الأدباء الناشرون.. ظاهرة تغزو المشهد الثقافي المصري

بعيدا عن بيروقراطية النشر الحكومي

مكاوي سعيد
TT

رحلة شاقة تلك التي كان يقطعها أي أديب قبل عدة سنوات في البحث عن ناشر لإبداعاته، إذ لم يكن عدد دور النشر التي ترحب بالمغامرة مع أديب شاب كبيرا، فضلا عن إعراض المهتم منها عن نشر الأدب باعتباره عملا غير مربح. ولم يكن للمبدعين حل سوى الانتظار في الطابور الطويل في أروقة مؤسسات النشر الحكومية «هيئة الكتاب، هيئة قصور الثقافة، والمجلس الأعلى للثقافة» من أجل أن يرى عملهم النور. آنذاك كان الطابور يمتد أحيانا لأكثر من سبع سنوات عبر «ركن» إبداعات الشباب في أرفف البيروقراطية.

وخرج الأدباء عن صمتهم وقرروا وضع حد لمعاناتهم مع النشر، إذ بدأ بعضهم يتحول إلى ناشر لكتبه وكتب الآخرين حيث تحول الأمر على ما يبدو إلى ظاهرة يعيشها المشهد الثقافي المصري أخيرا، وبدأ عدد من الكتاب والمثقفين في افتتاح دور للنشر.

«الفساد الثقافي المؤسسي دفعني إلى خوض تجربة النشر» هكذا بدأت الناقدة عفاف عبد المعطي صاحبة دار النشر «هيفن» حديثها وهي تطالع كتابا تحت الطبع. ترى عبد المعطي أن دور النشر انتهزت فرصة ذلك الركود الثقافي المؤسسي لاستغلال حاجة الكتاب ـ خاصة المبدعين ـ للنشر، وبدأت تحصل على مقابل دون النظر لمدى صلاحية المادة المنشورة وسط حالة من الإجحاف والظلم، الأمر الذي دفعها للقيام بخطوتها التي تراها ضرورية للحياة الفكرية في مصر اليوم. وتبين عبد المعطي أن نشاط مؤسستها يقوم على الترجمة، وقبول أعمال المبدعين دون تقاضي أية مبالغ منهم إيمانا منها أن النص الجيد يسوق نفسه، معتبرة أن مهنة النشر يمكن أن تكون مربحة وإلا لماذا تستمر كل دور النشر هذه في حال الخسارة!

أثار الروائي محمد كمال حسن دهشة الوسط الثقافي بإعلانه تأسيس دار النشر «مزيد» قبل عام تقريبا، غير أنه بدد هذه الدهشة عبر توضيحه أن مزيد مخصصة لنشر الأفكار والكتب جديدة الفكرة والهادفة عبر مشروع تجاري يهدف أيضا إلى الربح معتبرا أن النشر عمل تجاري يهدف إلى الربح مقابل تقديم خدمة ثقافية. وينفي حسن أن يخصم المشروع من رصيده الأدبي لأن العمل في الدار (يجبره) على الاطلاع على مستجدات المشهد الثقافي. ويدلل حسن بأدباء كبار خاضوا تجربة النشر وحفروا أسماءهم في سماء الأدب «ومن ينسى منشورات نزار قبانى وأدونيس». ويبين حسن أن كثرة افتتاح دور للنشر أخيرا أثبت صلاحية معظم الكتب للنشر كون كل منها يخدم اتجاها بعينه في الكتابة له قراؤه، معتبرا أن الأصل في الثقافة هو أن تصل كل الأفكار دون رقابة ليتكفل الزمن واختيارات القراء بعد ذلك بفرز هذا المنتج الثقافي وإظهار مدى صلاحيته.

«أفضل عمل تجاري للكاتب هو النشر وخلاف ذلك فهو خاسر» هكذا بدأ الروائي مكاوي سعيد حديثه. ويرى مكاوي صاحب «الدار للنشر» أنه حتى في حال الخسارة، فإن الأديب لن يحزن كثيرا كونه أدى خدمة ما إلى المشهد الثقافي عبر تقديم مبدعين جدد إلى الساحة، مضيفا أن سوق الكتاب بمصر في حاجة إلى تنشيط دائم، وأن زيادة عدد دور النشر أدت إلى انتشار المكتبات ومن ثم إلى ارتفاع معدلات القراءة وأصبح ولأول مرة لا يكاد يمر يوم على القاهرة دون حفل توقيع أو ندوة أو احتفالية بصدور كتاب هنا أو هناك. أما القاص يحيى هاشم فقد أسس دارا للنشر تحت اسم «اكتب» تهتم بالأساس بنشر الأعمال الأدبية وكتب المدونين. ويبين هاشم أن اتجاه الكتاب لإنشاء دور نشر خاصة بهم ظاهرة صحية، إذ ان الكاتب هو من يعيش معاناة الكتابة والنشر فهو بذلك الأكثر إدراكا ووعيا بعملية المتاجرة التي كانت قائمة في السابق، معتبرا التوجه الجديد انقلابا على أوضاع احتكارية مغلوطة ماضية، وبداية لعصر جديد يمكن من خلاله للكاتب أن يجد كل ما يحتاج في العروض التنافسية المقدمة.

يعترف هاشم أن النشر يسرق منه المبدع والكاتب غير أنه يستدرك قائلا «الدار أضافت للأدب نحو مائة أديب وكاتب كانوا في غياهب الواقع الثقافي، صار بعضهم الآن أسماء لها وزن في عالم الكتابة المصرية وفي هذا التمس بعض العزاء».

أما إسلام شمس الدين الذي أنشأ «مؤسسة شمس للنشر والإعلام» العام الفائت فيعتبر أنه ليس من الضروري أن يكون المرء أديبًا أو مبدعًا ليصبح ناشراً ناجحاً، فهو يتعامل مع مؤسسته كناشر وفق الأسس الإدارية الملائمة لهذا المجال، وبما يضمن استمرارها، دون ارتباط بمشروعه الإبداعي، فالنشر على حد تعبيره صناعة تقوم على أسس تجارية لا يمكن تجاهلها ولن يكون بالإمكان تقديم رسالة أو خدمة ثقافية ما لم يتم ضمان المقومات الاقتصادية الكفيلة باستمراريتها، المهم بحسب شمس الدين ألا تتحول هذه المهنة إلى مجرد «تجارة» تتجاهل قيم ومبادئ رسالتها السامية.

واعتبر شمس الدين أن ضخ المزيد من دور النشر إلى الساحة الثقافية على يد أدباء ومثقفين من شأنه إكسابها المزيد من الثراء والتنوع، وفتح آفاق رحيبة أمام المؤلف والقارئ، مبررا تلك الطفرة الكبيرة في مجال التأليف بتطور وسائل الاتصال وزيادة منابر النشر الالكترونية، الأمر الذي أفرز مؤلفين مبدعين كانت لديهم الجرأة على تقديم أنفسهم من خلال الإصدارات الورقية أيضا، فضلا عن الطفرة الملحوظة في عدد المكتبات ومنافذ توزيع الكتاب ومعارض الكتاب المحلية والعربية، وأن هذه الطفرة تتطلب؛ وبالتوازي؛ المزيد من دور النشر الجادة القادرة على تقديم رؤى جديدة تتناسب مع المتغيرات التي يشهدها مجال النشر وهو ما يحدث على يد المثقفين والمبدعين.