هناك نوع جديد من التفكير في العالم.. وعلى بلدان العالم الثالث أن تجد بدائلها

تداعيات الأزمة المالية في نظر باحثين وكتاب مصريين

TT

هل سقطت النظرية الرأسمالية، أو في طريقها إلى السقوط؟ وكيف ستكون صورة العالم غدا؟ وهل انتهى زمن العولمة بعدما انكشفت سوأتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؟ وأخيراً ما هي آثار هذه الأزمة على المجتمع المصري والعربي والدول النامية عموماً؟

يرى مفكرون وعلماء مصريون أن العالم ينهار بالفعل، ويتجه بخطى حثيثة نحو الهاوية، ولا بد من إعادة النظر في النظام الاقتصادي الرأسمالي بلا شماتة، والبحث عن نظام جديد يتفادى أخطاء الرأسمالية وعيوب تطبيق الاشتراكية ويحقق العدالة الاجتماعية خاصة في الدول النامية.

ولم يستبعد هؤلاء المفكرون في تعليقهم على الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية تكرار سيناريو الكساد العظيم الذي ضرب العالم في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

المفكر اليساري محمود أمين العالم قال إن القادم سيكون أسوأ لافتا إلى أن مساوئ الرأسمالية بتوجهاتها الاحتكارية الفظيعة يتحملها رجل الشارع العادي والأزمة الحالية تؤثر فيه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، موضحا أن النظام الرأسمالي مليء بالتناقضات، وأثبت عجزه عن تحقيق السلام أو التقدم التدريجي للعالم، في حين أن الاشتراكية تحاول أن تحل المشاكل المستعصية لدى الشعوب، ويمكن الاستفادة من هذه الحقيقة ايدولوجيا، وأن نطالب بتنمية الفكر الاشتراكي الذي بدأ يضعف ولم يصمد في أماكن كثيرة في العالم باستثناء الصين وكوريا الشمالية، وهي تجارب لها خصوصيتها، ومن ثم يمكن أن نبحث عن أشكال أخرى من الرأسمالية غير الاحتكارية تساعد في حل مشاكل الشعوب وتكشف فداحة الدور الربحي الذي قامت به الرأسمالية الاحتكارية.

وأضاف العالم: «الأزمة الحالية مؤشر خطير يهدد الشعوب والحكومات على السواء، ولا تصلح معها الصيغ البديلة أو الوسطية، إما اشتراكي أو رأسمالي، ومن المفروض أن يعمل الجميع الآن على إيجاد صيغة تسمح بـ «دمقرطة العلاقات الاقتصادية» ردا على الممارسات الرأسمالية الأميركية الجشعة التي حاولت من خلالها أميركا السيطرة على العالم اقتصاديا. والمطلوب الآن الحد من المركزية الرأسمالية التي تمارسها أميركا على العالم، وعلى الدول النامية أن تنظم أوضاعها لصالح الناس، وتحقيق إنسانية الإنسان فهذه هي الأشياء التي ينبغي أن توجه الثروة لها».

وتساءل العالم عن الناتج الإنساني الذي تركته الرأسمالية مؤكدا أنه بعد هزيمة هذا النظام في عقر دار اكبر دولة رأسمالية، لم ينتج عنه سوى الصراع ومحاولة الاستحواذ وتحقيق المصالح الخاصة، كما أن الرأسمالية الأميركية مرتبطة بالامبريالية، فالأمر يتعدى كونه مجرد احتكار ويدخل في إطار المعركة الثقافية لمحاولة أميركا التمكن من السيطرة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومنع ثقافات وترويج أخرى في البلاد النامية وفقا لما يتناسب ومصالحها، وفي نهاية الأمر لم يؤد هذا إلى تقدم اقتصادي أو إنساني، وكل التقدم انحصر في صنع أسلحة الدمار، وفي المرحلة الحالية جاءت الفرصة لبلدان العالم الثالث لتقدم بدائل ليس لمجرد الشماتة في أميركا بل لتحويل الهزيمة الاقتصادية إلى انتصار يخرج عن الحدود الأميركية، ولا شك أن هناك عددا من الحركات التحررية في العالم ستستفيد من تلك الأزمة وتستثمرها بشكل صحي ليس بالعودة المباشرة إلى الاشتراكية ولكن بشكل تدريجي، فالأزمة الحالية خلقت نوعا جديدا من التفكير في العالم كله يظهر حتى في أميركا من خلال الانتخابات والميل لانتخاب «شاب صغير أسمر» هذا التوجه يحمل نوعا من الاستعلاء والمغامرة، مما يؤكد أن ثمة معركة مهمة قادمة. المهم أن نكون مستعدين لها لأننا متورطون فيها شئنا أم أبينا.

