حرمان المرأة من أهليتها عدوان صارخ وجحود لإنسانيتها

المفكر السعودي إبراهيم البليهي لـ «الشرق الأوسط» :

إبراهيم البليهي
TT

في حواره مع «الشرق الأوسط» يرى ابراهيم البليهي، الكاتب والمفكر وعضو مجلس الشورى السعودي، أنه من الصعب القول ان هناك غياباً للمرأة فقط، ففي العالم العربي يعتبر الإنسان برجاله ونسائه غائبا ومغيّبا منذ أحقاب بعيدة، بل هو لم يوجد أصلا، وتحدث عن الثقافة العربية التي لا تعترف بالنزعة الفردية، مشيراً إلى أن المشكلة في قضايا المرأة وغيرها من القضايا المزمنة، هي مشكلة ثقافية أولا وآخراً.

> ماذا فقدنا بغياب المرأة؟

ـ ليس الغياب في العالم العربي مقصورا على المرأة، إنما الإنسان العربي برجاله ونسائه غائب ومغيّب منذ أحقاب بعيدة، بل هو لم يوجد أصلا، فالثقافة العربية لا تعترف بالنزعة الفردية وهذا هو المصدر الأساسي للخلل في الحياة العربية.

إن التأكيد على أن المعضلة أكبر وأعمق من قضية المرأة لا ينفي معاناتها، فلا شك أن غبن المرأة مضاعف في بعض المجتمعات العربية لكن مشكلتها ليست مفصولة عن مشكلة الإنسان العربي عموما برجاله ونسائه وكباره وصغاره.

> لكن يبدو أن المرأة هي الحلقة الأضعف..

- مشكلة المرأة هي جزء من معضلة كبرى هي الاستخفاف الكلي بقيمة الإنسان الفرد والوصاية عليه والتعامل معه بوصفه قاصرا وغير مسؤول، لذلك فإن التركيز على موضوع المرأة يوهم بأن الرجال لا يعانون مشكلة.

لذلك لا بد من التأكيد بأن ما فقدناه في العالم العربي ليس بغياب المرأة، إنما بغياب الإنسان الفرد، سواء أكان ذكرا أم أنثى.

> كيف ترى مستوى مشاركة المرأة في الحياة العامة؟

ـ ليس المهم هو الحضور الظاهري والمشاركة الشكلية، لأن مشاركتها وظهورها وحضورها الصارخ بل المنفلت أحيانا خلال القرن العشرين، كله تقريبا في الكثير من الأقطار العربية والإسلامية لم يحقق أي تحسُّن في الأوضاع العامة. إن الشعوب العربية برجالها ونسائها يماثلون ركّاب القطار، فهم يتحركون داخل القطار في كل الاتجاهات، لكن حركتهم لا تؤثر في اتجاه القطار، فهو يمضي بهم إلى حيث يريد هو في اتجاهه المحدّد من قبل، ومع ذلك فإنه لا بد من التأكيد بأن للمرأة حقوقا عامة يجب أن تنالها، وأهم حقوقها الاعتراف بأهليتها الإنسانية الكاملة.

> هل ثمة اشتراطات لتحقيق المشاركة؟

- المشاركة التي تشير إليها تتطلب تغييرا جذريا في موقف الثقافة العربية من الإنسان، سواء أكان رجلا أم امرأة، فمشكلة المرأة هي امتداد لمشكلة الإنسان الفرد بجنسه، ومع ذلك لا بد من التأكيد بأن حرمان المرأة من أهليتها التي هي أهم خصائصها الإنسانية هو عدوان صارخ عليها وجحود لإنسانيتها، لكن الذين يمنعونها من حقها الإنساني وينتقصون مسؤوليتها عن ذاتها يتوهمون ويعتقدون أنهم يفعلون الخير لها، فالإنسان كائن ثقافي وأيا كانت ثقافته، فإن لديه ثقة تامة بصواب رأيه، كما أن لديه أياً كان اتجاهه قدرة عجيبة لتأكيد موقفه وتبرير سلوكه.

> هل ترون أن غياب المرأة ناتج عن ذكورية مجتمع أم أن قسماً من النساء ألف عصر (الحريم)؟

ـ إن الإنسان كائن ثقافي، فثقافته تحكمه ولا يحكمها، فكل ثقافة تصوغ أهلها صياغة خاصة تختلف عن صياغات الثقافات الأخرى، وبهذه الصياغة تجعلهم تلقائيا ذائبين فيها ومقتنعين بها، فالمشكلة في قضايا المرأة وغيرها من القضايا المزمنة، هي مشكلة ثقافية أولا وآخرا، بدليل أن انتقاص المرأة لا يأتي فقط من الذكور وإنما أكثر النساء قد تبرمجن بالثقافة الذكورية أشد من الرجال، فهن مقتنعات تمام الاقتناع بأوضاعهن الحالية ربما أكثر من اقتناع الرجال! وهذه هي المعضلة الحقيقية، فالقضاء على الفقر يستوجب تجاوز ثقافة الفقر، كذلك الاعتراف بمكانة المرأة يتطلب تجاوز ثقافة الوصاية عليها والامتهان لها، وأكبر دليل على ذلك أن النساء المثقفات وهن أقلية يواجهن حربا شعواء من أكثرية النساء المقتنعات بالحالة الراهنة.

