راشد المبارك.. المثقف الوسيط

عالم ومحقق وأديب فتح بيته منذ أكثر من ربع قرن للحوار الفكري والثقافي

راشد المبارك («الشرق الاوسط»)
TT

انتظر الأكاديمي والعالم السعودي، الدكتور راشد المبارك أكثر من ربع قرن قبل أن تبادر المنطقة التي شهدت ولادته لتنظيم حفل عام لتكريمه، وهو الذي فتح في منزله في الرياض منذ نحو 30 عاماً منتدى فكرياً وثقافياً لتكريم الأدباء والمثقفين والاحتفاء برموز الثقافة العربية والوطنية، وأصبحت ندوة الأحدية التي تقام في منزله بالرياض مناسبة للحوار الفكري والوطني، وتجسير العلاقة بين مختلف الأطياف الثقافية، وإتاحة منصة يطل من خلالها زوار العاصمة السعودية على المثقفين المحليين، وتوفير منبر يعتليه متحدثون يمثلون مشارب متنوعة واتجاهات متباينة، في أجواء شبيهة بما عرف بعد ذلك بعقود بجلسات الحوار الفكري الوطني.

تميز الدكتور راشد المبارك بأنه جمع بين العلم والأدب، فهو أستاذ متخصص في الفيزياء والكيمياء، وهو كذلك أديب وشاعر، وعرف كذلك باعتباره محققاً أسهم بفعالية في إنجاز الموسوعة العربية العالمية، أكبر الموسوعات العلمية في العالم العربي.

له في الدراسات العلمية، كتاب «كيمياء الكم» لطلبة الدراسات العليا والجامعية، و«هذا الكون ماذا نعرف عنه». وقد نشر أبحاثاً مبتكرة عن تأثر طاقة الإلكترون بتفاعل المجال الكهربي الناشئ من دورة الإلكترون حول النواة والعزم المغناطيسي الناتج من حركة الإلكترون حول محوره، في عدة مجلات علمية عالمية. وفي الفكر والسياسة والتاريخ، له كتاب «قراءة في دفاتر مهجورة» و«فلسفة الكراهية»، و«التطرف خبز عالمي»، و«شعر نزار بين احتباسين». وله ديوانان من الشعر تحت عنوان «رسالة إلى ولادة».

ولد الدكتور راشد المبارك في بلدة الأحساء عام 1935 وتلقى تعليمه العام بها، وحصل على الدرجة الجامعية في الفيزياء والكيمياء بتقدير جيد جداً من كلية العلوم بجامعة القاهرة في عام 1964، وابتعث للدراسة وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء الجزيئية من جامعة مانشستر في خريف عام 1969، وحصل على الدكتوراه في كيمياء الكم من جامعة جنوب ويلز بمدينة كاردف عام 1974. وعمل أستاذاً لكيمياء الكم في كلية العلوم بجامعة الملك سعود حتى عام 1992. وعمل أيضاً مديراً للمختبرات الكيماوية بوزارة الزراعة، وعضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود، وعميد كلية الدراسات العليا بجامعة الملك سعود، وعضو مجلس الأمناء بمعهد تاريخ العلوم العربية بجامعة فرانكفورت، ورئيس المجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بمدينة الرباط بالمغرب، وعضو المجلس الأعلى للإعلام في السعودية، وعضو مجلس الإدارة بدارة الملك عبد العزيز.

يقول عنه الدكتور عز الدين موسى، الأستاذ بكلية الدراسات الاستراتيجية في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، في الرياض: «الدكتور راشد المبارك، هو كيميائي التخصص، وله فيه مشاركات ومساهمات علمية مقدرة يعرفها أهل فنه، لكنه لم يتتترس في تخصصه الدقيق مثل ما فعل أهل التخصصات في كل فن من أهل عصره، ذلك لأن له توقا للانفتاح المعرفي، وأن له شوقا للسباحة في عوالمها المجهولة، فانفتح على بقية العلوم الطبيعية، وسعى لتبسيطها، وإذاعتها في الناس.

ومنهج المبارك يقوم على ركيزتين رئيستين: إعمال العقل وتكريم الإنسان، متناولا لهما بأسلوب منطقي، ونهج رياضي، ونفس إنساني، وديباجة أديب مطبوع مفطور، وهذا يُلمح في كل إنتاجه العلمي على تعدده وتنوعه».

أما إبراهيم البليهي، المفكر وعضو مجلس الشورى السعودي، فيقول عنه راشد المبارك عالم دقيق في علمه، وشاعر تطربك شاعريته، وناقد يتذوّق بحس مصقول وينقد ببصيرة نافذة، وليست دراسته عن المتنبي سوى مثال على رؤيته النقدية الباهرة.

إنه مثقف قد تنوعت معارفه وامتدت اهتماماته وهو قبل ذلك وبعده ذو بصيرة فكرية زاخرة، إنه مفكر عميق الفكر، وناقد نافذ الرؤية، والأهم من ذلك أنه يدرك مسؤولية المثقف ويلتزم بهذه المسؤولية، لذلك لم يحبس نفسه في تخصصه الأكاديمي كما يفعل الكثيرون، إنما امتد علمه وفكره ونشاطه إلى مجالات شديدة التنوع.

