الطمع الأميركي وذهنية تكديس الدولارات

الجشع يوصلني إلى ما أريد.. أعطني أكثر وأكثر!

TT

ليست الأزمة المالية الأميركية الحالية التي تهزّ العالم، هي نتيجة خطأ في الحسابات أو سوء تقدير عابر، إنما هي نتاج ذهنية أميركية تعلي من قيمة الطمع، وتفتخر بتكديس الأموال، وتعتقد ابداً أن الأغلى ثمناً هو الأرفع شأناً. وقد غنّى الأميركيون للطمع والكسب السريع والربح السهل، من دون أي حرج، وربما انهم سيستمرون في ذلك. فانهيار البنوك ليس صدفة، وتغيير ذهنية شعب ما، لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة. فكيف وصل الأميركيون ببنوكهم إلى الهاوية؟ هذا ما يحاول أن يبينه التحقيق التالي.

في العصر الحديث، ليست هذه أول مرة يواجه فيها الأميركيون كارثة اقتصادية (غير الانهيار الاقتصادي سنة 1929). فخلال جيل واحد، واجه الأميركيون ثلاث كوارث اقتصادية:

في سنة 1988، كان إفلاس «سيفنغ آند لون» (بنوك توفير وتسليف صغيرة، انتشرت هنا وهناك، ثم عجزت عن تمويل نفسها). وفي سنة 1998، حصل إفلاس «الكترونيك ببل» (طفرة شركات كمبيوتر لم تستمر طويلا). وفي سنة 2007، بدأت الكارثة الحالية عندما أغرت بنوك العقارات ملايين الناس بقروض لشراء منازل. وكان واضحاً ان كثيراً منهم لن يقدروا على دفع الأقساط الشهرية. وهذا ما حدث. وفي كل مرة، يعود الاميركيون ليقرأوا كتاب «موني كلشر» (ثقافة المال) الذي كتبه مايكل لويس.

قبل عشرين سنة من هجوم 11 سبتمبر على أميركا، وإعلان بوش الحرب ضد الإرهاب، نشر مايكل لويس عبارة «إرهابيين اقتصاديين»، إشارة إلى رؤساء ومديري بنوك ومؤسسات استثمارية تعمل في «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك)، وقال انهم: أولاً، طماعون، ثانيا، غير مسؤولين، ثالثا، إرهابيون تجب محاكمتهم وسجنهم. لكن، حمل مايكل لويس المواطن الاميركي العادي المسؤولية أيضاً. وقال:«كل من يقبل عرضاً مغرياً من شخص غريب يجب أن يشك في العرض وفي الشخص». وقال انه يعرف ما يكتب لأنه، لعدة سنوات، عمل سمساراً في بنك «سولون» الاستثماري (أفلس أخيراً) في نيويورك.

خلال تلك السنوات، اكتشف، مثلا، ان بطاقة «أميركان إكسبرس» انتشرت بسبب خطة نفسية تهدف إلى إقناع الناس بأن الذين يحملونها هم أكثر الناس تعليماً وثقافة و«حضارة». وخلال تلك السنوات، نال لويس نصيبه من «وول ستريت كرسماس»، في نهاية كل سنة، عندما توزع البنوك والمؤسسات الاستثمارية مكافآت خيالية، بالاضافة إلى الرواتب الخيالية. وخلال تلك السنوات، كان صديق للويس وهو مستثمر شاب، تخرج من كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد، يشترى منزلاً بمليون دولار، وسيارتي «بي ام دبليو».

عكس كتاب مايكل لويس ثقافة المال الأميركية في أربع كلمات: استعلاء، ترف، طمع، وفي النهاية خوف.

يعتقد الامريكيون، عن خطأ أو صواب انهم، دون بقية سكان العالم، هم الأقوى عسكرياً، والأغنى اقتصادياً، والأكثر حرية، والأرفع حضارة. لكن، الاستعلاء شيء، وعقدة الاستعلاء أمر آخر، أي عندما تعتقد ان من حقك ان تفعل ما تريد. والاستعلاء ليس هو ذاته الافتخار، لكن، ليس سهلاً وضع خط فاصل بينهما.

