الرحيل.. هذا الموت الصغير

المنفى والمهجر في عيادة التحليل النفسي

TT

«شيء وحيد ومؤكد: المرء لا يعود أبداً. المرء يرحل فقط». بهذه العبارة، البديلة عن الخاتمة، ينهي ليون غرينبرغ وربيكا غرينبرغ كتابهما الجميل «التحليل النفسي للمهجر والمنفى» الذي ترجمته تحرير السماوي بمقدمة للشاعر العراقي عواد ناصر وصدر أخيراً عن دار «المدى».

ورغم ان المنفى أو المهجر، هو أكبر حادثة إنسانية في القرن العشرين، إلى جانب الحروب والإبادات الجماعية، إلا انه موغل في التاريخ منذ هجرة النبي إبراهيم الذي أرغم على ترك مدينته أور مع قبيلته وقطيعه، بحثاً عن الأرض الموعودة، إلى هجرة شعوب بكاملها نتيجة عوامل تاريخية، كهجرة القبائل في اوروبا ومركز آسيا باتجاه الغرب ابان سقوط الامبراطورية الرومانية، والهجرة الاوروبية باتجاه الاميركتين الشمالية والجنوبية ودول المحيط، إذ هاجر أكثر من ستين مليون اوروبي إلى قارات أخرى، نتيجة الفقر والحروب والأوبئة.

ولا يزال الباحثون عن الأرض الموعودة يشكلون النسبة الأكبر من مهاجري القرن العشرين الذين سماهم الكتاب بـ «أشقاء الزورق الواحد»، يليهم أبناء الأوطان المفقودة الذين شردهم الطغاة والقمع، أي المنفيون، ثم الذين هم ضحايا الحروب أو المجاعة.

وفي كل الحالات، تبقى الهجرة، الاختيارية والإجبارية، صدمة عنيفة، أو جرحاً نازفاً كما يدل أصلها اللغوي المشتق من الأغريقية Terminus H أو Trauma أو «عصاب الصدمة» بلغة التحليل النفسي. فالمهاجر والمنفي يعانيان بالقدر نفسه من أعراض الخوف، كالأرق والكوابيس. وهي تكاد تكون متشابهة. فقد كان كابوس واحد تقريباً يطارد أغلب المنفيين العراقيين في مناماتهم في زمن صدام حسين: العودة إلى العراق، بشكل سري، ثم استحالة الخروج منه، أو العودة إلى العراق وعقد صداقة ظاهرية مع صدام حسين - الحلم لا تحده حدود اليقظة - بهدف قتله والتخلص منه للأبد، فهي الطريقة الوحيدة التي تؤمن العودة. لكن عملية القتل هذه لم تتم قط في أي حلم عراقي، فقد كانت عصية جداً، كما في الواقع تماما.

لكن هناك اختلافات نسبية بين مخاوف المنفي والمهاجر، على المستوى النفسي، فالأول يعذبه الحنين إلى الوطن المفقود، والثاني يعذبه الشعور بالذنب. وفي كلتا الحالتين، تبقى الأعين مشدودة إلى الخلف، دون أن ترى المكان الجديد، بكل تعرجاته، وطرقه، وألوانه، وناسه المختلفين.

ولهذا يبقى المهجر مجرد مكان آخر، وليس مكاناً جديداً يريد المسافر إليه أن يتعرف على أسراره الخفية، ويشم روائحه، ويرود مسالكه الخلفية. إنه مجرد غرفة مؤجرة سرعان ما يغادرها شاغلها بمجرد انتهاء مهمته، لكن المهمة لم تنته. وللاحتيال على ذلك، لم يعد أمامهم، وأمام أي منفي أو مهاجر، سوى اللجوء إلى لعبة الإحلال، التي يجيدها كل المنفيين، من أجل إدامة الحياة في المنفى الذي أصبح الآن مهنة شاقة حقاً، وإلى لعبة الاستعارة من الماضي الذي أصبح الآن بعيداً جداً. المنفي لا يستعير أساطير الوطن الاولى فقط، بل سيضيف إليها أساطير جديدة يخلقها الخيال، الذي زاده المنفى جموحاً مرضياً، كل يوم. ان كل ما كان يعافه المنفي في الوطن، يكتسب جمالية وهمية تغطي الجمال الاخر الموجود أمام عينيه. لكنه لا يراه.. لا يستطيع أن يراه، بل لا يسمح أن تتغلغل مفرداته إلى روحه، ففي ذلك شيء من الخيانة!.

فالوطن يصبح في المنفى، حقاً أو وهماً، هو الحلم/ اليوتوبيا حسب لعبة الإحلال، على طريقة ناظم حكمت: وضعوا الشاعر في الجنة فصاح: آه يا وطني ومات. وكأنه ليس الوطن نفسه الذي كنا نشكو منه ليل نهار حين كنا في أحضانه!.

ولكن لماذا لا يعود الإنسان قط؟

العودة، بعد سنوات في المنفى أو المهجر، هي هجرة جديدة. وقرار العودة مؤلم بقدر قرار الرحيل.

فالوطن «المستعاد» سرعان ما يتكشف أنه ليس ذلك «الوطن/ الحلم»، كما كان في المنفى، بل الوطن الواقعي إلى درجة الجرح، و«إن الناس الأحباء لم يكونوا يغطون في سبات طويل - كما في حكاية الأميرة النائمة - بانتظار الأمير ليوقظهم. لقد تغير كل شيء: البشر والأشياء والشوارع والعلاقات والعادات، حتى اللهجة اليومية الدارجة لم تعد تلك اللهجة التي كان يعرفها، فقد اكتسبت مفردات ومصطلحات جديدة بفعل التغيرات الاجتماعية والسياسية». «كل شيء يجب أن يبنى من جديد كمنزل هدته العواصف، لا بد من إعادة بناء خرابه.. ولكن المنزل لن يعود كما كان في الماضي، سيصبح منزلاً مختلفاً، وسيعمه واقع آخر ورغبات أخرى، وستنجم عنه أحزان جديدة..»

وأكثر من هذا، وربما هو الفصل الأكثر إيلاما، هو الشعور الذي يتولد عند بعض الباقين في الوطن بأن المهاجر خانهم، أو تخلى عنهم في أفضل الأحوال، فتكون ردود أفعالهم مفعمة باللوم والغضب والسخط على هذا المهاجر المتهور، عديم المسؤولية تجاه الذين قاسمهم التجارب والحياة.

وقد يحدث العكس أحياناً، فيحملون أنفسهم مسؤولية فقدان الراحل، الذي يعاني بدوره من شعور خفي أو ظاهر بالذنب تجاه كل ما خلفه وراءه.

وهكذا يبقى الرحيل، بالنسبة للطرفين نوعاً من الموت، أو «قليلاً من الموت».