب السبق في التجرؤ على طرح هذه القضايا. جاء هذا الطرح خجولاً وموارباً في البداية، ثم حلّ زلزال سقوط بغداد ليشجع على الخوض في الموضوع الديني، إذ لم تعد حماية الوحدة الوطنية التي تفاخر بها سورية ممكنة من خلال طمس الموزاييك التعددي، وإن كان هذا الأسلوب قد نجح في العقود الماضية في كبت المشاعر الطائفية ومنع تداعياتها السلبية على الاستقرار والأمن. علما أن هذا النجاح ساعد على تحقيقه احتكار الإعلام، وعدم وجود فضائيات وغياب وسائل اتصال كالانترنت، لكن ضمن الواقع الجديد الذي فرض نفسه بعد عام 2000 لم تتغير المعطيات فقط، وإنما أدوات التعاطي معها. فالانفتاح صار مفروضاً رغم ما ينطوي عليه من مغامرة في مجتمع لا يمكن التكهن بما يمور داخله بعد كل تلك العقود من الانغلاق، ليكون الحل بانفتاح المقنن أو الموارب. ظهرت مسلسلات درامية بعد احتلال بغداد أشارت إلى وجود التيار السلفي ضمن نسيج اجتماعي متعدد الأديان والتيارات الفكرية، كما ظهرت في مسلسل «ذكريات الزمن القادم» طالبات محجبات يسكُنَّ في بيت واحد مع طالبات مسيحيات، وتعرض العمل إلى شباب يذهبون إلى الجهاد في العراق، هذا غير قصة حب بين فتاة مسيحية وشاب مسلم، وكذلك شاب منقاد إلى ظاهرة عبدة الشيطان، وتفكك أسري دفع الفتاة إلى التدين والشاب إلى الإلحاد. عمل لفت النظر لتطرقه إلى قضايا لم تكن مباحة في الدراما، وظهرت لاحقاً أعمال ركزت في خطوطها الرئيسية على التطرف الديني والإرهاب. أما التعددية الدينية والنسيج الاجتماعي السوري المتشابك فظل التطرق إليهما حذراً جداً، وغالباً ضمن إطار إظهار نموذج التعايش، وعدا ذلك بقيا من المحظورات الاجتماعية الحساسة. وكان أول عمل يطرح بصراحة فكرة الزواج بين الأديان «أهل الغرام» الذي عرض العام الماضي في حلقة واحدة منه بعنوان «يا مريم البكر» كتبها نجيب نصير. وقد تلقى الكاتب الكثير من هواتف التعاطف مع البطلين وهما فتاة مسيحية وشاب مسلم عاشا ضمن أسرتين جارتين، كانتا المثال النموذجي للتعايش، إلا أن هذا لم يشفع للحبيبين كي يتزوجا وكان الحل بأن تسافر الفتاة إلى أمريكا للخروج من الأزمة. كثر لم ينكروا أن هذا العمل قال ما يريدون قوله ولا يجرؤون على الإفصاح به، أو ربما حتى مجرد التفكير به.

هذا العام حمل مفاجأة في مسلسل «يوم ممطر آخر» للكاتبة يم مشهدي التي سبق لها أن كتبت مسلسل «وشاء الهوى» وتميز بأطروحاته الجريئة في مقاربة مشاكل الشباب والعلاقات خارج إطار الزواج والأمراض الجنسية من خلال رؤية ومعالجة شبابية متميزة، خلفت نوعاً من الصدمة، إذ استنكر البعض أن تكون صورة المجتمع السوري الشبابي على هذه الشاكلة.

الإعلامي والكاتب مازن بلال، رئيس تحرير موقع «سورية الغد»، أشار إلى أن موضوع الدين سبق وطرح كثيراً في السنوات الأخيرة، لكن هذا العام يبدو أن هناك إحساساً عند كتاب السيناريو بضرورة إكساب الدراما المعاصرة شخصية جديدة. ورأى أن المهم في هذه الأعمال طرحها لصور مختلفة للمجتمع، دأبت الدراما السورية على تجنبها لمساسها بالشعار السياسي الذي يتحدث عن «الوحدة الوطنية». أما اليوم فهناك رغبة جدية للحديث عن هذه الوحدة بآلية مختلفة عبر إسقاطات اجتماعية توضح التنوع الموجود في سورية. وربما ان المطلوب من الدراما السورية أن تخوض في عمق هذا الموضوع.