واحدة من أشهر الأغاني الوطنية الأميركية الحديثة:«بورن ان ذا يو إس ايه» (ولدت في الولايات المتحدة الاميركية) التي يغنيها بروس سبرنغستين. رغم أن جزءاً كبيراً منها ضد التدخل الاميركي في فيتنام، وضد ظاهرة الفقر والبؤس في شوارع أكثر دول العالم حرية، وقوة، إلا أن الأغنية تعتبر وطنية جداً، ويقول مقطع منها:«ولدت في الولايات المتحدة» مرات ومرات، في فخر ربما لا يجاريه فخر آخر. وهناك أغنية قديمة تقول:«أميركا ذا بيوتفيل» (أميركا الجميلة)، نسمع في بعض مقاطعها:«أيتها الجميلة. حلم الأبطال، إلى ما وراء السنين. ليصب الله رحمته عليك، ويضع تاج الأخوة فوق تاج الاخوة، من بحر إلى بحر».

قال كتاب «ثقافة المال» ان الإحساس بالوطنية والفخر عند الاميركي ربما لا يختلف عن غيره، لكن، يؤمن الاميركي إيماناً قوياً ان إحساسه هو الأحسن. وربما لن تكون في ذلك مشكلة إذا لم يعتقد ان ذلك «رخصة» له ليفعل ما يريد.

قبل ست سنوات، في فيلم «عقل جميل» انتصر لاعب شطرنج على آخر، واحتج المهزوم وقال انه كان الأحسن، ورد عليه المنتصر:«هذا استعلاء المنهزم». وفي الصيف، خلال الالعاب الأولمبية في الصين، كانت الأميركية لنسي جاكوبيل في مقدمة منافسة سباق الجليد. وقبل ان تصل خط النهاية رفعت يداها وهتفت باسم أميركا، وفجأة سقطت، وفازت عليها «تانيا» السويسرية، وانتقدها صحافيون وقالوا انها استهزأت بمن كان وراءها.

يفعل الاميركي ما يريد بأن يستمتع بالحياة كما يريد، بترفها وماديتها. وهذا ما تعبر عنه أغنية:«أريد أن العب البولو مع رالف لورين (مصمم ازياء). أريد السيارة الأكثر رفاهية في العالم، سيارة  تطير بي إلى فلوريدا، لأشرب أحسن النبيذ، وأنزل في أفخم الفنادق، وأقابل اجمل البنات...».

لكن تربط الثقافة الاميركية بين الترف والعمل. وبسبب تأثيرات دينية مسيحية، ترى ان العمل جزء من عبادة الله، يكافئ الله عنه في الآخرة. والترف جزء من العمل، يكافئ الانسان نفسه عليه في الدنيا. وفي نفس الأغنية السابقة، مقاطع تؤكد ذلك، وتقول:«لست كسولا، أعمل سبعة أيام في الاسبوع»، كما تقول:«نصف العالم لا يفعل شيئاً، نصف العالم يحرق الفلوس». إشارة إلى عيب يلتصق بالذي يرفه عن نفسه من دون أن يتعب ويكدح.

قال كتاب «ثقافة المال» ان أحسن ما في ترفيه الأميركي هو أنه يربطه بالعمل. لكن، أسوأ ما فيه انه لم يعد يستعمل دخله من العمل للترفية. في الماضي، مثلما اليوم في كثير من دول العالم الثالث، يعمل الشخص، ثم يوفر، ثم يشترى سيارة او منزلاً. كان هذا يحدث في أميركا قبل أن تستغل البنوك ورجال الاعمال وتجار المال حب الاميركي للمتعة، وتقنعه بتقديم قروض وديون.

لهذا، صار الأمريكى الآن، يرفه عن نفسه، ويشتري الضروريات والكماليات ببطاقات الائتمان، وبالقروض، وسط إحساس بأن الأغلى معناه الأكثر رقياً.

لسنوات، كانت شركة «غوتشي» تبيع منتوجاتها الراقية في متاجر غيرها. لكنها غيرت استراتيجيتها، وبدأت تبيعها في متاجر خاصة بها، وسط دعاية إعلانية ان متاجرها الخاصة «أرقى» من متاجر غيرها. وقلت مبيعات شركة «بيربيري» الراقية بعد ان فعلت العكس، وبدأت تبيع منتجاتها في محلات عادية، ولهذا، لم تعد منتجات «راقية». وأقل سيارة «مرسيدس» سعراً تكلف خمسة وثلاثين ألف دولار، وأغلاها تصل إلى نصف مليون دولار.

