تبديل الواقع برموز مفترضة

الفيلسوف الفرنسي بودريار في «المصطنع والاصطناع»

TT

يحتشد عالمنا المعاصر بحزمة لا متناهية من رموز مفترضة وتصورات متخيلة ومدلولات رقمية، ما دفعت بالحقيقي - من الاشياء الى المعاني - الى ان يهاجر ليحضر الوهم بديلا عنه.

عالم يصفه الفيلسوف والمفكر الاجتماعي الفرنسي جان بودريار (1929-2007) في كتابه «المصطنع والاصطناع» الصادر عن المؤسسة العربية للترجمة، ترجمه الى العربية «د. جوزيف عبد الله»، بـ «فوق – العالم».

خيار حضاري تم القبول به منذ الحرب العالمية الثانية جراء تحولات حاسمة وتطورات فائقة حدثت بأثر التقانة التي طالت مناحي الحياة، خاصة في مجالات الميديا، التكنولوجيا الرقمية، ووسائل التحكم عن بعد، وحضورها المهيمن في الواقع، لجهة اعادة صياغته. تبدل كهذا لحق ايضا بغائية الاشياء الاصيلة التي تحولت الى غاية مغايرة.

فالواقع ما عاد ظاهرا بل «محتجب» خلف واقع مصطنع ورقمي. احتجاب ولََََد خسارة باهظة للانسان حينما بدأ يفتقد ما هو حسي وحقيقي، جراء غياب قيمة الاشياء وموضوعاتها الحية ليستعاض عنها بمتاهة مصطنعة من الصور المتخيلة والوهمية، والقابلة غواية الآخرين.

يصف بودريار «الاصطناع» بكونه عملية توليد نماذج لا تحتفظ بأصل ولا تحيل الى واقع حقيقي. مخلوقة من خلايا مصغرة قادرة على افتراض الواقع لمرات غير متناهية، لا يخضع لمقاييس او الى اية مرجعيات مثالية. واقع اجرائي يخلو من خيال حقيقي يحيط به، ومنتج في فضاء مجاله غير محدود. وما يطرحه الاصطناع الذي يعرفه بودريار وهو الابرز بين مفكري ما بعد الحداثة «التظاهر بامتلاك ما لا نملك»، فلم يعد هناك وجود لحقيقة او مرجع، لان الغموض بات متجاوزا ليغمر مبدأ الحقيقة.

ان الامر لا يتعلق هنا بالمحاكاة، التكرار، بل باستبدال الواقع برموز مفترضة عنه. مبادلة صيرورة الواقع ببديل اجرائي، مبرمج وخال من اية مغامرة طارئة.

تاريخيا، بدأ الامر من محاولة التمثيل للرمز المتعالي، كما حصل مع الايقونة البيزنطية، حينما جعلت من المحاكاة وسيطا مرئيا وعاقلا للموضوع. تمثيل كهذا كان يؤدي الى عمق المعنى، والذي عيَن الصورة بوصفها حضورا غير قابل للمبادلة سوى مع ذاتها، في حين ان مرجعيتها الالوهية لا تنتمي الى اي مكان.

كان التمثيل يبدأ من فعل تبادل مع الواقع، معادلة يحتفظ خلالها المتمثل في علاقته الحية مع الواقع، بخلاف ما يحصل في الاصطناع، الذي ينفي الرمز باعتباره قيمة، بل ويردعه من تبيان حقيقة الاحالة التي ينطوي عليها. لقد تقدم الاصطناع كي يكون متجاوزا للتمثل.

يذكر بودريار بالطريقة نفسها، ولنفس ذريعة المحافظة على الاصل، منع الزوار من الدخول الى مغاور لاسكو، لكن تم بناء نسخة مطابقة على مسافة خمسمائة متر ليتمكن الجميع من مشاهدتها، ومن المحتمل ان تتلاشى ذكرى المغاور الاصيلة من فكر الاجيال المقبلة، لكنه لم يعد هناك اي فرق من الان فصاعدا: فالنسخة تكفي لاعادة الاثنين (الاصل والنسخة) الى المجال الاصطناعي. في السياسة كما في ميادين الايديولوجيا وفي الميديا وحتى في الحرب ندخل في لحظة التلاعب المطلق، في الاصطناع.

يشكل عالم «ديزني لاند» بداية لعبة من الاوهام والاستيهامات. عالم جديد مصطنع لاميركا الشديدة الواقعية بسيئاتها وحسناتها، وذلك عبر افراط الادوات الساحرة لهذا العالم في ادامة التأثير المتعدد للجمهور. اذ يشكل فعل الاصطناع في هذا العالم تقديم هذا المكان بصورة خيالية غرضها اعادة توليد وهم للواقع وبعث الخيالي واقعا متوهما.

كذلك الامر مع ما سمي بفضيحة «ووترغيت». تلك العملية الهادفة بسحرها السياسي، والمدعوة الى ان تبعث من خلال الفضيحة مبدأ اخلاقيا وسياسيا. كان التشهير بالفضيحة وكأنه بمثابة تمجيد للقانون مما شكل تحديا تجب مواجهته طبقا لقواعد رمزية. كانت ووترغيت فخا نصبه نظام لخصومه. اصطناع فضيحة لغاية متجددة ملحة للمظهر الموضوعي لاميركا وهو مبدأ الواقعية السياسية.

