لماذا لعبت القيادات الدينية دورا هامشيا في حركة التحرير الوطني؟

كتاب «العلماء التونسيّون» لأرنولد هـ. قرين

TT

يقدم كتاب «العلماء التونسيون» صورة علمية دقيقة حول مجموعة من العلماء التونسيين في تركيبتها وحركيتها الاجتماعية من منظار العلوم الاجتماعية مع عرض تفصيلي وتاريخي لمواقفهم من التيارات الإيديولوجية التي شهدتها الفترة الممتدة من 1873 إلى 1915. ويشتمل الكتاب على مقدمة مطولة يعرج فيها المؤلف أرنولد هـ. قرين على القضايا الأساسية في البحوث الجديدة حول العلماء. ذلك أن المواقف التي اتخذها هؤلاء العلماء في عدة أقطار من الشرق الأوسط من القضيتين المحوريتين اللتين طبعتا الفترة (1873-1915) وهما: الإصلاحات ذات الطابع المركزي والعلماني من جهة، وظهور الحركات الوطنية من جهة ثانية، كانت مختلفة باختلاف العوامل القائمة. وكان مدى رفضهم أو قبولهم لفكرة بعث دولة علمانية، متوقفا على عدد من المتغيرات، نذكر منها: قدرة الحكومة على فرض إصلاحات جذرية دون حساب للعواقب أو اضطرارها إلى كسب العلماء لتطبيق إصلاحات معتدلة، ومنها أيضا إمكانية أن تخدم المؤسسات الجديدة مصالح العلماء (أو مجموعة منهم) وأن تشكل خطرا على مواقعهم الاقتصادية والاجتماعية وعلى الأعراف الإسلامية.

وتراوحت ردود فعل العلماء إزاء الحركات الوطنية بين المعارضة كما في تركيا والمشاركة كما في المغرب. ففي الحالة الأولى أعطت النخبة القومية دعما إضافيا للتطور العلماني بالبلاد مما جر إلى فقدان العلماء نفوذهم وثروتهم والقضاء على مبدأ الاعتراف بالإسلام كدين رسمي للدولة. أما في المغرب فيعود التحالف بين رجال الدين والوطنيين الجذريين إلى حد ما بعيدا، لا إلى الوضع الاستعماري (الذي لم يوجد بتركيا) فحسب، بل وأيضا إلى سياسة النظام الاستعماري الذي شجع الطرق واضطهد إلى حد ما الإسلام السني. ولذلك تبنت الحركة الوطنية المغربية شعارات إسلامية في الوقت الذي تبنّت فيه الحركة القومية التركية (الهادفة إلى تخليص الحضارة التركية من المؤثرات الأجنبية، بما فيها العربية، وبالنتيجة الإسلامية)، شعارات علمانية أو لا إسلامية. وبذلك فقد استجابت مجموعة العلماء في كلا البلدين إلى وضع محلي خاص.

ولقد تمخض البحث النقدي الذي قام به المؤلف أرنولد قرين عن مجموعة من الاستنتاجات نستعرضها كما يلي:

- كان رد الفعل التونسي على التغريب وعلى المسائل المتصلة به مماثلا في عمومه لردّ الفعل لبلدان إسلامية أخرى – خاصة تركيا ومصر – التين كانت لها مؤسسات سياسية شبيهة بتونس، التي اتبعت مسارا تاريخيا موازيا لهما. فقد كانت الأنظمة في الأقطار الثلاثة قوية بما فيه الكفاية بما يمكنها من صياغة ردّها على أوروبا بفرض إصلاحات تحديثية من فوق بدلا من أن تترك الباب مفتوحا لحركات دينية شعبية تأخذ زمام المبادرة في حماية البلاد وتعزيزها. وبما أن إجراءات الحكومة وهي ذات اتجاه مركزي وعلماني، كانت تشكل تهديدا فعليا للقيم التقليدية وللمكانة الاجتماعية والاقتصادية للقيادات الدينية، فإن العلماء التونسيين، على غرار زملائهم في تركيا ومصر، قد ناهضوا التنظيمات كقاعدة عامة.

