أزمة الائتمان الأميركية تدمي شظاياها صروح فرنسا الثقافية

أكثر من 100 مليونير أميركي يضخون الدولارات في عاصمة النور

TT

ما لم يكن بالحسبان هو ان تصل أزمة الائتمان الأميركية إلى متحف اللوفر وأوبرا باريس وقصر فرساي كما متحف أورسيه. فبقليل من التدقيق يتبين أن أعرق الصروح الفرنسية وأكثرها شهرة، تعيش بفضل العشق الأميركي لهذه الثقافة الفرنسية وضخها بالمساعدات منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وأن الأزمة المالية في أميركا، ستصيب شظاياها مدى أبعد بكثير مما كان يتصوره البعض. فما هو مدى الضرر الثقافي الفرنسي؟ وما سبب هذا الغرام المالي الأميركي بباريس ومحيطها؟

لم يعد سراً لأحد، ما يعانيه الاقتصاد العالمي من ركود بسبب أزمة البنوك الأميركية، لكن من يصدق أن هذه الأزمة أضحت تضفي بظلالها على المؤسسات الثقافية الفرنسية، وتطالها بالخطر هي الأخرى. الربط بين هذين العالمين المتناقضين يبدو غريبا وغير منطقي للوهلة الأولى، فما العلاقة بين ما يجري في البورصات والبنوك وما يحدث في المتاحف وصالات العرض؟ من يعرف مدى حضور رجال الأعمال والصناعيين الاميركين في هذه المؤسسات العريقة، يدرك قوة الأواصر التي تجمع هذين العالمين، وبالتالي الخطر المحدق بالثقافة الفرنسية، إن استفحلت هذه الأزمة التي تعصف بالأسواق المالية.

فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وبروز الولايات المتحدة كأول قوة اقتصادية في العالم، والكثير من رجال أعمالها وأثريائها يساهمون بأموالهم في نصرة الثقافة الفرنسية والإنفاق على نشاطاتها، ابتداءً بالملياردير المعروف «جون دافيدسون روك فيلير» الذي كان أول من أسّس لهذا التقليد الأميركي اتجاه فرنسا، حين وهَب بين الحربين العالميتين أكثر من مليون دولار (ما يعادل آنذاك 18 مليار فرنك فرنسي) لإعادة ترميم كاتدرائية مدينة غيرمس، وقصر فونتان بلو وكذلك قصر فرساي، في وقت كانت فيه فرنسا في وضع اقتصادي حرّج، وهذه التحف الفنية والتاريخية مهجورة آيلة للسقوط. بعد روك فيلر عرفت الثقافة الفرنسية عدداً كبيراً من الأميركيين الذين انتصروا لدعمها وتمويلها، ويقال ان عدد المليونيرات بينهم يصل إلى حد المائة شخص، هذا بغض النظر عن الشركات الكبيرة. بعض هذا التمويل يأتي منظماً وعبر مؤسسات خيرية مهمتها جمع الأموال لصالح المؤسسات الثقافية وبعضه الآخر يتكفل به أفراد لا يكتفون بجمع الأموال بل يستغلون صيتهم أيضا لنقل عشقهم للثقافة الفرنسية والتأثير لجذب مانحين آخرين. أنشط الممولين الأفراد حالياً، هو المليونير غريغوري أنبرغ الذي كان جّده «والتر» على رأس مملكة إعلامية باعها لغوبرت مردوخ ليتفرغ لنصرة الثقافة الفرنسية بعد أن أبدى شغفه بها. علماً أن قصة الداعمين الأميركيين مع الثقافة الفرنسية ارتبطت بصفة خاصة بقصر فرساي العريق باعتباره المكان الذي شهد حدثاً مهماً بالنسبة لأميركا وهو توقيع معاهدة استقلال الولايات المتحدة1783، لذلك فإن الأميركيين وهبوا لهذا القصر الأنيق، أكثر مما وهبوا لغيره من المؤسسات الثقافية الفرنسية عبر عدة مؤسسات خيرية. فهناك مؤسسة الولد مونيمنت فوند التي تكفلت بتمويل مسرح ماري أنطونت بجناح التريانون الصغير في قصر فرساي.

نفس المؤسسة تتولى هذه السنة عملية ترميم تماثيل حديقة القصر لاسيّما حديقة أبولون المعروفة. إضافة إلى مؤسسة غريس ومؤسسة بربارة هيتون التي أنفقت الكثير على إعادة ترميم وتأثيث الجناح الملكي بقصر فرساي في السنوات السبعين بعد أن كان قد تعرض للنهب والسرقة إثر الثورة الفرنسية. الأميركيون هم أيضا من يقف وراء مؤسسة أصدقاء فرساي أو فرانز أوف فرساي التي قامت سنة 2006 برعاية المليونيرة الأميركية كاترين هاملتون بإعادة ترميم حديقة الينابيع الثلاثة أو ليه تروا فونتان التي كلفت ما يزيد على 8 ملايين يورو جمعت من 800 متبرع أو أكثر.

