«الأفروقراطية».. نمط جديد للحكم؟

16 دولة أفريقية شهدت في مطلع التسعينات انتخابات تعددية

TT

يمكن لأفريقيا أن تشهد نهضة حقيقية، حيث يمكن أن تفضي الأزمة الحالية إلى تجريد أفريقيا من نمط التنمية الاقتصادية المفروض من الخارج والذي يؤدي بدوره إلى مزيد من التخلف والتبعية، كما يمكنه تخليصها كذلك من نمط الليبرالية السياسية المفضي إلى إقامة أنظمة ديمقراطية زائفة. لكن في النهاية يرى البعض أن أفريقيا هي قارة المستقبل، قارة القرن الواحد والعشرين، حيث يمكن إعادة تخطيط الحدود القائمة في أفريقيا بما يتفق وحقائق الطبيعة والإنسان، بما يؤدي في النهاية إلى خلق الدولة القومية الحديثة المتزنة، والسؤال الآن: هل يمكن للنخب السياسية الحاكمة اليوم في أفريقيا أن تملك إرادة التخطيط للمستقبل؟

يقول أحد الأمثال الإفريقية «إذا تصارع فيلان كبيران فإن الحشائش من تحت أقدامهما هي التي يلحقها الضرر البالغ». وربما ينطبق ذلك المثل أيضا على الفيلين حال لهوهما معا، غير أن النتيجة واحدة في كلتا الحالتين وهي تضرر الحشائش الضعيفة.

كم يبدو هذا المثل الأفريقي انعكاساً حقيقياً لعلاقة أفريقيا بالنظام الدولي في القرون الأخيرة. أفريقيا المغتصبة والمسروقة من الدول الكبرى عبر رحلة طويلة بدأت من سفينة الرقيق لكنها لم تنته عند حد السفينة الفضائية، إذ لم ينته الارتهان الأفريقي لأوربا حتى بعد انتهاء الاسترقاق والاستعمار.

عن أفريقيا الماضي والحاضر والمستقبل يكتب د. حمدي عبد الرحمن أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة كتابه الصادر حديثا تحت عنوان «أفريقيا وتحديات عصر الهيمنة... أي مستقبل؟». الذي يحاول فيه تقديم رؤية معرفية لفهم أفريقيا وتشخيص أسباب عثرتها مع وصف برامج النهضة والإصلاح، وذلك بشكل يتجاوز انحيازات وأخطاء النموذج المعرفي الغربي عبر ثلاثة محاور رئيسية.

يطرح الباحث في محوره الأول إطارا نظريا لفهم السياسة الأفريقية المعاصرة، بعد مناقشة إشكاليات منهجية ونظرية تتلخص في غياب الرؤية التحليلية الكلية الملائمة لفهم الواقع السياسي والاجتماعي الإفريقي الراهن، والوقوع في خطأ التعميم وحدود العام والخاص في دراسة النظم السياسية الإفريقية، نظراً لواقع التعدد والاختلاف الذي تشهده دول القارة، فضلا عن إشكالية الارتباط بالصور الذهنية السائدة والقوالب الجامدة الخاصة بالإدراك العام للسياسة الإفريقية، حيث يعكس الانشطار الفكري حول تفسير الأزمة الإفريقية هذه الإشكالية، ما بين تيار تشاؤمي يختزل أفريقيا في سياسيات الفوضى والحروب والمجاعات واللاجئين وانهيار الدولة، والاتجاه الآخر الذي يرمي لتسويق أفريقيا من خلال تطبيق سياسات الإصلاح السياسي والاقتصادي، أو التعبير عن رؤية افريقية مثالية لتحقيق نهضة أفريقيا.

