جيل كيبل يبشر بالخط الثالث الأوروبي ـ العربي ـ المتوسطي

دعا في كتابه الأخير «الإرهاب والشهادة» إلى تجاوز مشروع «القاعدة» والمحافظين الجدد

TT

يدعو الباحث الفرنسي المعروف جيل كيبل اوروبا بكل بساطة الى الحلول محل اميركا لانها أقرب الى منطقة الشرق الاوسط وأعرف بقضاياها ثم لان مشروع الرئيس بوش قد وصل الى الباب المسدود. يضاف الى ذلك ان اميركا مشلولة الآن ولمدة ستة اشهر بسبب الانتخابات وبالتالي فيمكن للرئيس ساركوزي، الرئيس الحالي للاتحاد الاوروبي، ان يجلس على عرش العالم محلها ولو لفترة قصيرة. ولهذا السبب عقد مؤتمر الاتحاد الاوروبي ـ المتوسطي في باريس مؤخرا. ولكن هل ستسمح له انجيلا ميركل بذلك؟ فميركل تتهمه بانه يريد ان يستفرد بالجنوب ويمارس امبريالية فرنسية عليه بمعزل عن الاتحاد الاوروبي. ولذلك أجبرته على تعديل مشروعه ودعوتها هي الى الطاولة مع كل دول الاتحاد. ومعلوم ان انجيلا ميركل قوية الشخصية وتقف لساركوزي بالمرصاد الى درجة انه اصبح يخاف منها. وكذلك فعلت اسبانيا التي انزعجت من المشروع في البداية. نقول ذلك وبخاصة انها متوسطية وأقرب الى شمال افريقيا من فرنسا على الاقل جغرافيا. ولكن لا أحد يفهم لماذا لم يصر الرئيس المصري على دعوة كل العرب مثلما أصرت ميركل على دعوة كل الاوروبيين؟

بعد ان استعرض جيل كيبل مواقف كلا الطرفين المنخرطين في حرب جهنمية على مدار العالم الإسلامي بل والكون كله نجده يصل الى النتيجة التالية: لقد وصل مشروع الرئيس بوش والمحافظين الجدد الى الباب المسدود تماما كمشروع القاعدة والجهاديين السلفيين.

ولكن البعض يعترض عليه قائلا بأن بوش لم يفشل في العراق على عكس ما قيل ويقال. بل انه الآن في طوره لان يحقق نجاحا غير مسبوق ويقطف ثمار تعبه واستراتيجيته التي تعثرت طويلا. فالعراق في طوره الى الاستقرار الآن وتجاوز المحنة الرهيبة التي عصفت به طيلة السنوات الاربع السابقة. وسوف يخرج أقوى مما كان عليه بكثير لان «المحنة التي لا تقتلني تقويني» كما يقول المثل. ولا أعتقد بأن جيل كيبل يعترض على هذا التحليل او يرى تناقضا جذريا بين الدور الاوروبي والدور الاميركي. فهما متكاملان ولا يتعارضان.

ولكنه يقول بأننا اصبحنا بحاجة الى خط ثالث لحلحلة الامور وفتح ثغرة في هذا الانسداد الذي لا يحتمل والذي يكاد يدمر المنطقة او يهددها بالانفجار الشامل. ويرى جيل كيبل ان هذا الحل لا يمكن ان يتحقق الا عن طريق الاتحاد الاوروبي. وبالتالي فقد آن الاوان لكي تخرج اوروبا من سلبيتها وعطالتها الذاتية وخوفها من الاميركان. فهي الجار الاقرب للشرق الاوسط وشمال افريقيا وليس الولايات المتحدة التي تبعد بالاف الكيلومترات. وعليها ان تشكل في المستقبل القريب واحدة من اكبر المناطق الجيو استراتيجية في العالم: أي اوروبا كلها بالإضافة الى العالم العربي بمشرقه ومغربه وكذلك تركيا وايران. هذا دون ان ننسى اسرائيل. ثم يضيف جيل كيبل قائلا:

