رحيل عبد الله الجفري كاتب المقال «الذاتي» الأول في الأدب السعودي

أثرى المكتبة العربية بمجموعات قصصية وروايات وكتب بين الخاطرة والمقالة

الراحل عبد الله الجفري
TT

فقدت السعودية يوم أمس أحد أدبائها وكتابها الذين أثروا الساحة الثقافية على مدى اربعة عقود، والذي قدم للمكتبة العربية مجموعات قصصية وروايات وكتبا اخرى تتراوح بين الخاطرة والمقالة.

فقد اشرف الراحل عبد الله الجفري على الصفحات الثقافية في جريدة «الشرق الأوسط» لسنوات طويلة، كما اسهم بمقالاته في مجالات وصحف مختلفة واشتهر على مدى عقود بزاويته «ظلال».

وعُد الراحل الكاتب المقالي الذاتي الاول في الأدب السعودي، وصدرت له مجموعات قصصية ابرزها: حياة جائعة، الظمأ، الجدار الآخر، ورواية بعنوان جزء من حلم. كما اصدر كتبا أخرى بين الخاطرة والمقالة ابرزها: لحظات، حوار وصدى نبض، حوار في الحزن الدافئ.

واعتبر حمد بن عبد الله، القاضي الأديب والكاتب وعضو مجلس الشورى السعودي، ان رحيل الجفري يمثل خسارة ليس لبلاده السعودية فحسب بل والعالم العربي باعتباره مؤلفاً أثرى المكتبة العربية بانتاجه الثقافي والفكري، وكاتباً أطل على القراء العرب من عدة صحف ومنها «الشرق الأوسط» و«الحياة».

وفي كتابه «المقالة في الأدب السعودي الحديث» الذي غطى الفترة من عام 1924 الى عام 1980 أوضح مؤلفه الأديب والناقد الدكتور محمد العوين أن الجفري يُعد من الكتاب الذاتيين المكثرين، بل يكاد يكون الكاتب المقالي الذاتي الأول في الأدب السعودي «إذ أخلص لفن التعرف على الوجدان والحديث عنه والإفضاء إليه. ولولا مراعاتي لتوالي الأجيال في الأدب لكنت قدمته على سابقيه في ذلك، لأن من تقدم الحديث عنهم يكتبون المقالة الذاتية مثلما يكتبون ـ احيانا ـ مقالات أخرى في شؤون مختلفة، إلا ان الجفري من الكتاب الوجدانيين الشعريين الذين تستولي عليهم الرقة والعذوبة وشفافية الحلم. وقد جاء بمقالة جديدة تختلف في سياقها وتكوينها اللفظي وخيالها عن المقالة المأثورة المطروقة عند سواه، فلم يكتب تلك المقالة المباشرة المتوالية الايقاعات، التي تبدأ باستهلال ينبئ عن خاتمتها، ويتوسطها الاتكاء على الفكرة، والمداورة فيها، ويخرج قارئها منطفئا عند نهايتها لوصوله الى غاية الكاتب المباشرة بدون عناء وبدون اسراف في الخيال وبدون محاولة للتفكير او اثارة التساؤل حول موضوع النص».

اتخذ الجفري أسلوب الخيال، والرسم بالكلمة لصور متعاقبة لا يربط بينها الا الموضوع الرئيسي، ثم هو ينقلك في قفزات متوالية سريعة الى قلقه وألمه ووجعه الذاتي عبر اكثر من جملة مقوسة، وصورة مجنحة، وتساؤل مر؟.

يبدأ في المقال متوترا غامضا جوانيا، في حديث عن النفس أو العصر الرمادي أو الخفق المقتول أو الحلم الهارب، ثم يداريك حتى يتمكن منك فيلقي عليك بأثقاله النفسية، وكأنه يسعى الى ان يستأمن من جانبك أن تفر منه أو تصد عن سماعه، فيأخذ بتلابيبك في بكائية توجع وتضحك، فيها الأسى وفيها الفرح المنتظر وفيها أشواق الى الطمأنينة وشيء من الوفاء للقلب والرأفة بالمشاعر المحروسة في انتظار الحبيب الغائب.

إنها آلامنا وأمسنا وغدنا وأشواقنا، ننثرها بالكلمات على الورق في هذه الركضات السريعة الخاطفة، لا يدعنا الكاتب حتى يرهقنا شجنا وبوحا، وحتى يرأف بنا أن نكل من سماع قلوبنا والإنصات لترنيمة أفراحنا.

ولهذا لا يمكن ان ننتظر منه خلاصة للموضع في كلمة ينهى بها المقال، وانما نسعى الى مراجعة النص في أوائله وأوساطه وأواخره، فالدفق في أجزائه متقارب، والروح التي خطت الاستهلال هي الروح ذاتها التي كتبت التوقيع وختمت القول.