يرصد الباحث في ثنايا عرضه للنظرية السياسية الإفريقية عدة أطر ومداخل على قدر كبير من الأهمية، إذ يناقش التحول الديمقراطي الذي شهدته أفريقيا والانتقال من النظم التسلطية، حيث شهدت ستة عشرة دولة افريقية في مطلع التسعينات انتخابات تعددية. غير أن الواقع الآن يعتريه كثير من الغموض، وسط تزايد العنف للوصول إلى السلطة، أو للمحافظة عليها مثلما حدث في النيجر وبوروندي والكونغو الديمقراطية والكونغو برازفيل، وكينيا وزيمبابوي، فضلاً عن اندلاع أعمال العنف والصراع الداخلي كما في سيراليون والسودان والصومال وأنجولا ورواندا وبوروندي والكونغو. الأمر الذي يرسم مستقبلاً يدعو للتشاؤم، بصورة دفعت كثير من الأفارقة إلى الاعتقاد أن الديمقراطية هي مجرد مسالة ترفيه وأن المطلوب هو نمط إفريقي من الديمقراطية الشعبية يختلف تماما عما هو متعارف عليه في الغرب الرأسمالي، حيث أدت التحولات الديمقراطية إلى استبدال الحزب الواحد بأحزاب صغيرة غير ديمقراطية الطابع يمثل بعضها الطبقة السياسة الجديدة، إذ تحرص هذه النخب الجديدة على تكديس الثروة والحصول على السلطة من أجل السلطة تماما مثل الجيل القديم من النخب الإفريقية الحاكمة.

يظل الصراع الدولي حول أفريقيا مؤثرا وحاضرا بقوة، أفريقيا من أكثر المناطق تهميشاً واستبعاداً، ومنذ نهاية الحرب الباردة وتدشين ما يسمى بالنظام العالمي الجديد عانت أفريقيا مزيدا من التهميش. ورغم التحولات الاقتصادية والسياسية التي بدت للبعض مسايرة لمعايير التحرر السياسي والاقتصادي على النمط الغربي، إلا أن هذه التحولات أفضت إلى نمط إفريقي جديد في الحكم هو «الأفروقراطية»، وهو نمط جديد للحكم يحافظ على تراث الحكم الفردي الشمولي، وان كان يسمح ببعض ملامح الديمقراطية الليبرالية. والغرب من ناحيته لا يرفض هذه الأشكال السلطوية طالما لا تتعارض مع مصالحه الاستراتيجية في القارة.

شكل عالم ما بعد 11 سبتمبر أهمية خاصة لأفريقيا، إذ بدت محوراً أساسياً في التفكير الاستراتيجي الأميركي، الذي لم يكن يخفي اهتمامه بأفريقيا منذ أواخر القرن الماضي لحماية خطوط التجارة البحرية، والوصول لمناطق التعدين والمواد الخام، وفتح الأسواق أمام حركة التجارة والاستثمارات الأميركية. لكن الحرب على الإرهاب غذت هذا الاهتمام الأميركي بأفريقيا، خاصة بعد تنامي مشاعر العداء لها في كثير من مناطق القارة السوداء، لاسيما منطقة القرن الأفريقي، حيث أضحت دول كثيرة على رأسها الصومال ملاذاً آمناً لبعض الجماعات والتنظيمات التي تضعها الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب بسبب الضعف المؤسسي لدولها، حيث يسهل اختراق الحدود، فضلا عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يجعلها بيئة خصبة لنمو المشاعر المعادية للغرب.