سجلت يم مشهدي خطوة جديدة متقدمة في مسلسل «يوم ممطر آخر»، إذ تناولت قصة المسلسل، الزواج بين الطوائف والأديان، ولعلها المرة الأولى التي يتم فيها التعرض إلى هذا الموضوع بمباشرة، حيث تقف الأم التي تنتمي للطائفة العلوية وهي أرملة مسلم سني، ضد زواج ابنتها من شاب مسيحي، وفي حوار معها تقول بوضوح أنا علوية وتزوجت من سني ولم تتقبل أسرتي الأمر ودفعت الثمن، كيف يمكن أن تتزوجي من شاب ينتمي لدين مختلف؟ الشابة تصر على الزواج، ما اقتضى ذهاب الشاب إلى المحكمة الشرعية وإشهار إسلامه، وكانت العاقبة أن قاطعته عائلته وكل الأقرباء والأصدقاء، ما أوقع هذا الزواج بالفشل قبل أن يبدأ. ويتضح من المسلسل أن المشكلة ليست دينية وإنما اجتماعية تأخذ لبوساً دينياً، فحتى تغيير الدين لا يمثل حلا لمشكلة معقدة.

لم يكد ينتهي مسلسل «يوم ممطر آخر» الذي عرض على قناة «ام بي سي» قبل شهر رمضان، حتى جاء الموسم الدرامي الرمضاني حاملا مسلسل «ليس سرابا» الذي كتبه فادي قوشقجي، كأكبر مفاجأة شهدتها موضوعات الدراما السورية لهذا العام، إذ تكرس العمل بالكامل لمعالجة التعدد الديني والزواج بين الأديان وما يحيط بهذه العلاقات من مشكلات اجتماعية وقانونية شائكة ومعقدة، ناهيك عن حساسيتها وخطورتها. ومع أن هذه الموضوعات كما أسلفنا تم التطرق إليها لكن لم تكن على هذا النحو من قبل، من حيث مساحة الحضور المسيحي وعدد الشخصيات والنماذج التي قدمها، والعادات والتقاليد والتفاصيل الخاصة بطقوس المناسبات الدينية. وهذه أول مرة يمنح فيها المسيحيون هذه المساحة، فيظهر في الدراما السورية حفل إكليل كاملاً، واحتفالات الميلاد وطقوس عيد الغطاس... الخ.

السيناريست نجيب نصير يعتبر ان مجرد ظهور أناس من أطياف أخرى أمر مهم، ليس من حيث التقاط صورة أقرب للواقع التعددي في المجتمع السوري، بل هذا مهم للمجتمعات العربية الأخرى التي سماها «أحادية الخلية» أي التي تدين غالبيتها بدين واحد وتعتقد أن العالم كله يدين به. هذه المسلسلات مهمة كي تعرف تلك المجتمعات أن الدين أحد مكونات الثقافة وليس كل الثقافة.

وفي هذا الإطار يقول الكاتب والروائي فادي قوشقجي: أردتُ من خلال نص «ليس سراباً» أن أطرح قلقي الشديد من تفشي حالة الانكفاء عن الآخر وسط الطوائف الدينية المختلفة في المنطقة، متخذاً من العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في سورية مثالاً لظاهرة التكاذب أو النفور، أو جهل الآخر والخوف منه التي تسود بعض الأوساط، ومستعرضاً في المقابل حالة الانفتاح الصادق والحقيقي التي يعيشها أناس آخرون منهم المثقف ومنهم الإنسان العادي. أردت أن أطرح حداثة قائمة على أسس مختلفة، خاصةً في مجالي القانون والتعليم، وما تعانيه حداثة ناشئة كهذه من رفض العقول المغالية في تطرفها وفي انكفائها عن الآخر.

مازن بلال رأى أن مسلسل «ليس سرابا»، يحاول فضح أشكال التعصب، ولا يتحدث عن التعصب الديني فقط وإنما عن التعصب ككل. فالمسألة ليست دينية والعمل تطرق إلى التعصب بأشكاله المتعددة؛ إلا أن الطرح جاء مباشراً، ورد أسباب ذلك إلى حداثة التطرق إلى هذه الموضوعات وعدم تراكم خبرة في معالجتها. إلا ان الكاتب قوشقجي برر اعتماده على المباشرة في الطرح تجنباً لجعل النص (حمّال أوجه).

السيناريست والإعلامي نجيب نصير اعتبر أن هذا العمل ممتاز لأنه أول عمل يتجرأ على طرح مشكلات هذا النوع من العلاقات من الجوانب الاجتماعية والقانونية، منبهاً إلى أهمية معالجة هكذا موضوعات بعيداً عن المجاملة والتملق الكاذب. فثمة مصالح تربط الأفراد الذين يعيشون في مجتمع واحد وعليها تبنى علاقات يجب أن تناقش بمنطق عقلاني بعيداً عن الرياء وتقبيل الشوارب. فهناك مشاكل حقوق وارث ومسائل أخرى صعبة لا تحل على الطريقة الأمريكية وقانون عدم التمييز، بمعنى إذا تساوت المرأة والرجل في الإمكانات اللازمة لعمل ما تذهب الفرصة للمرأة!!

