المعرفة في خدمة البشرية

أهم تيارات الفلسفة الأنغلوساكسونية منذ القرن السابع عشر وحتى اليوم

TT

لا يمكن أن نفهم العقلية الانجليزية أو الأمريكية المعاصرة إذا لم نفهم الفلسفة المهيمنة في العالم الأنغلو ـ ساكسوني. فهذه الفلسفة تختلف بشكل واضح عن الفلسفة الأوروبية: أي الألمانية والفرنسية أساساً. نقول ذلك على الرغم من التفاعلات المتبادلة بين أوروبا وأمريكا، وعلى الرغم من السمات المشتركة التي تجمع بينهما داخل ما يسمى بالغرب الحديث (أو الحداثة الغربية، أو الحضارة الغربية...). فالفلسفة في العالم الأنغلو ـ ساكسوني، أي في إنجلترا وأمريكا أساساً، لا تحب التنظيرات العمومية الكبرى على طريقة هيغل مثلاً، أو ماركس، أو اوغست كونت، أو هيدغر. او قل لا تحب الشطحات الفلسفية.. إنها تنفر من الأنظمة الفكرية الشمولية التي تفسر كل شيء وتتحدث عن كل شيء. وتفضل الفلسفة المتواضعة التي تدرس مجالاً محدداً أو ظاهرة واحدة بشكل دقيق وتشبعهما دراسة. كما أن فلاسفة الانجليز والأمريكان يفضلون التفكير الوضعي الذي لا يبتعد كثيراً عن التجربة المحسوسة ومعطيات العلم الفيزيائي. إن اكثر شيء يخشونه هو التهويم في متاهات التجريد والميتافيزيقا وإطلاق الأحكام العمومية الغامضة. ولهذا السبب دعيت فلسفتهم بالفلسفة التحليلية أو الوضعية المنطقية أو التجريبية، الخ.. ومعلوم ان المفكر المصري الكبير زكي نجيب محمود كان من أتباعها. سوف نحاول أن نستعرض هنا أهم تيارات هذه الفلسفة منذ أن كانت قد تشكلت في القرن السابع عشر وحتى اليوم. وسوف نضطر لأن نبتدئ بالثلاثي الكبير: لوك، بيركلي، هيوم.

إن ما يميز الفكر الأنغلو ـ ساكسوني منذ البداية هو الدقة، والصرامة، والمحاجّة المنطقية أو العقلية، والاحتكام للتجربة العملية أو للوقائع المحسوسة باستمرار. ما يميزه هو المذهب التجريبي سابقاً، ثم الاهتمام بمسائل المنطق واللغة لاحقاً ومحاولة تحليلهما تحليلاً دقيقاً (من هنا نتج اسم الفلسفة التحليلية). ولكن الفكر الأنغلو ـ ساكسوني لا يقتصر فقط على المشاكل الإبستمولوجية وفلسفة اللغة والمنطق، وانما يشتمل أيضاً على الفكر الأخلاقي والسياسي. ولا يمكن لأي باحث اليوم أن يتجاهل المكتسبات التي قدمتها الفلسفة الانجليزية والأمريكية في مجال الأخلاق والسياسة، لكن يبقى صحيحاً القول بأن العالم الأنغلو ـ ساكسوني هو الذي بلور بشكل عميق جداً فلسفة العلم، وفلسفة اللغة، وفلسفة المنطق، وفلسفة الممارسة العملية. ولهذا السبب أيضاً دعيت فلسفتهم بالفلسفة التحليلية لأنها تهتم بتحليل شيء واحد فقط بدلاً من أن تحلّل كل الأشياء دفعة واحدة. ولهذا السبب لا نجد مفكراً شموليا لديهم مثل هيغل: أي مفكرا يقدم نظاماً فلسفياً متكاملاً يتحدث عن كل شيء، أو يشرح كل شيء. ولكن هذا التواضع الذي يميز الفلسفة الأنغلو ـ ساكسونية هو الذي يقدم لها ميزة الدقة والصرامة العلمية. فما تخسره من جهة تربحه من الجهة الأخرى.