ينبغي على اوروبا ان تدرك انها اذا لم تشكل هذا الفضاء الجيو ـ ستراتيجي الواسع فانها لن تستطيع ان تقف في وجه التكتلات الكبرى كالولايات المتحدة والصين والشرق الآسيوي. وبالتالي فقد اصبح ضروريا جدا ان يفكر الاتحاد الاوروبي في هذه المسألة ويشكل فضاءه الحيوي الاستراتيجي الذي يضم ضفتي البحر الابيض المتوسط كلتيهما وما حولهما او خلفهما. وهذا يعني ان منطقة الخليج العربي وايران معنية بالموضوع ايضا وليس فقط الدول المتوسطية. ويرى كيبل ان الضعف الظاهري لاوروبا من الناحية العسكرية قياسا الى اميركا هو نقطة قوة. بمعنى انه بعد فشل سياسة العصا الغليظة لاميركا لم يعد امام العالم الا سياسة اليد الناعمة والحضارية لاوروبا. فأوروبا اذا ما دمجت الشرق الاوسط اقتصاديا داخلها استطاعت ان تولد في الجنوب طبقة من المقاولين النشطين القادرين على دمقرطة المنطقة من تحت وبشكل تدريجي لا من فوق وبشكل تعسفي كما حاولت اميركا ان تفعله. واكبر مثال على ذلك تركيا. فدمجها اقتصاديا لا سياسيا مع اوروبا ادى الى تشكيل مجتمع مدني تركي قوي يضمن التعددية والديموقراطية. بل واستطاع هذا المجتمع المدني ان يحول حتى الحزب الاصولي التركي الى حزب حكومي مسؤول معتدل يحترم علمانية اتاتورك بعد ان يطهرها من جوانبها القسرية. انظر السياسة العقلانية المعتدلة لاردوغان وعبد الله غول.

ثم يوضح جيل كيبل مشروعه قائلا وهو يتحدث عن منطقة الخليج العربي والدور الكبير الذي يمكن ان تلعبه في تشكيل هذا الفضاء الواسع الاوروبي المتوسطي: حتى الان كان الاتحاد الاوروبي يركز أنظاره على الغرب الاطلسي واميركا. وكان الخليج العربي يستدير بانظاره نحو الشرق الاقصى العطشان الى بتروله والسخي بدولاراته. وبين هذين القطبين المتطرفين ضاعت منطقة البحر الابيض المتوسط وأهملت. وهذا شيء مؤسف جدا لان هذه المنطقة مملوءة بالطاقات السكانية والثروات البترولية والغازية. واذا لم تستخدم هذه الطاقات من اجل التنمية فان المنطقة العربية ـ الاسلامية سوف تستسلم للمشروع الاصولي وتتقهقر وتعود الى القرون الوسطى. وهذا ليس من مصلحة اوروبا على الاطلاق لانها الاقرب جغرافيا الى العالم العربي الإسلامي ولانها تحتوي الآن على خمسة عشر مليون مسلم على الاقل. وبالتالي فقد آن الاوان لكي تستيقظ اوروبا من غفوتها او غفلتها وتستلم زمام المبادرة من اميركا وتحقق هذا المشروع المستقبلي العظيم: الاتحاد الاوروبي ـ المتوسطي.

لقد ان الاوان لكي ننخرط في مشروع النهضة المتوسطية التي تجمعنا كلنا نحن العائشين على كلتا الضفتين كما كان يحلم المستشرق الكبير جاك بيرك. ينبغي ان نشكل منطقة كبرى حول المتوسط تشمل ليس فقط الدول الواقعة على ضفافه بشكل مباشر وانما كل الدول المجاورة والقريبة منه. وهكذا نشكل منطقة شاسعة واسعة تمتد من بحر الشمال الى الخليج العربي. والا فان منطقتنا سوف تهمش وتصبح تابعا ذليلا وتقع بين مطرقة التكتل الاسيوي الصيني الهندي/ وسندان التكتل الاميركي الشمالي. فماذا نحن فاعلون؟ والى متى ننتظر حتى نتحرك؟