> ما هو دور الثقافة العربية؟

- الثقافة العربية ثقافة ذكورية بامتياز، لذلك فإنها تميل بقوة وإفراط إلى التضييق على النساء بشتى الطرق وتبحث عن أية مبررات شرعية أو اجتماعية لهذا التضييق فتلجأ إلى قاعدة سد الذرائع لتملأ حياة النساء بالمحظورات إعمالا لهذه القاعدة، فتُمنع المرأة مما هو مباح لها وتُلزم بما لم يلزمها الله به، ويتناسى هؤلاء أن الأصل هو الإباحة وأن المنع هو حق لله وحده، وأن من حق المرأة أن تعيش كما يعيش الرجل من دون تقييد أو تضييق إلا ما حدّده الله، كما ينسى هؤلاء أن المرأة دائما مغلوبة وليست غالبة، وأن الخطر عليها وليس منها، فهي لا توقع الرجال، إنما هم الذين يوقعونها.

> لكن لا شك أن لغياب المرأة حزمة أسباب..

ـ يرجع هذا الغياب إلى ما توارثناه من عادات وما ألفناه من تقاليد وما نشأنا عليه من أسلوب حياة ومنظومة قيم وطريقة تفكير، فمن المؤكد أن هذا الغياب ليس مصدره تعاليم الدين الربانية، إنما هي العادات، فالموروث له سلطة مهمة وليس هذا من خصوصيات الثقافة العربية، فهذا التشدد في العالم العربي ليس مصدره الدين، إنما هي العادات تبحث لها عن تبريرات شرعية، وكان على النساء أن يتحملن الكثير من الممنوعات، وأن يلتزمن بالكثير من الواجبات تحت ذريعة إعمال قاعدة سدّ الذرائع، فالنساء هن المتضررات من هذا الإمعان، لكن ما يلفت النظر أن الأصل في الذرائع عند الفقهاء أنها تُفتح مثلما أنها تُغلق، لكن في التطبيق هنا من النادر أن تسمع عن فتح الذرائع، إنما المتكرر الشائع هو دائما سدّها، وكأن الأخذ بهذه القاعدة محصور بالإلزام والمنع والحجْر والإغلاق وإغفال دواعي الفتح والتيسير، خصوصا إذا تعلق الأمر بالنساء.

> هل ترى أن مشاركة المرأة في بلدان الخليج تعبّر عن حقيقة الواقع الذي تعيشه المرأة، أم أن هناك تهميشا مقصودا لدورها؟

ـ إن مشاركة المرأة في بلدان الخليج ليست متماثلة، ففي الإمارات العربية المتحدة مثلا يوجد في التشكيلة الوزارية أربع نساء ويختلف حجم ومستوى المشاركة بين بلد وآخر، أما في المجتمع السعودي فإن غياب المرأة عن المشاركة هو أمر واقع نشأ عليه الناس واعتادوه، فصار لهم طبيعة راسخة ولا يمكن تخليصهم من هذه العادات المستقرة، إلا بفتح النقاش القوي المتكافئ وتداول الأفكار بأمان وحرية. إن التقاليد والأعراف والعادات والقيم الاجتماعية كلها موروثة وليست من ابتكار الأفراد، فالناس لم يصوغوا بأنفسهم هذه التقاليد التي نشأوا عليها، بل هم محكومون بها ولا يحكمونها، إنها سابقة لوجودهم وباقية بعدهم، إن تهميش الإنسان كارثة حضارية وقد نجم عن القيود المفروضة على المرأة تجميد أموال هائلة.

> ما هي مسؤولية المرأة عن أسباب هذا الغياب؟

ـ الملاحظ أن، المرأة في مجتمعنا ضد المرأة، وهذه نتيجة طبيعية للتنشئة التي تنتقص المرأة وتحيلها إلى مصدر للإغراق والإغواء والإفساد، إن الأفراد يمتصون القناعات والعادات من البيئة الاجتماعية التي يتربون فيها وهذه القناعات هي التي تشكل عقولهم وعواطفهم وعاداتهم الفكرية والسلوكية، فالموقف من المرأة ليس ثمرة بحث عقلاني، بل هو برمجة ثقافية.

إن الناس لا يولدون بعقول ناجزة، إنما يولدون بقابليات مرنة ومطواعة تتشكل بالثقافة التي تستقبلهم، فتصوغ عقولهم وتكوّن طرائق تفكيرهم وتجعلهم يتطبّعون بالتقاليد والعادات والأعراف والقيم السائدة، فتسري فيهم مسرى الحياة وتجري منهم مجرى الدم.

إن التقاليد ومن أهمها الموقف من المرأة لا تخضع للعقل، فهي مسلّمات تلقائية، لذلك نجد التقاليد تتباين بتباين الثقافات، بل في البيئة الواحدة قد تختلف التقاليد من منطقة إلى أخرى.

> وهل ثمة مسؤولية يتحملها المجتمع؟

ـ إن أي مجتمع يتكون من أفراد ومؤسسات وسلطات، لكن الجميع مبرمجون بثقافة ليست من صنعهم فهم نتاج ثقافة موروثة عبر سلسلة من التناسل الثقافي، إن الناس خلال كل الأجيال مبرمجون بثقافة تحكمهم ولا يحكمونها، وتملكهم ولا يملكونها، إنهم يتكيفون للأحداث والأحوال، فتتكون عندهم تقاليد تلائم تلك الأحداث والأحوال وقد تتغير الأحوال، لكن الأجيال لا تعرف كيف نشأت تلك التقاليد، فلا يربطونها بظروفها، إنما تكتسب بمرور الزمن تبجيلا واستسلاما يحولان دون المراجعة والتعديل، وبهذا يبقى الناس محكومين بالتقاليد التي ورثوها ونشأوا عليها إلى أن تحصل أحداث جارفة قد تؤدي إلى مراجعة بعض التقاليد وتعديلها أو التخلي عنها واستبدالها بتقاليد جديدة تأخذ في التكوّن والثبات ثم تحتاج في ما بعد إلى المراجعة والتعديل وهكذا دواليك في جدلية لا تنتهي.