مع أن مسلسل «ليس سرابا» نال اهتماماً خاصاً من قبل شرائح مختلفة في المجتمع، توقفوا عند جرأته كثيراً، كان هناك من الأشخاص المعنيين بالعمل من رأى فيه تشجيعاً على الزواج بين الأديان وهو أمر مرفوض اجتماعياً، حيث تستنكر ماري إيليا هذا المسلسل الذي رأت فيه دعوة لزواج المسيحيات من مسلمين وقالت: هذا أمر خطير جداً ومرفوض اجتماعياً كأنهم يريدون إشعال حرائق. لكن إذا سألت ماري عن حقيقة موقفها من هذه الطروحات بعيداً عن المجتمع تصمت دون أن تجد جواباً مقنعاً سوى القول مجتمعنا لا يقبل بذلك. هناك من يرى أن المجتمع لم ينضج بالمقدار الكافي لمثل هذه الطروحات وهناك من يقول العكس، وربما لم يجرؤ فادي قوشقجي على كتابة هكذا نص، لولا شعوره بوجود هامش لذلك، ويقول:حين اتخذتُ من علاقة المسيحيين والمسلمين في سورية نموذجاً، فلا بد أن أشير إلى أن هذه العلاقة هي أكثر تطوراً وتسامحاً منها في مناطق أخرى، لذلك استطعتُ أن أمتلك هامشاً أوسع من الحرية في طرح مختلف المواضيع المرتبطة بما أتحدث عنه، والمتمحور حول دور الدين في حياة المجتمع وما تفرضه مناقشة هذا النوع من مرور على إشكاليات تتعلق بالحب والزواج والحياة الاجتماعية المتداخلة والثقافة ونظام التعليم والقوانين وغير ذلك.

عاما بعد آخر، يسعى الدراميون الشباب إلى تحقيق تميز في الأعمال التي تشكل لهم ساحة لخوض معارك توسع الهوامش وترفع سقف حرية التعبير، من خلال المساس بالتابوهات الثلاثة الدين والجنس والسياسة. وهي معارك متعددة الجبهات ولعل أشدها الاجتماعية والدينية التي تتفوق على رقابة السلطة السياسية أحيانا كثيرة. ومع أن الرقابة تشتد نتيجة ظروف كثيرة إلا أنه في المقابل المحاولات تتزايد. والى جانب مسلسل «ليس سرابا» كان «يوم ممطر آخر» و«زهرة النرجس» و«بقعة ضوء» و«رياح الخماسين» و«ليل ورجال» من أعمال معاصرة تعرضت للكثير من الموضوعات التي أضافت على أعمال الموسم الماضي الكثير من المسائل الشائكة. فـ«رياح الخماسين» للكاتب أسامة إبراهيم تحدث عن مشكلة المعتقلين السياسيين بعد إطلاق سراحهم وما يترتب من أثمان تدفعها عائلة المعتقل وأصدقاؤه، بالإضافة إلى معالجة مشكلة الفساد بمختلف أشكاله والمستشري في كافة خلايا المجتمع. وهي المرة الأولى التي يكرس فيها عمل كامل للبحث في هكذا موضوع سبق وتم التعرض إليه بشكل ثانوي في مسلسل مثل «بقعة ضوء» وغيره. أما مسلسل «ليل ورجال» فقد اتجه نحو معالجة ظاهرة الشعوذة والدجل كموضوع رئيسي يتداخل مع الفساد، وهي أيضا المرة الأولى التي خصص فيها مسلسل كامل للكشف عن هذه الظاهرة المسكوت عنها، لعدم الاعتراف بوجودها، رغم ظهور فضائيات متخصصة بالشعوذة والتنجيم.

قد تختلف الآراء حول المستوى الفني لتلك الأعمال فبينها أعمال تشكو من خلل في المعالجة الدرامية، وبعضها لديه مشكلة في الإخراج، لكنها عموماً تتسم بالجرأة، ليس على هتك الخطوط الرقابية، بل في المساس بالمحظورات الاجتماعية التي تشكل قاسماً مشتركاً في العالم العربي. وما لا يعرض في سورية يعرض في دول عربية أخرى والعكس صحيح. وهذا ما يجعل من المساس بالمحظور الاجتماعي العربي مغامرة لا بد منها، وإلا سيتم الاكتفاء بأعمال فلكلورية تريح الأعصاب وتعطي العقل نزهة لا يستحقها في منطقة كل ما فيها يغلي ويفور.