قلنا إذن بأن الفلسفة الأنغلو ـ ساكسونية كانت مرتبطة دائماً بالمذهب التجريبي: أي باحترام الوقائع المادية المحسوسة ومعطيات التجربة والعيان. وهذا ما يميز عقلية الانجليز والأمريكان حتى هذه اللحظة. فهم أناس واقعيون لا يتحدثون في الفراغ. ولهذا السبب سيطرت الفلسفة البراغماتية او الذرائعية على العقلية الاميركية وربما كانت سبب نجاحها وتفوقها. ونعلم أن كبار مؤسسي المذهب التجريبي في الفكر الفلسفي هم جون لوك (1632 ـ 1704)، وجورج بيركلي (1753 ـ 1985)، ودافيد هيوم (1711 ـ 1776). وهذا المذهب التجريبي الواقعي العياني هو الذي أنقذهم من العقلية الغيبية الاستلابية التي سيطرت علينا نحن العرب والمسلمين بعد موت ابن رشد وأدت الى انهيار حضارتنا والدخول في عصور الانحطاط الطويلة التي لم نخرج منها حتى الان. ولكن الانجليز لم ينتظروا ظهور هؤلاء الفلاسفة لكي يهتموا بمراقبة الظواهر. فقد ظهر قبلهم فيلسوفان مهمّان هما فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626) وتوماس هوبز (1588 ـ 1679) وقد أسّسا المذهب التجريبي في بداياته. ولكن هذا المذهب لم يتبلور بصيغة منتظمة إلا على يد الفلاسفة الثلاثة المذكورين آنفاً.

وبما أن المذهب التجريبي في الفكر يولي عناية خاصة للوعي البشري ويعتبره مسؤولاً عن بلورة التجارب التي نجريها على الظواهر فقد كان محتماً أن يلتقي بديكارت في طريقه. فديكارت الفرنسي (1596 ـ 1650) هو أول من جذّر الحياة الفكرية، وبالتالي المعرفة، في صميم الوعي الشخصي او الفردي. وقال بما معناه: إذا كنا نعرف فإننا نعرف أننا نعرف بالضرورة. وإذا كنت واعياً بشيء ما فإن هذا يعني أني واع بحصول شيء ما داخل وعيي. وعندما أشك فإني لا أستطيع أن أشك بأني أشك، وبالتالي فأنا أفكر. وهكذا توصل ديكارت إلى معادلته الشهيرة أو ما يدعى بالكوجيتو: أنا أفكر، إذن فأنا موجود. والمهم هنا ليس فقط التفكير الذاتي وانما الشك ثم تجاوز مرحلة الشك والتوصل الى اليقين الثابت الصلب. وديكارت لم يتوصل اليه الا بعد مخاضات او معاناة رهيبة كادت تودي بعقله. وبالتالي فوراء عبارة «انا أفكر فأنا موجود» قصة طويلة ومعقدة اكثر مما نتصور.

مهما يكن من أمر فان هؤلاء الفلاسفة كانوا يعتقدون ان الإنسان هو الكائن الوحيد الواعي بوجوده على هذه الارض وفي هذا الكون على عكس الحيوان أو النبات. هكذا ابتدأت الحداثة الفلسفية في الغرب عن طريق التركيز على الوعي الذاتي واعتباره أصل العلم والفهم. ثم جاء بعد ديكارت جون لوك الإنجليزي وأحدث ثورة في تاريخ الفلسفة. وقال بأن الشيء الأساسي يتعلق بعقل كل واحد منا: ما الذي يمكن ان يعرفه وما الذي لا يستطيع ان يعرفه مهما حاول. وهكذا سبق لوك كانط بوقت طويل إلى رسم الحدود الفاصلة التي لا يمكن للعقل البشري أن يتعدّاها على الرغم من عظمته وأهميته. فهذا العقل، على عكس ما نتوهم، ليس قادراً على كل شيء. وحده الله تعالى قادر على كل شيء. وقال ان عقلنا في البداية، أي عندما نكون أطفالاً، يكون خالياً من كل شيء كصفحة بيضاء. ولا تُخلق الأفكار معه بشكل فطري كما يزعم ديكارت. فالأفكار ترتسم في وعينا عن طريق الاحتكاك بالعالم الخارجي بعد ان نولد. انها ترتسم فيه عن طريق الانعكاس. كان لوك مفكراً تنويرياً قبل مجيء عصر التنوير. ولذلك يفتخر به الانكليز مثل نيوتن. وكان طبيباً في الأصل ومساهماً في الحياة السياسية ولكن النظام غضب عليه فعاش كلاجئ سياسي في هولندا من عام 1683 إلى عام 1688. وعندما عاد إلى إنجلترا أصدر كتابه الفلسفي المهم: «مقالة حول العقل البشري» سنة 1690. وكان شعاره يتمثل بكلمة واحدة: التجربة. التجربة العيانية المحسوسة هي أساس الفهم والمعرفة ولا شيء غيرها. ولهذا اعتبروه المؤسس الأول للمذهب التجريبي في تاريخ الفكر. وهكذا ربط لوك بين الفكرة والإحساس بشيء خارجي أو انعكاس الظاهرة الخارجية على وعينا وشعورنا.