ويضيف البليهي: «إن راشد المبارك متابع دقيق وهو ينشط لإبداء الرأي في كل المجالات، لأنه يدرك أن نهضة الفكر تؤسس لنهضة العلم، ويدرك أن العلم ليس معلومات، إنما هو طريقة تفكير وأسلوب حياة، فلا يكون تعميم التعليم مُجدياً إلا إذا هو فتح العقول على الآفاق وأشعل العواطف بحب الحقيقة الموضوعية وخلق الشغف بالمعرفة الممحّصة، لذلك فإنه ينتقد التلقين والتدجين ويلح على أهمية بناء الإنسان الحر القادر على التفكير المستقل والرؤية الموضوعية. إن راشد المبارك مفكر مهموم بأوضاع أمته ومنشغل بقضايا وطنه وهو بوصفه مفكرا، فإنه قادر على تكوين رؤية ناضجة في أي مجال يستغرق اهتمامه.

ويقول الدكتور عبد العزيز إبراهيم الواصل، الاستاذ في كلية العلوم بجامعة الملك سعود، عن مؤلفات د. مبارك: «لقد آثر ترك العمل في الجامعة، فنشط في التأليف وظهرت له مجموعة من الكتب أشير إلى اثنين منها: الأول، «قراءة في دفاتر مهجورة»، وقد تضمن عدداً من المباحث في موضوعات متنوعة من بينها موضوع بعنوان، «المتنبي ليس شاعرا»، الذي حاول فيه الدكتور راشد معرفة عامل النبوغ لدى المتنبي، وسبب التفوق عنده، وهو ما لم يدركه البعض عندما انتقد الكتاب الذي صدر للدكتور راشد في ما بعد عن المتنبي.

الثاني هو «هذا الكون ماذا نعرف عنه؟»، الذي كتبه بصياغة رصينة هي للأدب الممتع أقرب منها للعلم الجاف. وهو الكتاب الذي يطرق مسائل من المعرفة يتعذر على مثقف لا يرضى أن يعيش خارج عصره تجاهلها.

أما الدكتور عبد الله القفاري، المحاضر بقسم الفيزياء بكلية العلوم بجامعة الملك سعود سابقاً، فيرى أن الدكتور المبارك يمثل منظومة فكرية بالغة الدقة يعبّر عنها في طروحاته وكتبه وبحوثه ولقاءاته التي تتميز بقدرة عجيبة على البناء المنهجي، وهو يستلها من مخزون بالغ الدقة والترتيب، من دون ارتباك أو تعثر. وبين ذلك الدور التوسطي الذي يجسد تلك العلاقة بين النظرية والممارسة، تشتعل داخلي إضاءة الاعتراف بوجه المثقف.

ويضيف: «لقد رأيت فيه عنوان البقاء في مشهد ثقافي له سِمة الحضور، لكن خلفه تكمن قناعات بمعنى ودور هذا الحضور، ولكم قدرت ذلك الضوء الجميل بين إشعاع الثقافة والتمتع بأجوائها المثرية للعقل والذائقة والبحث الدائب عن الحقيقة، وبين دور المثقف ومهمته الصعبة لصناعة عالم يستجيب لقناعاته، وهي حتما لن تخرج عن انتصار المثقف للإنسان بكل ما يحمل هذا المعنى من أبعاد.

رأيت دور المثقف الوسيط يتبلور في مهمة يحملها المفكر والمثقف الكبير راشد المبارك، الذي سخر الثقافة لخدمة مشروع يؤمن به، وبذل من الجهد انتصارا لحق الإنسان المنتهك أو المتعثر، ومارس ذلك الدور التوسطي بجدارة بين المجتمع والسلطة بأنواعها ما وجد إلى ذلك سبيلا».

وعن دوره الاجتماعي والفكري والثقافي، يقول: «راشد الإنسان لا يمكن فصله عن راشد المثقف، وفي زمن بات فيه التماس دور المثقف الوسيط معقداً وصعباً، وفي بيئة قد لا تعترف أحيانا بهذا الدور، فقد انتزعه راشد بجدارة، وبطريقة تنم عن قدرة مذهلة على الاستحواذ والقبول، وراشد المفكر لا يمكن عزله عن راشد المثقف، فهو دائما في حالة تأمل واستعادة واستشكال تبدأ من تراث العرب الأدبي حتى تخوم الفلسفة الغربية التي تعني له تحديا ذهنيا لا متعة عقلية فحسب. وراشد المتذوق والشاعر والأديب اقترب من النقد الأدبي قارئا ومتأملا ومبدعا، وراشد العالِم المسكون بفكرة التقدم العلمي شرطا وإنتاجا وبحثا ووظيفة، قدم عطاء متميزا، لا في حلقات معزولة في سياق أبحاث علمية متقدمة، لكن في قدرته على قراءة حلقات العلم والكشوف بطريقة جعلها مادة أدبية شيقة، وملمحا فكريا مهضوما، واستدراكا لتأثير خاف على كثيرين في طبيعة ذلك التقدم وتجلياته.

إنها ملامح من شخصية اقتربت منها بما يكفي لأتلمس بعض ملامحها، فيها نزاعات الإنسان قوة وضعفا، وبهجة وحزنا، قيمتها في صدقها وتبتلها الجميل».