ربما لم يكن في القروض عيب، اذا كان الاميركي يقترض بصورة معقولة. يعنى ذلك ان يضمن قدرته على دفع القروض التي عليه. لكن، ظهر عامل الطمع من جانبين: من جانب الذي يستدين ويستدين ليشتري ويشتري، ومن جانب الذي يقدم القروض تلو القروض ويزيد سعر الفائدة لتزيد أرباحه.

يصور ايس كيوب، مغني الـ «هيب هوب» ذلك في أغنية تقول:«لتتكوّم الدولارات في حديقة منزلي، وليأكل السمك الكبير السمك الصغير». ويردد الكورس:«الطمع يحقق ما أريد، الطمع يحقق ما أريد». وفي نهاية الاغنية، نسمع:«أعطني اكثر... أعطني أكثر...».

طبعا، الطمع  طبيعي، ومغروس في الثقافة الغربية، منذ كتابات فلاسفة مثل توماس هوبز الذي أكد ذلك في نظرية «شريعة الغابة»، بل قال فلاسفة ان الطمع أخلاقي ومطلوب. وقال كارل ماركس ان العلاقات المادية هي التي تدفع التاريخ، خاصة بين الاغنياء والفقراء (بدلا من ان يقول ان القيم الاخلاقية هي التي تدفع التاريخ). وفي سنة 1984، قال الرئيس ريغان ان حرية جمع المال جزء من الحرية الأميركية (بدل أن يتحدث عن شروط لجمع المال).

ولا بد ان ريغان استند الى آدام سميث، أبو الرأسمالية، الذي خلط بين الطمع والربح، وقال:«ان الطمع يزيد الربح». وفي وسط يختلف عن ذلك الذي يعيشه الفلاسفة والسياسيون، صاح الممثل غوردون جيكو في فيلم «وول ستريت»: «الطمع شيء طيب».

ربما يمكن ان يكون الطمع شيئاً طيباً، لكن بشرطين:

اولاً: ألا يورط صاحبه في ديون لا يقدر على دفعها.

ثانيا: ألا يقود إلى الخوف من الإفلاس.

خلال أسبوعين وفي تغطية الكارثة الاقتصادية الحالية، كررت جريدة «واشنطن بوست» في يومين كلمة «خوف» في عنوان كبير على صدر الصفحة الأولى. وقبل أسبوع، نصح الكاتب الصحافي جورج ويل الأميركيين أن يتذكروا عبارة الرئيس روزفلت:«لا يوجد خوف سوى الخوف نفسه». وأيضا قبل أسبوع، نصح أسقف كنيسة «وول ستريت» (في قلب شارع المال) سماسرة المال وتجاره أن يتذكروا الله، وأن يكفروا عن ذنوبهم.

طبعا، مثلما الطمع (وربما أيضا مثل الاستعلاء والترف) فإن الخوف شيء طبيعي، وعاطفي أيضاً، ولا غضاضة في ذلك. غير أن الثقافة الاميركية علمانية وعقلانية، لهذا، يبدو غريباً أن يعترف الأميركيون بأن الخوف جزء مهم في حياتهم (رغم انهم يحاولون ان يخفوه، مثلما يحاولون إخفاء عواطف اخرى، مثل الكراهية، والغضب، وحب الانتقام).

ومن بين الذين اعترفوا بالخوف وغنوا له، المغنية جاسمين سالفر حين غنت: «لا تكذب عليّ وتقول انك لا تخاف. كلنا نخاف. ليس إنساناً من لا يخاف. أخاف من الكلام حتى لا أكشف السر، أخاف من المحاولة حتى لا أفشل. أخاف من الجنس حتى لا أحمل. أخاف من الخمر حتى لا أسكر. أخاف من الزواج حتى لا أفشل. أخاف من الإنجاب حتى لا أخسر. أخاف من الكبر حتى لا أخرف...».

قبل شهور قليلة، ظهر كتاب «إسلاموفوبيا»، وقال ان أغلبية الأميركيين يخافون من المسلمين لأنهم لا يعرفونهم، لا لأنهم يعرفونهم. في الوقت الحالي، يخاف الاميركيون من الكارثة الاقتصادية لانهم يعرفونها جيداً.