من الواضح ان جيل كيبل اذ يقول هذا الكلام يتبنى المشروع الطموح الذي كان الرئيس نيكولا ساركوزي قد اعلن عنه عشية انتخابه: أي المشروع الاوروبي المتوسطي. ولكن من الواضح ايضا ان مشروع كيبل أوسع بكثير من مشروع ساركوزي لانه يشمل كل العرب ولا يفرق بين متوسطيين وغير متوسطيين. ولكنه يشمل ايضا كل اوروبا. ثم يقول كيبل: كل منطقة من مناطق هذا الاتحاد الكبير الشاسع الواسع سوف تقدم مساهمتها وأفضل ما عندها. فاوروبا يمكن ان تقدم شبكتها الصناعية والتكنولوجية الضخمة وخبراءها الجامعيين والباحثين العلميين الكبار. والخليج العربي ـ الفارسي يقدم ثرواته الغازية والبترولية وطاقته المالية المصرفية التي لا تضاهى. واما المشرق العربي وشمال افريقيا فيقدمان طاقتهما البشرية الغزيرة والشبيبة العمالية التي لا تنفد. وبالتالي فهناك تكامل بين هذه المناطق الثلاث. وكل واحدة منها لها نقاط ضعفها التي تكملها الأخرى. فنقطة ضعف اوروبا مثلا هي شيخوختها وانهيارها الديموغرافي السكاني. والخليج العربي ايضا ضعيف السكان بالإضافة الى انه بحاجة الى تقوية مؤسساته المعرفية الجامعية وكذلك سياسته الصناعية والاقتصادية. واما المشرق العربي والمغرب العربي فمليئان بالسكان والطاقات البشرية ولكنهما فقيران بالامكانيات والموارد المادية. وبالتالي فهما يقدمان للمشروع اليد العاملة والطاقة الخلاقة لشباب غزير لا ينضب. ولكن لتحقيق هذا المشروع الكبير ينبغي اطفاء الحرائق اولا في المنطقة: أي الحريق الاسرائيلي ـ الفلسطيني من جهة والحريق الايراني ـ العربي، او حتى السني ـ الشيعي من جهة اخرى. نقول ذلك على الرغم من ان الشيعة ليسوا فقط فرسا وانما هم في الاصل عربا. بل ان ايران كانت سنية في أغلبيتها ولم تقلب شيعية الا بعد القرن السادس عشر.. والمذهب الشيعي متجذر في الواقع التاريخي العربي منذ مئات السنين. والفروق بينه وبين المذهب السني ليست كبيرة الى الحد الذي يتوهمه بعضهم. فالنبي واحد والكتاب واحد واركان الاسلام كلها واحدة هذا بالاضافة الى اللغة العربية والادب والشعر والنثر والتاريخ فيما يخص الشيعة العرب..وبالتالي فالقواسم المشتركة عديدة جدا بين الطرفين. وما يجمع ويوحد اكبر بكثير مما يفرق.

لقد فشلت اميركا في اطفاء هذين الحريقين واصبح الطريق مفتوحا امام اوروبا لكي تجرب حظها وبوسائل جديدة غير السابقة. اوروبا لن تستخدم العصا الغليظة على عكس الاميركان وانما الاسلوب الحضاري والانساني الناعم والمقنع حيث يجد كل طرف مصلحته في الحل. لقد تعبت المنطقة من صراع الحضارات والتوترات والحروب وقد آن لها ان تستريح وتفكر في خوض حرب اخرى: حرب حضارية هذه المرة على الجوع والفقر والأمية والتخلف والحرمان . انها حرب من اجل تنمية المنطقة كلها واخراج شعوبها من كابوس تاريخي طويل مع اعطائها لاول مرة حق الأمل. ولكن ذلك لن يتحقق الا بتدخل من الخارج ومن الاتحاد الاوروبي بالذات. فهو المنارة الحضارية للعالم حاليا. انه جنة الحداثة وما بعد الحداثة. وعليه ان يتحمل مسؤوليته لانتشال الشعوب العربية والاسلامية القريبة جدا من حمأة التخلف والتعصب والجوع والتهميش. وهذا ليس مشروعا طوباويا على عكس ما يتوهم الناس وانما هو مشروع قابل للتحقيق. فإلى هناك اذن. هذا هو مشروع جيل كيبل مرسوما في خطوطه العريضة. وأعترف بانه فاجأني بجرأته وأريحيته وبعد نظره.