أما المفكر د. فؤاد زكريا، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، فنفى أن يكون ما يحدث الآن من شراء الحكومة الأميركية لأصول بعض البنوك المتعثرة تفاديا للأزمة الاقتصادية العالمية يمكن أن تنبني عليه تغيرات أيديولوجية، موضحا أن الايدولوجيا هي أفكار كبيرة ومنظمة وطويلة الأمد، في حين أن ما يحدث حاليا لا يتعدى كونه «مسكِّن» للأزمة وليس حلا لها. وتابع زكريا: «المسألة هي أن هناك أزمة شديدة يتعرض لها العالم، وجرى شبه اتفاق بين الاقتصاديين أنه يمكن تفادي هذه الأزمة وإنهاؤها دون أن تترك آثارا على أفكار الناس، أو تؤدي لتحولات أو تغيرات فكرية، باعتبارها شيئا داخليا ينحصر في نطاق الاقتصاد. وفي تصوري الشخصي أرى انه من المستبعد حدوث تغيرات جذرية في الأفكار بناء على هذه الأزمة لأن التفكير السائد حاليا هو التركيز على كيفية الخروج من هذه الأزمة، بصرف النظر عما يمكن ان ينبني عليها من أفكار، وحتى هذه الأفكار لن تطفو على السطح إلا بعد فترة طويلة.

واعتبر المفكر اليساري الدكتور عبد المنعم تليمة أن السقوط المدوي للرأسمالية المتوحشة هو آخر لبنة في عالم قديم يأفل، شهد تدمير ثروات ومحاولة محو تاريخ. وقال: «العالم كله لا بد أن ينتهي إلى الاشتراكية، ومن المؤكد أن العالم يبحث الآن عن نهج اشتراكي جديد يصحح أخطاء التجارب السابقة. ان الاشتراكية لم تطبق في يوم من الأيام سوى جزئيا في الصين وفيتنام، أما التجربة السوفيتية فلا تصلح للقياس عليها، لأن الاتحاد السوفيتي كان دولة شمولية تقوم على حكم الحزب الواحد، وتعتمد على رأسمالية الدولة، وتجربة بهذا الشكل لا بد أن تسقط». وأضاف تليمة: «إن هذه الأزمة تركت تأثيرات بالغة الخطورة على أميركا، لأنها احتكرت ادارة العالم لفترة طويلة وربطت الاقتصاد في كل الدول بالدولار، ولا بد أن تدفع فاتورة ذلك، والعالم كله تنتظره سنوات عجاف قادمة. ولن يحدث الانتقال إلى العالم الجديد إلا على أيدي الشعوب، فهناك حركة شعبية عالمية تسعى لتأسيس برلمان عالمي شعبي، وأدوات الاتصال الحديثة تجعل من السهل تواصل الناس الطلائع لتنسيق حركة شعبية عبر قارية، وإنشاء برلمان شعبي عالمي».

ومن جهته يرى الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع إن الأزمة الحالية كشفت الطبيعة الوحشية للرأسمالية في زمن العولمة، كما فضحت فشل التلاميذ غير الأكفاء الذين حاولوا أن يطبقوها في مصر، فاختاروا أسوأ أشكال الممارسات في أسوأ الأنظمة الرأسمالية غير الرشيدة، وقد جاءت هذه الأزمة في الوقت الذي اعتبروا فيه الخصخصة هي الأمل الأسمى لنجاحهم، ويرفضون أن تتدخل الدولة في آليات السوق، وتعاملوا مع السوق باعتباره «صنما» يجب أن يعبد. وأنهم بهذه الطريقة وضعوا الاقتصاد المصري في مأزق، وعليهم الآن أن يدركوا أن أي نظام اقتصادي يجب أن يقوم على أساس تحقيق قدر من العدل الاجتماعي.