كانت السياسة الأميركية في أفريقيا تعتمد دوما مرتكزات أساسية من بينها التركيز على مناطق إقليمية معينة، واختيار دولة أو أكثر تمارس دور القيادة مثل جنوب أفريقيا في الجنوب، ونيجيريا والسنغال في الغرب، وإثيوبيا في الشرق. فضلا عن طرح قضايا معينة ووضعها على قائمة السياسة الأفريقية للولايات المتحدة مثل الإرهاب والتطرف، وتدفق المخدرات، والجريمة الدولية، وحماية البيئة، وحقوق المرأة الإفريقية، في خضم تنافس دولي أميركي فرنسي، دخلت فيه الصين أخيراً بقوة من أجل الهيمنة على الغاز والنفط، تبدو فيه أزمة دارفور الانعكاس المباشر لذلك الصراع، وسط سيناريوهات يمكن أن يواجهها السودان منها العمل على أفرقته وإبعاده عن محيطه الإسلامي للتخلص من عقدة النظام الإسلامي الحاكم والخوف من انتشار الأصولية الإسلامية، وإعطاء الجنوبيين دوراً كبيراً في صياغة القرارات القومية وذلك من خلال التأكيد على علمانية الدولة وإعطاء الجنوب حق تقرير المصير، أو العمل على تفكيك الدولة عبر انفصال الجنوب طبقاً لاتفاق السلام النهائي، وعزل إقليم دارفور الذي يشكل خمس السودان، وتشجيع أقاليم أخرى على الانفصال. حتى يتحول السودان في النهاية إلى كيان هش يمكن وضعه في حالة فوضى تسمح بعد ذلك بالتدخل الدولي من أجل السيطرة والاستقلال.

يشير الباحث في ثنايا تعرضه للتوازن الإقليمي في شرق أفريقيا إلى أهمية المنطقة كونها منطقة صراع متعدد الجوانب، صراع مائي واجتماعي وطائفي، حيث يحذر من استهداف الأمن العربي من هذه المنطقة، مشيرا إلى ضرورة التوافق العربي الافريقي حول تنظيم أمن البحر الأحمر، وتسوية الأوضاع المائية حول نهر النيل، وسط غياب فعلي لأي حوار استراتيجي بين العرب والأفارقة، حيث تراجع لأدنى مستوياته، إذ انشغل كل طرف بقضاياه الكبرى. ويدعو الباحث إلى ضرورة إعادة تصحيح المفاهيم التي تعكس المخزون الثقافي والحضاري المتعلق بالعروبة والإسلام، والأفريقانية وإزالة أي إمكانية متصورة للصدام، عبر تصحيح الصورة الذهنية والقوالب الجامدة المرتبطة بالآخر عند كل طرف والتعامل الجاد الواعي مع القضايا الحساسة في تاريخ الذاكرة الجماعية لأطراف الحوار مثل قضية الدور العربي والإسلامي في تجارة الرقيق، فضلا عن الاتفاق على أسس جديدة للتعاون بما يحقق المنفعة المتبادلة لكل طرف وعدم اختزال العلاقات في مسألة الدعم المالي فقط. يختتم الباحث كتابه باستعراض تحدي التنمية في أفريقيا، مشيراً إلى وجود عدة سيناريوهات تكتنف المستقبل الأفريقي الذي يرزح حاضره تحت آلة الحرب والصراع والمجاعة، إذ يرى الباحث أن أفريقيا قد يعاد استعمارها مرة أخرى، لكن هذه المرة من أبنائها، حيث يتم إعطاء بعض الكيانات الكبيرة المهيمنة دوراً إقليميا مسيطراً: مصر في الشمال، ونيجيريا في الغرب، وأوغندا وتنزانيا في الشرق، وجنوب أفريقيا في الجنوب.

لكن من ناحية أخرى يمكن لأفريقيا أن تشهد نهضة حقيقية حيث يمكن أن تفضي الأزمة الحالية إلى تجريد أفريقيا من نمط التنمية الاقتصادية المفروض من الخارج والذي يؤدي بدوره إلى مزيد من التخلف والتبعية، كما يمكنه تخليصها كذلك من نمط الليبرالية السياسية المفضي إلى إقامة أنظمة ديمقراطية زائفة. لكن في النهاية يرى البعض أن أفريقيا هي قارة المستقبل، قارة القرن الواحد والعشرين، حيث يمكن إعادة تخطيط الحدود القائمة في أفريقيا بما يتفق وحقائق الطبيعة والإنسان، بما يؤدي في النهاية إلى خلق الدولة القومية الحديثة المتزنة، والسؤال الآن: هل يمكن للنخب السياسية الحاكمة اليوم في أفريقيا أن تملك إرادة التخطيط للمستقبل؟