دار الموسيقى العالمية العريقة أوبرا باريس حظيت هي الأخرى بعناية وهبات كثيرة من الأثرياء الاميركيين، فهم يدفعون لها وعبر مؤسسة أصدقاء الأوبرا أكثر من مليوني دولار سنوياً أهمها تأتي من ملاك شركة أرنست أند يونغ الأميركية المختصة في ميدان الاستشارات القانونية والمالية. مؤسسة أصدقاء اللّوفر التي تضم غالبية من المانحين الاميركيين لعبت هي الأخرى دوراً مهماً في دعم نشاط متحف اللوفر العريق، ومن أهم إنجازاتها تجهيز المتحف بنظام إشارات جديد متعدد اللغات، وتزويد موقع المتحف بالترجمة الانجليزية لجميع كتالوجات التحف الموجودة، إضافة إلى تمويل عدة برامج بحث خاصة بالفنون الأميركية والإسلامية. مؤسسة الرسّام المعروف كلود مونيه صاحب رائعة «نساء في الحديقة» و«مستنقع الضفادع» حظيت هي الأخرى بهبات كبيرة من الاميركيين، ربما لأن هذا الفنان المعروف بكونه رائد المدرسة الانطباعية في الرسم، أثّر كثيراً في ظهور تيّار من الرسامين الانطباعيين الاميركيين، وكان أشهرهم قد أقاموا في حياة الفنان مونيه بمكان سمي «بمستوطنة جيفرني»، بالقرب من بيته، وكان بمثابة المدرسة لأنه ضم غالبية من الرسامين الاميركيين الشباب، الذين قدموا لتعلم أصول الانطباعية. بل ان المتحف الواقع بمحاذاة بيت الفنان بني كله بأموال أميركية وسمّي على شرفهم بمتحف «الفن الأميركي الانطباعي».

أهمية هذه المصالح، جعلت أخبار الأزمة المالية وتدني سعر الدولار بالمقارنة مع اليورو تنزل كالصاعقة على مسؤولي الهيئات الثقافية الفرنسية الذين سارعوا نحو شركائهم الأميركيين للتّأكد من وفائهم لتقليد النصرة واحتفاظهم بقدراتهم المادية للإنفاق على هذه المؤسسات المكلفة، فجاء الدخول الثقافي الجديد لهذه السنة -بالرغم من حالة الفوضى التي تطغى على الأسواق- مزدحماً بالأميركيين وكأن الساحة الثقافية الباريسية لا تعرف غيرهم. مانحون كُثر وقفوا وراء عدة نشاطات ميزت الدخول الثقافي الجديد: معرض المصورة المعروفة «أني ليبوفيتش» في دار "الصورة الأوروبية" أنجز بفضل تمويل من شركة أميركان أكسبرس. معرض الفنان المعاصر جيف كونز في قصر فرساي الذي أثار الكثير من الجدل، تمّ بتمويل من المجمع الأميركي إيلي برود، حتى سلسلة مطاعم ماك دونالدز التي أصبحت هذه السنة شريكاً أساسياً لمتحف العطور في غراس، ومؤسسة تيرا التي تساهم هذه السنة في متحف جيفرني. المشاريع التي هي قيد التحضير والإنجاز ليست بالهيّنة هي الأخرى، فمتحف أورسيه الواقع على ضفاف السين يستعد لتنظيم عدة تظاهرات مشتركة مع متحف المُوما بنيوروك في مطلع 2009، كما أن مسرح شاتليه ومركز جورج بومبيدو يستعدان لتدشين مؤسسات صداقة مشتركة أميركية فرنسية، لأول مرة لتشجيع نشاط الممّولين الاميركيين. موسم الاميركيين في باريس ميزته أيضاً زيارة خاصة لأكثر من مائة مليونير من أنشط أنصار الثقافة الفرنسية لباريس لمدة أربعة أيام، بدأت بعشاء فخم في قصر غارنيه الذي بُني في عهد نابليون برعاية السيدة برناديت شيراك وألان دوكاس الطباخ المشهور ثم زيارة لعدة معالم فنية وتاريخية كقصر فرساي ودار الأوبرا. زيارة النصّار الاميركيين التي كانت بدعوة من فرنسا جاءت رمزية، وكأنها رسالة خاصة باتجاه الأصدقاء الفرنسيين، مفادها التأكيد على أن أزمة الوول ستريت لن تطال هباتهم المعهودة اتجاه الثقافة الفرنسية. لكن الوضعية قد تتغير في أية لحظة كما صرح بذلك هال ويت مدير مؤسسة فرندز أوف أوبرا: فإن كان الأنصار الأميركيون في غاية الكرم لغاية اليوم، فإن الوقت لا يزال مبكراً لمعرفة تأثير أزمة البنوك عليهم. وفي هذه الأيام العصيبة علينا أن نتوقع حدوث أي شيء.. نفس الاستنتاج وصل إليه يان لوتواغ، مسؤول قسم النصرة في متحف أورسيه الذي يتوقع للمؤسسات الفرنسية أياماً صعبة، فالوضعية بدأت تتعقد منذ حوالي أسبوع لأن منح رجال الأعمال الأميركيين قد تتقلص قريباً وتكثر منافسة الدول الأوروبية الأخرى عليها، خاصة وأن القطاع الحكومي الفرنسي لم يعد ينفق على هذه المؤسسات.