الكاتب الصحافي صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة «القاهرة» نبه إلى أن هناك محللين سياسيين واقتصاديين في الدول الغربية طرحوا فكرة أن غياب الدولة بشكل كامل عن الاقتصاد والقطاع المصرفي يمكن أن يؤدي إلى مشاكل من هذا النوع. وإذا قارنا بين الأزمة الحالية والكساد العظيم الذي حدث في نهاية العشرينات واستمر حتى منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، نجد أن التفكير يتركز حول فكرة تدخل الحكومات، وإن كانت تتدخل هذه المرة بصيغة مختلفة من خلال دعم الأصول الخاسرة والهالكة للبنوك وتعتبر نفسها شريكة في ملكيتها، أو حتى من منطلق أنها تعتبر نفسها مدينة لهذه البنوك بمبالغ «حصيلة الضرائب»، مع العلم أنه حين كان الاقتصاد الاشتراكي قائما عام 1929 – عام الكساد العظيم – كان الاتحاد السوفيتي هو الدولة الوحيدة التي لم تتأثر بأزمة القرن الماضي، مما يعني أن فكرة تدخل الدولة ليست خاطئة كليا، ولكن ما يحتاج إلى بحث هو حجم وجود الدولة في الاقتصاد.

وأعرب عيسى عن تخوفه مما أثبتته التجربة الإنسانية فيما يتعلق بتدخل الدولة في الاقتصاد مما يؤدي في النهاية إلى ظهور رأسمالية الدولة والفشل الاقتصادي وأخطاء أخرى على النحو الذي وجدناه في تجربة الاتحاد السوفيتي، ويعتقد عيسى أن الأزمة الحالية جرس إنذار يدعو للبحث عن منهج اقتصادي جديد، يتمثل في نوع من تدخل الدولة لا يصل إلى حد القضاء على الرأسمالية لصالح البيروقراطية. والعالم يبحث الآن عن صيغة تجمع بين وجود الدولة في الاقتصاد والحيلولة دون تحول الرأسمالية إلى «متوحشة» من جهة، والحفاظ على المبادرة الفردية بما لا يسمح بالفوضى الاقتصادية من جهة أخرى.

وعن تأثير الأزمة الحالية على الدول النامية، قال عيسى: هذه الدول لها وضع مختلف، فالرأسمالية التي نشأت فيها على أنقاض القطاع العام أو الاشتراكية هي رأسمالية فوضوية تماما، فهي لا تنمي اقتصادا أو تنتج صناعة، بل تعيش على الإثراء من الملكية العامة للأصول الوطنية وتفتقر للذكاء الاجتماعي، لدرجة أنها تترك المجتمع يتدهور بما لا يخدم مصالحها، ويصبح المطلوب الآن البحث عن صيغة مختلفة، تضمن التوزيع العادل للدخل القومي بما يحقق العدالة الاجتماعية وتحقيق تنمية مستدامة تحافظ على اقتصاد هذه الدول.

الباحث والمترجم شوقي جلال أكد أن الأزمة الاقتصادية الحالية هي صورة من التطبيق العملي الصريح للعولمة، وان العالم يعاني الآن من فراغ فكري ويحتاج إلى إطار فكري جديد بعد انتهاء الفكر التقليدي بفعل الأزمة الحالية. وأوضح أن هذه الأزمة لا بد أن تكون حافزا للبشر للتفكير في طرق جديدة لبناء حياة اجتماعية قائمة على العدل والمساواة، فالعدالة الاجتماعية هي محور أي تغيير، من خلال ضمان التنمية المستمرة للبشر دون الافتئات على فئة لصالح الأخرى، وهو ما قامت به العولمة الأميركية عبر سياسة هيمنة الشركات.

وعن موقف الدول النامية ومستقبلها على خلفية هذه الأزمة أوضح جلال: أن هناك دولا لديها فكر جديد بالفعل ولا ينقصها سوى تفعيله عبر المثقفين والمفكرين والعلماء، وهذه الدول مثل الهند والصين وماليزيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، تستطيع تفعيل هذا الفكر ودعمه بصور شتى ليصبح برنامجا ومنهج حياة، قابلا للحذف والإضافة حسبما تقتضيه الظروف والمصلحة الوطنية.

وأشار جلال إلى وجود إطار فكري يدعو لتغيير وجهة النظر التي نفسر العالم من خلالها قائلا: العالم في طريقه إلى رفض كل سياسات الهيمنة، وهو مطالب باستيعاب التحولات التي تجري فيه ثم بناء نسق جديد يهديه ويوجهه، وهذا طبعا سيخلق نوعا من الصراع بين المصالح المتعارضة: الشركات، أصحاب رؤوس الأموال، القوى العاملة، ولا استبعد أن تظهر طبقة قوى عاملة من أصحاب الياقات البيضاء، فهناك بنية هيكلية جديدة للعالم وكل شيء وارد فيها والرهان يبقى على التنبؤ بالمستقبل، وكيف سيتم الاختيار وعلى أي أساس، مع ملاحظة أن الدول المقهورة لن يكون لها أي دور وستخضع للقوى العالمية.