- كان سلك علماء تونس يختلف عن علماء اسطنبول والقاهرة في موقفه من الإصلاحات المستمدة من الغرب وذلك لسببين على الأقل. يرتبط أولهما بالتركيبة والحراك الاجتماعي المميزين للمؤسسة الدينية التونسية، ذلك أنه فيما يتعلّق بتركيا العثمانية اتسم وضع العلماء – رغم اتحادهم في المذهب الحنفي – بانقسامهم الاجتماعي الواضح بين فئة عليا وفئة دنيا. وقد وجد السلاطين والوزراء المصلحون مساندة من البيوتات، العلمية التي كان وضعها الممتاز قائما على استمرار النظام والنخبة الحاكمة. وتميّزت المؤسسة الدينية التونسية بانقسامها بين المذهبين الحنفي والمالكي من جانب، وبين فئتين عليا ودنيا، وتشمل الأخيرة أبناء صغار رجال الدين والشيوخ الآفاقيين بصورة خاصة. فكان يوجد بالتالي داخل علماء تونس عنصران منفصلان أتاحا الفرصة لبروز مواقف شخصية مؤيدة لإصلاحات خير الدين التحديثية لما استلم الوزارة الأولى بتونس في أواسط السبعينات من القرن التاسع عشر. العنصر الأول يكمن في أن بعض العلماء الحنفيين المرتبطين بحكم أصلهم التركي بنظام الباي وأعوانه من المماليك كانوا مستعدين للتعاون مع الإدارة، والأهم من ذلك هو أن أغلبية العلماء المالكيين قد وجدوا في تطوير الإدارة العمومية مناسبة للحصول على مناصب وموارد إضافية كانوا محرومين منها بفعل هيمنة البيوتات الدينية بالحاضرة على المؤسسة الدينية.

ويخصّ السبب الثاني السياسة التي انتهجها الزعماء التحديثيون في تونس إزاء القيادات الدينية. وإن حاول خير الدين إلى حد ما أن يدمج العلماء في البيروقراطية فإنه سعى أيضا إلى تشريكهم قدر الإمكان في المؤسسات الجديدة أو المطوّرة مثل إدارة الأوقاف ومدرسة الصادقية والمطبعة الرسمية فنجح في تأمين مشاركة عدد كاف من الشيوخ – وأغلبهم من الحنفيين أو من الآفاقيين المالكيين – لتحييد معارضة الكتلة المحافظة التي عمودها الفقري الأسر المالكية من مدينة تونس.

- وبعد قيام الحماية الفرنسية في البلاد التونسية انضمت فئتا المماليك والمخزن إلى النظام الجديد بسرعة أكثر من البلدية والعلماء. فالعلماء وإن لم تتخذ مقاومتهم في المدن درجة إشهار السلاح في وجه الاحتلال الفرنسي أو النداء إلى الجهاد – ولم تعبر سوى أقلية منهم عن عدائها للمحتل بالمقاومة السلبية أو بالهجرة – فقد شارك العلماء بصورة فعالة في التظاهرات المعبرة عن الاستياء من الحكم الأجنبي في السنوات الأولى من الثمانينات، بتأسيس الجمعية السرية «العروة الوثقى» والمشاركة في المظاهرة المناهضة للمجلس البلدي في 1885 والمناورات المعرقلة لفرنسة مؤسسات التعليم والقضاء التونسيين. لكن الإصلاحات التي أخذ فيها الفرنسيون استمرت على نسق حثيث رغم جهود العلماء في تعطيلها، ولم تبرز للوجود حركة مناهضة للفرنسيين متواصلة حقا. وعندما وقع تغيير في المواقف لم تعد النخبة المثقفة متكونة أساسا من العلماء. فقد كان المستنيرون خريجو المدارس الفرنسية أمثال البشير صفر وعلي بوشوشة يشكلون الطرف التونسي في التحالف الإصلاحي مع ليبيراليي الحماية وكانت جريدة «الحاضرة» وجمعية الخلدونية منبرين للتعبير عنهم. وقد سعى المقيم العام روني ميلي عن طريقهما وعن طريق قنوات أخرى إلى مساندة التحديث الإسلامي بغية جلب التقدميين المسلمين إلى تأييد الحكومة، بينما استمرت القيادة الدينية في تفادي الاتصال غير الضروري بالمؤسسات التي ترمز إلى النظام الفرنسي أو إلى سياسته. إلاّ أن عددا منهم قد حاد عن هذا التوجه العام، فانضمت أقلية من بينهم إلى صف التحالف الإصلاحي بين المتطورين التونسيين والليبراليين الفرنسيين عن إيمان بالمبادئ التحديثية. بينما أدرك البعض الآخر أن الفرنسيين (الذين صاروا يسيطرون على توزيع الوظائف)، يرغبون في تولية الشيوخ المتعاونين معهم المناصب المهمّة فتظاهروا بموقف المتعاون لضمان مصالحهم في التعيين والترقية.