تكمن خطورة الاصطناع في كونه يدفع دوما الى الافتراض، الى ما يجاوز واقعه. ذلك ما يمكن تلمسه في الحوادث، الاضرابات، التظاهرات، الازمات، فجميعها ما عاد له غايات معينة، انها تندرج جميعها كإجراء طقسي لوسائل الاعلام. فهي تشتغل من اجل تكرار رموزها وليس من اجل غاية واقعية.

نحن المحكومين بفيضان وسائل الاعلام والميديا وضغطهما وانتشارهما الوبائي، بل حتى عنفهما وابتزازهما، بتنا مدينين ومدمنين لكل تصور تفترضه تلك الوسائل.

ذلك ما يقدمه جهاز التلفاز، الذي تحول كي يكون صانعا لواقعية وواقع خاصين به. جهاز قائم على التعارض بين الناظر والموضوع والمنظور. الجهاز الذي يشاهدنا، لاننا نحن هي الاخبار، نحن هم الاجتماعيون، الحدث المعنى بهم. معه يندمج الواقع بالرمز بالوسيط، اختلاط الرسول بالرسالة، ذوبان التلفاز في الحياة وذوبان الحياة في التلفاز.

والأمر كذلك في مجال التهديد المباشر بالتهديد النووي، حيث يشخص مفهوم الردع الذي يفترض ان الانفجار الحقيقي مستبعد. فحقيقة الوضع هو في غياب احتمال التدمير. فهذا الردع الذي يستبعد الحرب هو ذاته العنف المحايد، عند دعوته الى ان الحرب الذرية لن تقع.

يماثل تداول الردع تداول الرساميل العالمية. وبما ان الردع يفتقد مرجع تدمير واقعي، توجد ايضا الرساميل العائمة دون انتاج واقعي. ان ما يحصل هو تطوير فائض التحكم، لتقليص جميع النزاعات والمواجهات وتهدئتها بقياس الابتزاز القابل على تجميدها وايقافها سريعا. بذلك لم يعد هناك افق لأي استراتيجية، فقط عمليات اصطناع الرهانات ونزاعات تحتوى بالتحكم وبعناية بالغة.

في مقالته «القيامة الآن» يعاين بودريار تماثل تقنية الحرب والسينما. ينتج «كوبولا» فيلمه كما ينتج «الاميركيون الحروب. بالمغالاة نفسها، والافراط نفسه والنجاح نفسه» بالبراءة الفظيعة ذاتها.

الحرب بالنسبة للاميركيين هي ان تحطم خصمك. وهي قبل كل شيء مختبر للتجارب ولاختبارات قدرات الاسلحة ووسائلها. «كوبولا» يفعل الشيء ذاته في فيلمه «القيامة الآن»، اختبار قدرة السينما على التدخل واختيار آلياتها ومؤثراتها الخاصة.

الحرب تحولت الى فيلم والاخير يعكس حربا ويشترك الاثنان في الذوبان في التقنية.

يستعرض الفيلم بقدرة حيادية قرى تحرق بالنابالم، ونبدأ معه من تلك اللحظة الفارقة للمشاهدة باقتراح ان حرب فيتنام لم تقع. فهي ليس سوى حلم مؤلف من حرائق النابالم ومشاهد استوائية. انها القدرة على تكريس فيلم ينبئ بنفسه عن نقد موضوعه. الحرب، حرائق على وقع موسيقى فاغنر، خدعة سينمائية تدعونا الى ان نلاحظ الفكرة البسيطة الآتية : لقد خسرت اميركا الحرب في فيتنام وربحتها في الفيلم. لقد حققت نصرا عالميا اذن. فالقدرة السينمائية معادلة لآلة الحرب ولقوة البنتاغون والحكومة.

فكل ميديا هي عملية مزيلة للدلالة ومقوضة للمعنى. والتي كان يؤمل لها ان تنتج عملية تداول مسَرع للمعنى او فائض قيمة له. بأثر تواصلها وقدرتها على توزيع جميع ما تحمله الى ثنايا المجتمع. الا ان ما حصل هو العكس. لقد اصبح الاعلام يلتهم المضامين بأثر خضوعه لصيرورة الاصطناع. حالة من العمل في مدار مغلق، تمارس تجميد مضامين المعلومة والمعرفة.

فبعد الغاء المضامين تبقى الميديا بكونها قيمة استعمالية، او تكتفي بذلك. وحيث يغيب التمييز بين تعريفها وفعلها او وظيفتها. ان ما تبقى هي الرسالة التي تعطي للميديا مبرر الوجود.

ان الوضع الوحيد المتبقي الذي تلغى فيه الحدود والتعارضات والتمايزات واشكال التعارض بين الواقع والميديا.هنا يصبح التفكير بثورة عبر المضامين او عبر الشكل بحثا لاطائل منه. فما بعد الميديا لا يكون اي امر له معنى موثوق.

لقد باتت الميديا مؤسسة احادية الاتجاه، دونما جواب او عودة. انها ماضية في كل الاتجاهات معا، نشر المعنى وضده بذلك تحول الاصطناع الى نظام.

فيما كان الخيال تعليلا للواقع في عالم يهيمن عليه مبدأ الواقعية. اما اليوم فالواقع اصبح تعليلا للنموذج في عالم يحكمه الاصطناع.