الجزائر تطالب فرنسا بالإفراج عن الأسير «بابا مرزوق»

رمز للإباء الوطني اعتقله الاحتلال قبل 178 سنة

TT

قد يكون «بابا مرزوق» أقدم أسير حرب في العالم على الإطلاق، وفي شهر يوليو (تموز) الماضي قد أكمل السنة الثامنة والسبعين بعد القرن تحت الأسر دون أمل في العودة إلى أهله وذويه في الجزائر، وما «بابا مرزوق» إلا مدفع «الجزائر المحروسة» العملاق الذي استولى عليه الفرنسيون سنة 1830 بعد يوم واحد من احتلال مدينة الجزائر. وبعد غياب طويل عاد هذا الأسير المنسي من خلال أغنية شعبية جديدة وملحمة شعرية كبرى.

عبد القادر شرشام من أشهر مطربي «الشعبي»، وهو لون غنائي نابع من مدينة الجزائر العاصمة ومستمد من الموسيقى الأندلسية الكلاسيكية، بكثير من التأصيل في البيئة المحلية والتجديد، فاجأ جمهوره بأداء أغنية «بابا مرزوق جاء». والقصيدة التي كتبها محمد بن عمرو الزرهوني الوزير السابق والمستشار الحالي لرئيس الجمهورية الجزائرية لا تتناول أحد الأولياء الصالحين مثلما جرت العادة مع هذا الطابع الغنائي الموسيقي، وإنما تخص أشهر مدفع في تاريخ الجزائر. ولئن لفتت الأغنية الانتباه فنيا، فقد أعادت إلى ساحة النقاش «مأساة» هذا المدفع الذي بقي تحت الأسر الفرنسي منذ أن استولى الجنرال الفرنسي دوبورمونت على مدينة الجزائر وإجباره للداي حسين العثماني على إمضاء معاهدة الاستسلام. ورغم أن المدفع ذهب إلى الضفة الشمالية من البحر المتوسط فقد تحول إلى ما يشبه الأسطورة في الثقافة الجزائرية، ولو أنه مع تقادم مدة الأسر أصبح الحديث عنه محصوراً عند بعض المؤرخين المتخصصين، قبل أن يعود بهذا الشكل الفني من خلال قصيدة الوزير المستشار، ثم من خلال الملحمة الكبرى التي كتبها الشاعر الشعبي الجزائري المتجدد أحمد بوزيان. فقد صدر لهذا الشاعر في المدة الأخيرة ديوانه الجديد «بابا مرزوق سيد مدافع المحروسة» وهي عبارة عن ملحمة شعرية باللغة الشعبية الجزائرية المحلية، كتبت على شكل حكاية شعبية. الكتاب صدر مكتوباً ومسموعاً على شكل قرص سي دي وقدم له الوزير المستشار محمد بن عمرو الزرهوني صاحب قصيدة «بابا مرزوق جاء» قائلا: «ستسهم ملحمتك ولا ريب في تحسيس الجزائريين والجزائريات بواجب التحرك، على غرار الشعوب الغيورة على رموزها من أجل استرجاع هذا الرمز الذي لا يجوز القبول ببقائه أسيراً غريباً».

ولم يكن مدفع «بابا مرزوق» الذي استولى عليه الفرنسيون مجرد قطعة عسكرية عادية. فالفرنسيون كانوا يعرفون بابا مرزوق قبل ذلك التاريخ بوقت طويل، ويعود صنعه إلى العام 1542 أي سنة واحدة بعد حملة الملك الإسباني شارل الخامس الفاشلة على الجزائر. إذ أمر حاكم البلد العثماني حسن آغا بتأسيس «دار الصناعة» بصنع مدفع تهابه الأعداء ويكون رمزا لقوة الجزائر العسكرية. وصنعه بابا مرزوق من مادة البرونز وبلغ طوله سبعة أمتار أما مدى قذائفه فكان يصل إلى 5000 متر، وهي الميزة التي مكنته من ضرب سفن الغزاة فور اقترابها من مرفأ الجزائر القديم.

الفرنسيون الذين يحتفظون بهذا الأسير بعد 46 سنة من استقلال الجزائر، كانت لهم أكثر من ذكرى سيئة مع بابا مرزوق، وكان استيلاؤهم عليه بمثابة انتصار نفسي ومحاولة محو عار التصق بهم. ففي الربع الأخير من القرن السابع عشر، هاجم الأميرال الفرنسي فرانسوا دوكان مدينة الجزائر دون جدوى، وبعد عدة محاولات في سنوات متتالية عاد إلى الانتقام بأسطول كبير فدمر جزءاً من المدينة، وعندما فشل حاكم الجزائر العثماني في إقناع الأميرال بوقف العدوان أحضر أعضاء السلك الدبلوماسي الفرنسي في الجزائر حينها وعددهم 13 وقذفهم من فوهة المدفع بابا مرزوق الواحد تلو الآخر، وتكررت مأساة الدبلوماسيين الفرنسيين مع هذا المدفع الذي أطلقوا عليه اسم «القنصلي» ربما انطلاقا من تلك الذكريات السيئة. وعام 1688 ذهب الماريشال الفرنسي «ديستري» إلى الجزائر انتقاما لذكرى الدبلوماسيين، وقيل بأنه تمكن من تدمير جزء معتبر من المدينة بمدافعه، ولما عجز حاكم الجزائر مرة أخرى عن وقف العدوان أعاد حكاية الدبلوماسيين فوضع 40 فرنسياً من بينهم قنصل فرنسا في الجزائر في فوهة بابا مرزوق وقذف بهم جميعا في البحر، ومن ساعتها دخل هذا المدفع الذاكرة الفرنسية وكان على رأس غنائم حرب احتلال الجزائر سنة 1830 وذهب في السادس من أغسطس (آب) من السنة نفسها إلى فرنسا وتم تقديمه هدية إلى وزير البحرية الذي أهداه بدوره إلى الملك كرمز للنصر. وأمر الملك بوضع المدفع كنصب تذكاري في مدينة «بريست» حيث بقي إلى حد الآن، ولم تتمكن الجزائر المستقلة من استعادة هذا العملاق الذي يشكل جزءاً من ذاكرتها الجماعية.