فليس من هوادة أو تأن في التعبير، وانما هي الفكرة الملحة، والألم الانساني المجنح يتدافع في الاسطر كلها، ويكون المقالة الذاتية القلقة المتحفزة المحرضة على التأمل والتفكير ومعاودة النظر في الذات.

وهي ـ أي المقالة ـ لدى كاتبنا مختلفة في تركيب اللفظ عن المتبع في المقالات التقليدية، اذ يسعى الى ان تكون اللفظة رشيقة خفيفة على الاذن، بعيدة عن التكرار، سليمة من الابتزاز، فهي العبارة السهلة القريبة من الذاكرة التي تكوّن من أخواتها سياقا اسلوبيا جديدا مبتكرا غير رتيب، ولا ممل.

فقد هجر أساليب المنشئين من أدباء التجديد في هذا العصر وأفاد من طرائق المدرسة الحديثة في استخدام العبارة وتوظيفها، ولم يراع القواعد المأثورة في بناء الاسلوب المقالي في هذه الناحية، فأثرت عليه الروح الشعرية الحديثة، بصورها وموسيقاها وأجوائها الرامزة الموحية، ونسيجها الجديد الغريب المؤثر، ووظف خاصية الشعر في نثره حتى صار النص لديه في منزلة بين المنزلتين، فيه خصائص النثر من التدفق والسيولة والاسهاب وتنوع الافكار وتشعب الحديث عنها وخصائص الشعر من الموسيقى والجرس ونماء العبارة وثرائها الموحي والهمس النفسي الحميم.

فمقالته لون جديد من النثر، مخالف للمقالة المعهودة ويختلف عن الشعر المعروف بقيمه الفنية وقواعده الموسيقية وبنائه العروضي.

وأدخل في المقالة لوناً جديدا من الصياغة، يدعم به الفكرة ويشرحها ويتتبع في اثنائه تشعبها ونثارها، وهو فن الحوار.. فهو من الكتاب القلائل الذين يتبعون هذا النمط من بناء المقال حتى يمكن ان يخرج القارئ بانطباع عام عن النص على هذا النحو، انه قريب من حوار مسرحي أو قصة شخوصها اثنان او مناجاة شاعرية حانية بين اثنين ايضا «فالروح الشعرية عنده واضحة في اهتمامه الذي لا افتعال فيه باختيار ألفاظ تقطر بالندى الشعير، وفي حرصه على توفير جو من «الموسيقى الداخلية» لكتاباته حتى تبدو في معظمها وكأنها من الشعر المنثور.

فهو من النثر الفني المحلق، القريب من روح الشعر، وليس شعرا، ولا نثرا مشعورا، ولا شعرا منثورا وانما هو انطلاق بالنثر جديد الى آفاق النفس يحلق فيه الكاتب بخياله الخصيب ويحلم ويغفو ويبني آماله ويشكو آلامه كأروع ما تكون الإغفاءة والحلم وكأحلى ما يكون الأمل، وأمرّ ما تكون الشكوى.

والمعاناة لدى ظهور هذا الكاتب تتسع فتشمل الانسان على هذا الكوكب بما يرجوه، وما ينتظره، وما يشكو منه، وما يختلج في داخله، الانسان المطارد من وحشية الآلة، وجفاف ينبوع الحنان، وتسلط الأثرة، وطغيان المطامع، وفقدان الحب، وانتشار الرعب والخوف، والقلق من المستقبل، وهي «مضامين انسانية مغرقة في الرومانسية، فأنت تعيش معه الصدق «الحزين» أو الحزن «الصادق» إنه يغرق في الألم كثيرا وينزف كثيرا.

ويدعو الى ان يكون الوجدان هو الرقيب على الفعل البشري، فمتى ما احتكم الانسان الى وجدانه لم يستمرئ الزلل، ولم يستنكف عن العودة الى الرشد، ولم يتوار عن الأعين لفعل البشاعة بأخيه الانسان، فالجفري يريد «الانسان الذي ينظر الى الحياة بوجدانه ويتعامل مع حقائق بهذا الوجدان».

والكاتب يسعى الى غرس الأخلاق وتثبيت دعائم الفصائل، ويتألم من الحقد، والأنانية، وفقدان الصدق، والدمعة الصافية المغتسلة بأوجاع النفس ومتاعبها.

وحينما يلجأ الانسان الى عادة جميل الذكريات فإنما يتعزى عن حاضره المؤلم بشيء فات كان سعيدا:

«ودائما يتحدث الناس ـ يا صديقي ـ في الذكريات، ولم يكن حديثهم مللاً، لكنه الهروب الى الحلم الجميل..

حتى ولو كان اجترارا..

حينما يتجسد.. يذكر الانسان بالمدد والجزر..».