ففكرة الزهرة مثلاً لا يمكن أن تتشكل في وعينا الا بدءا من اللحظة التي نرى فيها الزهرة وهكذا دواليك.. وبالتالي فالأفكار لا تولد معنا بشكل فطري كما توهم ديكارت وإنما تتشكل فيما بعد عن طريق الأحاسيس والتجربة العملية والاحتكاك بعالم الاشياء والظواهر.

لكن لجون لوك أهمية أخرى في مجال الفكر السياسي. فهو أحد مؤسسي الحداثة السياسية إذا جاز التعبير. وقد ألف كتاباً بعنوان «مقالات حول الحكومة المدنية». وقال فيه بما معناه: إن الناس يولدون أحراراً ومتساوين ومستقلين. ثم يحكمون أنفسهم عن طريق العقد الاجتماعي الذي يربط بين الأفراد داخل الجماعة الواحدة أو الدولة الواحدة. وينبغي على هذا العقد أن يحترم الحقوق الطبيعية للمواطنين. ثم فصل لوك بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ودعا إلى تأسيس نظام ليبرالي. وكان بذلك رائداً للنظام الإنجليزي الذي يعتبر أقدم ديمقراطية في العالم وأكثرها عراقة.

لقد جاء جون لوك بعد فرانسيس بيكون الذي دعا إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة عن طريق العلم. ولا يمكن أن نفهم الثاني بدون أن نفهم الأول. فاللاحق أكمل عمل السابق. كان بيكون يقول بأن مراقبة النظام الطبيعي الفيزيائي المادي للأشياء والتفكير فيه يمثلان الهدف الأساسي للفلسفة. وأما ما وراء العالم الطبيعي، أي الميتافيزيقا، فلا يهم الفكر لأن العقل البشري لا يمكن أن يتوصل إليه. انه من اختصاص الدين وعلمه عند الله فقط. وبالتالي فاننا نضيع وقتنا بدون طائل إذا ما حاولنا المستحيل. والمعرفة بحسب رأي فرانسيس بيكون لا معنى لها إذا لم تؤد إلى خدمة البشرية. هكذا كان يتصور الفيلسوف الإنجليزي العلم: إنه تجريبي، عملي، صناعي، يؤدي إلى فائدة محسوسة ومباشرة. وهكذا تنبأ بمستقبل التكنولوجيا والحداثة والآلات والمخترعات التي نشهدها اليوم ونستمتع بفوائدها الجمة في حياتنا اليومية. ودعا فرانسيس بيكون إلى نقد العقائد المثالية أو التقليدية الغيبية التي عفا عليها الزمن. وقال بأن ذلك هو الشرط الأولي والمسبق لكي تنشأ المعرفة العلمية الصحيحة وتنتشر في المجتمع. ولكن بيكون كان يحلم بالعلم أكثر مما يمارسه عملياً. وهنا يكمن الفرق بينه وبين غاليليو مثلاً. ولذلك نحتار في تصنيفه: هل نقول بأنه أول المحدثين أم آخر الأقدمين؟ ربما كان الشيئين دفعة واحدة. على أي حال لقد شكل اول خطوة للحداثة الغربية في مسارها الطويل للانتصار على الفكر الغيبي الظلامي الكنسي لاحقا.