– العلماء المتعاونون وإن كان لهم دور ثانوي نسبيا في التحالف الإصلاحي في الفترة من 1890 إلى 1907 قد ساعدوا في إضفاء الشرعية على مؤسسات الحماية بمشاركتهم فيها. وقد ورث الفرنسيون، بمعنى ما، العلاقة التي كانت بين الأمراء والعلماء، وواصلوا لمدّة النسج على منوال خير الدين الذي سعى عن قصد إلى شلّ معارضة العلماء التقليديين بتقريب العلماء الإصلاحيين منه. كانت مواقف وسلوكيات علماء تونس إزاء التدخل الغربي قريبة من مواقف زملائهم في القاهرة، حيث كان لأغلب العلماء مواقف دفاعية إزاء إدارة أهلية تحكم باسم سلطة أوروبية. وكان دور أتباع محمد عبده حزب الأمة في بداية القرن العشرين تجاه الحكومة مماثلا تقريبا لدور مجموعة «الحاضرة» والخلدونية. ولم يغفل الباحث أرنولد قرين عن قراءة تلك العوامل المختلفة التي تفسر ردود فعل العلماء التونسيين من بداية الحركة الوطنية في تونس والتي كانت حالة استثنائية بين غيرها من بلدان شمال أفريقيا. ومن هذه العوامل أن البلاد التونسية وإن خضعت للحكم الفرنسي مثل الأقطار المغاربية الأخرى، فإنها في الواقع كانت تختلف عنها من وجهات عديدة. فقد كان السكان الناطقون بالبربرية يمثلون نسبة ضئيلة للغاية والقبائل فيها أقلّ عددا ونفوذا مما جعل المجتمع التونسي أكثر اندماجا وتحضرا. وكانت المؤسسات الإسلامية السنية أقوى وبالنتيجة يضطلع العلماء بدور أوسع وأكثر نفوذا وبعبارة أخرى فإنّ تونس بحكم مكوناتها لم تتأثر بنفس الدرجة بالسياسات البربرية والطرقيّة التي اعتمدتها فرنسا في المغرب والجزائر مما اضطر سلطات الحماية إلى وضع خطط أخرى لاستمالة الأهالي ومن بينها خطة ميلي في تشجيع التحديث الإسلامي ورعاية صفوة من المسلمين المستنيرين المتخرجين في المدارس الفرنسية، إلاّ أنه وقع التخلي عن هذه السياسة في نهاية العقد الأول من القرن العشرين مع احتداد التوترات الدولية ومع تحوّل بعض المتطورين التونسيين من موقف التأييد إلى موقف المعارضة تجاه الحماية. فشرع الفرنسيون عندئذ في خطب ودّ العناصر التقليدية من المجتمع التونسي بمن فيهم العلماء السنيون، خاصة الأسر الدينية ذات الشأن في الحاضرة.

لكن هناك سؤالا يفرض نفسه وهو: لماذا لم يصمد العلماء أمام هذه «السياسة التقليدية» رغم وجود عدة عوامل تدعو لقيام تحالف بينهم وبين الشبان التونسيين؟ عن هذا السؤال يجيب المؤلف قرين بقوله إن الكفة قد رجحت في الاتجاه المعاكس لأسباب تتعلق بتعاطف الشبان التونسيين مع حركة الشباب التركي التي افتكت السلطة السياسية من السلطان عبد الحميد الثاني مجسد الرابطة الإسلامية بالنسبة إلى العلماء، وبالدور الذي لعبه عبد العزيز الثعالبي بين الشبان التونسيين، وبتجاسر النخبة ذات الثقافة الفرنسية على التحدث باسم الشعب التونسي وبالتالي سلب العلماء وظيفة كانت من وظائفهم الاجتماعية، وباتخاذ الشبان التونسيين الدولة العصرية نموذجا بدلا عن الأمة الإسلامية وانتقادهم للمؤسسات الواقعة تحت رقابة العلماء، بل حتى انتقادهم العلماء أنفسهم. وهذه المجموعة من العوامل كما تدلّ على ذلك بالخصوص ردة فعل العلماء في 1910-1912 أمام المحاولات الهادفة إلى إصلاح التعليم الإسلامي التقليدي قد سمّمت العلاقات مع الشبان التونسيين، مما جعل العلماء في ما بعد وباستثناء المهاجرين، لا يساهمون إلاّ بصورة لا تستحق الذكر في الحركة الوطنية التونسية.